آيةُ ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
إن العبودية لله لهي من شأن ذوي الاستعدادات والقدرات الكبيرة، والفردُ لا يستطيع بمفردِهِ أن يقوم بعبوديةٍ تُناسِب عظمة الله إلا ضمن مجموعةٍ يَعتمدُ هو عليها ويتقوى بها.
إن العبد الذي يحسُّ بعجزه وفقره في حالةٍ كهذه بعدما قال ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وحصر طلبَ المعونةِ في الله تعالى وهو يأمل المددَ الإلهيّ منه لا من أحدٍ سواه، لكنه لا يعلم ما هو الأفضل له، فإن الله يُعلِّمه ما ينبغي له أن يطلبه أوَّلًا، ويأمرُه بأن يقول: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، إذ الإنسان لن يستطيعَ أن يُنظِّمَ حياتَهُ الفرديّة والروحية، ولا العائليّة والاجتماعية من دون هداية الحقّ .
فتحليل روح الإنسان ودراستُه بكل جوانبه الإيجابية منها والسلبية، إذا قمتَ بهما حسبَ المعايير البشريّة، فهذا سيؤدّيك إلى نتائج خاطئة ألبتّة؛ وإذا قمت بهما حسب المعايير الإلهيّة فإن الحقيقة ستنجلي وتُدرَك، وستنكشف جوانبُ الروح الخفيّةُ فتصبحُ كأنها في وَضَحِ النهار.
وكذلك لا بدَّ أن تؤسَّسَ البنيةُ العائليّة وتنظَّمَ حسب المبادئ الإلهية؛ فكلُّنا يشاهِدُ ما أدَّت إليه الأفكارُ والفرضيّات التي تُخالف هذه المبادئ.
والمجتمع الحقيقيّ -بكلِّ معنى الكلمة- لا يمكِنُ أن يوسَّسَ إلا في إطارِ المبادئِ والمعاييرِ الإلهيّة؛ لأن الاتّفاق إنما يتأتّى من الهدى، وأما غير ذلك من الاتفاقات فما هي إلا اتفاقات ليس لها مستقبل واعد، بل هي في الحقيقة اختلافاتٌ خفيّة رهيبةٌ، والذي أُسِّسَ على هذه الاختلافات لا يمكن أن يُسمَّى “مجتمعًا”.
فهداية الله أمر ضروري لإزالة أنواع الخلل هذه، وللكشف عن الأنسب، ولذلك نطلب من الحق أن يهدينا إلى أقوم الطرق فنقول: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
أ. ماهية الهداية
الهداية هي تلبية الله حاجاتِ الإنسان الضعيف الفقير الذي يحتاج إلى أشياء كثيرة، بحيث تغطِّي كلّ حاجاته، و”اهدِ” في العربية صيغةُ طَلَبٍ للمخاطَب، وهذه الصيغةُ إذا وردت من الأعلى فهي أمرٌ يُجبِرُ المخاطبَ على الفعلِ والتنفيذِ، وإذا وردت من الأدنى فهي دعاءٌ، وإذا وردت من النِّدِّ للنِّدِّ تُسَمَّى “الْتِماسًا”.
وكلمة “اهْدِ”في موقِعِها هنا إنما هي مِنَ النوع الثاني؛ فهي تضرُّعٌ ودعاءٌ من الأدنى إلى الأجلِّ الأعلى.
والهداية هي الدلالة على المقصود، فنحن نسأل الله أن يُعِينَنَا، ويدلَّنا على الطريق الصحيحِ، ويأخذَ بأيدينا ويلطفَ بنا، ولا يَكِلنا إلى نَزَواتِنَا وأحاسيسِنا طرفةَ عين، ولا يُطغينا ولا يُضِلّنا ولا يتركَ لنا فرصةً سانحةً لأن نَضِلَّ أو نَطغَى، فهذا هو ما يسمّيه المفسِّرون “الدلالةَ الموصلة”.
ب. أنواع الهداية
إن كلمة “الهداية” تُستَعْمَلُ في اللغة العربيّةِ متعدِّيَةً ولازمةً، وفي هذا نكتةٌ لطيفةٌ ترمزُ إلى أن الهداية نوعان: ما يكون بالواسطة، وما يكون بدون واسطة؛ فأحيانًا ما تكون كلّ الوسائل والوسائط متأتّية جاهزة، ولكن الإنسان لا يحرزُ الهدايةَ؛ في حين أنه قد يمكن أحيانًا إحرازُ الهداية في ظروفٍ غير متلائمةٍ بالمرّة.
فابنُ سيدنا نوح u لم يكن له نصيب من الهداية مع أنه وُلد وترعرع تحت رعايةِ نبيٍّ من أنبياء الله، وهذا بينما تربّى سيدنا إبراهيم u في بيت “آزر”، وموسى في قصرِ “فرعون”.
فهذه الأمور تُبين لنا الهدايةَ بنوعيها؛ فإن الله ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ (سورة الرُّومِ: 30/19).
إن الله هدانا، وهدايتُه على أنواع شتّى، فبادئ ذي بدءٍ لقد منحَنَا ما تتطلَّبه إراداتُنا الروحانية والجسمانية. نعم، توجد بين جنبينا إرادةٌ روحانيّة وإرادة جسمانية، إذ إننا نتكوَّن من روحٍ وجسمٍ، وكلٌّ منهما من عالَمين مختلِفَين، ولكلٍّ منهما مطلبٌ وميزةٌ تخصّه، وإنهما إنما يجتمِعان بهداية الله، ولا يجد الإنسانُ الطريقَ إلى السكينة والسعادةِ إلا باجتماع هذه الأمور وانسجامِها.
واللهُ يهدي الإنسان فيجمع بين قوَّتِهِ العقليّة وقوَّتِهِ الطبيعيّة، وإلا لطغى العقلُ؛ فكم من عاقل سليم في محاكماته العقلية لا يعرف الله ولا رسوله ولا كتابه، ويتقلّب متنقِّلًا من فرعونيّةٍ إلى أخرى، وأما الذين هدى الله عقلَهم فليسوا كذلك، فالهدايةُ بالنسبة إليهم هي أن يوصِلَ اللهُ عقلَهم إلى ما خُلق له.
ولنا جانب آخر يتعلّق بالطبيعة، قد هدى اللهُ هذا الجانبَ أيضًا إلى غايَتِهِ، فلم يجعلنا مثل الحيوان والنبات، وهذا نوعٌ آخر من هداية الله.
ومن ضروبِ الهدايةِ ما ساقه الله جلَّ جلاله لنا من التفريق بين الحقِّ والباطل، وقولُه تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (سورة البَلَدِ: 90/10) يُبيِّنُ أنه قد مَيَّز الحقَّ عن الباطل والصلاحَ عن الفساد والخيرَ عن الشرِّ بوضوحٍ وجلاء، وبيَّن السبيل إلى الأمرين، فقد تحقَّقت الهداية به.
وإنزالُ الكتب وإرسال الرسل أيضًا من أشكال الهداية، وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/9) وقولُه: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/73)، يدلَّان على أن الرسل والكتب من وسائل الهداية.
فمِن كل ما سبق نفهم أننا مُنِحْنا أنواعَ الهداية الإلهيَّة في كلِّ مرحلةٍ من مراحِلِ رحلتِنا في عالم الأرواح، وعالم الذرات، وعالم الإنسانية، فَمِن الحقيقِ بنا أن نقفَ عند هذه النقطةِ ونقول: “إن هدايةَ الله في حقِّ الإنسان مستمرّة لا نهايةَ ولا حدودَ لها.
والوحيُ والإلهام وحلُّ رموز الأسرار، وظهورُ حقائق الأشياء، وإبلاغُ بعض الأمور عن طريق الرؤى الصادقة…إلخ كلُّ ذلك من أنواع الهداية، ولكن هذه الأنواع تخصّ بعضَ الناس دون بعضٍ.
فنحن إذ نقولُ: ﴿اِهْدِنَا﴾ سنستوعِبُ هذه المعاني كلّها وسنحاوِلُ أن نفهمَ الهدايةَ بكلِّ ما تعنيه، وسنستَشْعِرُ مدى عظمةِ لطفِ الله بنا ونعمتِه علينا؛ حيث إنه في ضمن تربِيَتِهِ التي شملت كلَّ الموجودات، هدانا من بين العديد من الطرقِ الملتويةِ والمعوجّة المنحرِفة إلى طريق الإسلام الذي هو الطريق الصحيح.
نعم، فنحن مَرَرْنا ببرازخَ وعقباتٍ كثيرة بدءًا من عالَـمِ الذرّات، إلى عالم الحيوانات، إلى أن وَصَلْنا إلى عالَـمِ الإنسانيّة، لكن لم يكن لنا أيُّ دخلٍ ودورٍ حينما كنّا نـمرُّ بكلِّ ذلك، وكنّا دائمًا على الهداية، وفي حين أن هناك ملايينَ من بني الإنسان مـمّن هم أعقلُ منّا وأكثرُ استعدادًا وقابليّةً، ولكنهم يتخبَّطون في الضلالاتِ، إذا بنا وقد تَداركَنَا نوعٌ آخر من الهداية، فتَشَرَّفْنا بدين الإسلام، وصرنا أمةً لسيدنا محمد r الذي هو أشرف المخلوقات.
فنحن بدورنا نقدم له تعالى الحمدَ، ونسبحُه مقابلَ هذه وغيرها من أنواع الهداية اللانهائية.
ج. كلمةُ ﴿الصِّرَاطَ﴾
وردت كلمة “الصراط” هنا مُــعَـرَّفة باللام، وهذا يفيد أن الصراط الذي نطلبُ الهداية إليه صراطٌ معهودٌ معلومٌ، أي اهدِنا ذلك الصراط المعلومَ الذي سار عليه مِن قَبْلنا آلافُ الأنبياء وملايينُ من أوليائك الصالحين، فهذا الصراط هو طريقٌ معلومٌ يَعرف الجميعُ المقصودَ منه، وشارعٌ واسعٌ يستطيع كلُّ أحدٍ أن يسلُكَه.
والصادُ في كلمة “الصراط” أصلُهُ السين، ولكنّها قُلِبَتْ صادًا لتُجَانِسَ الطاءَ في الإطباق، وكتبوه بالصاد في المصحفِ الإمام (مصحفِ سيدنا عثمان رضي الله عنه الذي كتبه للناس واعتُمِدَ كنسخَةٍ أمٍّ).
إن طلبَ الهداية إلى الصراط المستقيم في الآية يذكّرنا بوجودِ طُرُقٍ أخرى ضيِّقةٍ أو واسعة وبصعودها ونزولها، ويُذكِّرنا أيضًا بالصراط ذلك الجسرُ الممدودُ على متنِ جهنَّم، والذي لا بدَّ لمن يريد دخولَ الجنّة من أن يمرَّ بِـهِ.
وقد يكون من المفيدِ أن نستطرِدَ قليلًا فنقول: لا بدَّ لِفَهْمِ معاني القرآن الكريم فهمًا تامًّا من فهمِ المفردات القرآنيّة والمعاني الجانبيّة لهذه المفردات بالإضافة إلى ما تَرمز إليه من المعاني، فإذا تَحقَّق فهمُ هذه الأمور، أصبحتْ كلُّ آيةٍ من آيات كلام الله تعالى كأنها منظومةٌ سماويّة أو نجمةٌ تغمز لنا بطرْف العين، فإذا كان سيدنا أبو بكر يقرؤه إلى وقت الفجر وهو يَذْرِف الدموع، وإذا كان سيدنا عكرمة بن أبي جهل يضعُ القرآن على وجهِهِ وعينيه ويُبدي احترامه وتبجيلَه للقرآن في أنينٍ وحنينٍ قائلًا: “كتاب ربي، كتابُ ربّي”… فإنه ليسَ من الصحيحِ أن يُحمَل كلُّ ذلك على أنه تعظيمٌ لمجرَّدِ الظَّرف، بل لا بدَّ من أن يُناطَ ذلك بما في كلمات القرآن من العمق، وما في معانيها من السعة والشمولِ، وباعتبار أنه “كلام الله” .
إن الله “حكيم”؛ فكما أنه خلقَ الكون بالحكمةِ، ووضعَ في كلِّ شيءٍ آلافًا من الحِكَمِ، فلا بدَّ من أن كلَّ كلمةٍ من كلمات كتابه تنطوي على معانٍ عدّة وحِكَمٍ شتى، فهو يقول: ﴿حم $ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (سورة الْجَاثِيَةِ: 45/1-2)، يعني -والله أعلم- تَـــنَـبَّـهُوا! فإني سأحدِّثكم عن أمرٍ ذي أسرارٍ غامضة؛ إن هذا القرآن قد نزل من عند الله الذي هو العزيز الحكيم”، فمن الحقيق إذًا أن يتعمَّقَ الإنسان في كلام الله ويبحثَ عن الحِكَمِ المكنونةِ فيه دائمًا.
ففيما نحن فيه من الآية الكريمة يَرِد تعبيرُ “الصراط” في حين أن هناك في اللغة العربية كلماتٍ مرادِفةً لها مثل: السبيل، الطريق، النهج، وغيرها… فلِماذا اختيرت كلمةُ: “الصراط”؟ وكذلك الأمرُ في: “المستقيم”؛ حيث نلاحظُ أنها فُضِّلَتْ على سائرِ الكلماتِ المرادِفَةِ لها، فلا بدَّ لنا من أن نفهمَ السببَ وراءَ اختيارِ “الله الحكيم” لهذه الكلمات بالذات في كتابه المشحون بـ”الحكمة”، حتى ندركَ المرادَ الإلهيّ.
فالقرآن الكريم حينما يُعَبِّرُ عن أمرٍ ما بأيَّةِ كلمةٍ، فتلك الكلمةُ لها معنى باعتبار سياقِها الذي وردت فيهِ، بالإضافة إلى معانيها الكثيرة الأخرى التي تنطوي هي عليها، فأحيانًا نُضطَرُّ إلى حملِها على معنًى خاصٍّ من معانيها، وأحيانًا أُخرى إلى تناولِها بكلِّ معانيها، فحينما نقول: “الصراط المستقيم” فعلينا أن نتبيَّن كيف نتعاملُ مع معاني كلمات هذا التركيب، فإذا فهِمْنا ذلكَ فإننا سنرى أن عبوديَّتَنا لله، وطلبَنا الهدايةَ منه، وعيشَنا على هيئةِ الجماعة، وغيرِ ذلك من النِّعَمِ…كلّ هذه الأمور تستندُ إلى آيات القرآن الحكيم.
د. الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم
إننا نلاحظُ في تفسير “الصراط المستقيم” معاني كثيرة منها: الطريق الوسط، الطريق الحقّ، الإسلام، طريق الرسول وأصحابِه، طريق الجنة، الجسر الممدود على متنِ جهنم…
ومنها: القرآن، فقد روى الترمذي بسَنَدِهِ عن علي بن أبي طالب أنه سمع رسولَ الله ذَكَرَ القرآنَ وقال: “هُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ”[1].
فبناءً على هذا يكون القارئ كأنه يقول: اللهم اهدني إلى كتابك، ووفقني إلى فهمِ مقاصِدِهِ، فأنتهج نهجَه.
ونستنتج من هذا أن “الصراط المستقيم” حبلٌ نورانيٌّ أتانا من الله العزيز الحكيم، أي إنه حبلٌ ممدودٌ إلى أيدينا من عالم الغيب؛ إذا تَمسَّكْـنا به حظينا بالسعادة، وارتقينا إلى سماء الإنسانيّة، وحصلنا على الرشد الإنساني. أجل، القرآنُ هو الصراط المستقيم، به يتيسر للإنسان فهمُ المقاصدِ الإلهية، والتحرُّكُ حسب مقتضاها، والفوزُ بدخول الجنة بلطف الله.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد عن النَّوَّاس بن سَمْعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: “ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اُدْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تَتَفَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الإنسان أن يفتحَ شيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ.. فالصِّرَاطُ: اَلْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ تَعَالَى، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ تَعَالَى، وَذٰلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ U، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ (أي الوجدان)”[2].
إن الوجدان الإنسانـيَّ يَرى ما في ماهيّة الأمور التي حرَّمها الله من القبح، فيَعافُها، ولا يَشعر بمدى ما يعانيه القلبُ الكافرُ في دواخِلِهِ من القلقِ والألَـمِ إلا هذا الوجدان. نعم، إن الإنسان حينما يُطِلُّ برأسِهِ نحوَ الضلالِ والكفرِ إذا به يسمعُ صوتَ الأنين الذي يُطلِقه الوجدانُ، فعليكم أن تستمعوا -من جانبٍ- إلى نداء القرآن الكريم، وأن تُصغوا -من جانب آخر- إلى وجدانكم، وتحاولوا السيرَ تحت ضوءِ القرآن في هذا الصراط الذي ضربَ الله لكم به مثلًا، من دون أن تنحرفوا يمنةً أو يسرةً، ومن دون أن تُطِلُّوا برؤوسِكم وتخرجوها من الأبواب التي تنفتح على الحرام، ومن دون أن تزيحوا الأستار التي أَسدَلَـها الله، ومن غير أن تحوموا حول الحِمى المحرّمة.
ويُفهَم من هذه الأحاديث الشريفة التي سردناها آنفًا أنّنا حينما نُطلِقُ مصطَلَحَ “الصراط المستقيم” فإن ما نقصدُهُ منه ليس إلا معنًى من معانيهِ.
وإنَّ مِن معاني “الصراط المستقيم”: الطريق المتَّزِن المعتدل البعيد عن الإفراط والتفريط.
وإن بدا في الظاهر أن الصراط المستقيم يحتمل معاني مختلفة، لكن الحقيقة أنها ليست مختلفةً متنافرة، وغايةُ ما في الأمر أن هناك إطلاقًا وتقييدًا، أو تعميمًا وتخصيصًا بين المعاني، إذ إن “الصراط المستقيم” هو الطريق القويم، والإسلامُ هو في حدِّ ذاته الطريقُ القويم، وهو مصونٌ عن الإفراطِ والتفريطِ، لأنه عبارة عن مجموع القوانين الإلهية، ومصدَرُهُ الأصلُ هو القرآن الكريم…
إن الصراط المستقيم هو الجادة الكبرى يستطيع كلُ واحد أن يسلكه.. ومن جانب آخر هو معنى وجدانيٌّ؛ إنه طريق علميٌّ وعمليٌّ، نظريٌّ وتطبيقيٌّ يؤدي بأفكارنا وميولنا إلى الخير الذي نحتاج إليه ويتطلَّبُهُ طَبْعُنا.
عندما نقول ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نكون قد طلبنا منه سبحانه معونةً مطلَقَةً، حيث إن المعاني التي تدورُ في خَلَدِ الإنسان مجرَّدَةٌ، وفي ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يتحوَّلُ الـمُـجَرَّدُ إلى أمرٍ مشخَّصٍ، ومن وراء هذا التعبير المشخَّص طلبٌ كالتالي: اللهم وأوصِلْنا بأفكارِنا ومشاعِرِنا إلى أفضلِ آمالِنا وأكثرِها خيرًا، وبلِّغْنا إلى بغيتنا عِلمًا وعَملًا، ولا تُعثِّرنا في حياتنا الدنيا، وارزقنا الثباتَ والدوامَ على نهج الاستقامة الذي يبلّغنا إلى رضاك.
ومن له أدنى نصيب من البلاغة والأدب يتذوَّقُ ما بين هاتين الآيتين من التناغم والانسجام، ويشعرُ في روحِهِ بِسَكِينَةٍ عميقةٍ، وفي ضوء هذه السكينة يدرِك الماهيةَ الحقيقية للدعاء والتضرّع.
والحقيقة أن أيَّ طريقٍ ينتهي إلى الله، إما إلى رضاه وإما إلى غضبه، فهناك طريقٌ يَشرَب سالكُه الخمرَ، وآخر يزني سالكُه، وطريقٌ آخر سالكُه يقتل الناس، وثمة طرقٌ أخرى يقوم سالكوها بالأعمال الصالحة، فهذه الطرق بعضُها يؤدي بسالكه إلى غضب الله وسخطِه، وبعضُها يؤدِّي إلى رضاه عزَّ وجلَّ، وهذا كلُّه من سُنَنِ الله.
في الكون سننٌ وقوانين وضعها الله، إلا أنها قد تُسند إلى مواضعها، أو كيفيةِ وضعِها، أو تسمى باسم الشيء أو الحادثة التي تتعلَّقُ بها، ومن الناس من ينسب هذه القونين إلى الذين اكتشفوها كأنهم واضعوها، والحال أن كلَّ الكائنات وكلَّ القوانين الجارية في الكون تشهدُ أن الواضعَ والموجِدَ الحقيقيَّ لكلِّ شيءٍ هو الله وحده ، ولا يمكن بتاتًا أن يُسمَّى مَن أخبَر بوجود هذه القوانين “مُوجِدًا”؛ فهذا خطأٌ فادحٌ، والحقُّ أنه لا يسمَّى “مكتَشِفًا” أيضًا؛ لأنَّ الذي وفقه إلى هذا الاكتشاف هو الله، ولكنْ إن كان لا بدَّ أن يُسمَّى بشيءٍ، فأخفُّ الأخطاء وأهونها وأقربُها إلى الصواب هو أن يسمَّى “مُكتَشِفًا”؛ لأن الذي وَضَع الكون على هيئةِ مَصنعٍ، وسيَّره وأعملَهُ في انتظامٍ دقيقٍ كالساعةِ، والذي وضعَ هذا الطريقَ الذي يمتدُّ إلى الموت وإلى القيامة هو الله .
فلماذا يموت الإنسان الذي قُطع رأسه؟ لأن هذه سنة الله وقانونُهُ، والقانونُ مبدؤُهُ من الله، ونهايتُهُ إلى الله، فالصلاةُ والصدقةُ وأعمالُ البِرِّ كلُّها تؤدِّي إلى رضى الله، والسيئاتُ تؤدّي إلى سخطِ الله، وهذه سنَّةُ الله، فنحن نشاهد في الدنيا الخيرَ والشر، والحَسَن والقبيح، والأمور التي تؤدِّي إلى سعادة الإنسان وفرحِه متداخلةٌ متشابكةٌ مع ما يتسبَّبُ في اشمئزازه وحُزْنِهِ، فهي متشابكةٌ بعضُها إلى جانب بعض، ونلاحظ أن وراءَ هذه الأمور المتداخلة تَصَرُّفَ الله .
أجل، إن القوانين وُضعت من قِبَلِ الله تعالى، وبذلك نصلُ إلى النتيجة التالية: إن بجانبِ كلِّ خيرٍ شرًّا، وبجانب كلِّ شرٍّ خيرًا، وفي كثيرٍ من الأحيانِ نرى أن ما نسمِّيهِ خيرًا يستندُ إلى شيءٍ نسمّيه شرًّا، وما نسمِّيه شرًّا قد نجده مستندًا إلى خير، والذي وَضع هذه القوانين التي تَداخَلَ فيها الخيرُ والشرُّ هو الله.
واللهُ تعالى يقول: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ (سورة الصَّافَّاتِ: 37/23)، في الآية دلالة واضحة على أن “الهداية” قد تكون إلى شرِّ، لذا نطلبُ من الله أن يهدينا إلى الخير المطلَقِ، ونلتمسُ منه أن يوصلنا إلى مقصودنا، وإلا فإذا لم يكن في نهاية الطريق خيرٌ، ولم تكن نتيجة هذا الخير هي رضا الله تعالى، فذلك نقمةٌ لا نعمة، ومن يسلك ذلك الطريق يتعرض لمصائبَ لا حصرَ لها.
هـ. روح الإنسانِ والصراطُ المستقيم
إن البنيةَ المادِّيَّةَ للإنسان تتكوَّن من عناصر مختلفة، فمِن بين هذه العناصرِ ما هو محبوبٌ لدى طبيعةِ الإنسان وما لا تألَفُهُ طبيعة الإنسان بل تعافُهُ، ولكن لكل واحدةٍ منها حكمةٌ وغاية معيَّنة، وحدوثُ أيِّ نقصٍ منها يؤدِّي إلى ضعفٍ في بنية الإنسان، ولكن كما قلنا آنفًا قد تكون هذه المادَّةُ التي لها أهمّيّة بهذا المستوى مقززة ومُعافة بالنسبة للطبيعة الإنسانيّة.
فكما أن الجانبَ المادِّيَّ للإنسان بهذا الشكل؛ كذلك الجانبُ المعنوي والروحيّ؛ فمِن بين الأحاسيس والمشاعر التي تشَكِّل جانبًا من الإنسانِ أنواعٌ ممقوتَةٌ ظاهرًا ومثيرةٌ للغَثَيَان؛ فالشهوةُ والغضبُ وغيرُها قد تبدو شرًّا وتُقْلِقُ البالَ، والحالُ أنها عبارةٌ عن أنواع من الشرور تخلْخَلَتْ بين الجوانب الخيِّرة، وهي أدواتٌ ضروريّةٌ للمسير في الطريق ضمنَ دائرة السُّنَنِ الكونيّة التي وضَعَهَا الله تعالى؛ حيث إن المسير سيتحقَّقُ بهذه الأمورِ؛ فإن كان السيرُ متوجِّهًا إلى الخير فسيسيرُ السالكُ بها نحو رضا الله، وإن كان متوجِّهًا إلى الشرِّ فنحوَ غضبِهِ .
واللهُ مَنحَ الإنسانَ حِسَّ الشهوة؛ به يميل الرجل إلى المرأة والمرأةُ إلى الرجل، وكذلك حسَّ التملُّكِ والمحبة والغضبِ، ومنحه أيضًا العقلَ الذي إذا أُسيءَ استخدامُهُ أدَّى إلى انحرافِ الملايين من الناس.
فالله هو الذي مَنح الإنسانَ كلَّ هذه الأمور، والإنسانُ يستطيعُ أن يَستخدمَ كلًّا منها في الخير والشرّ، وقد أُعطيت الحيواناتُ أيضًا قسمًا من هذه الأحاسيس، إلا أنها مختلفة عن التي يملِكُها الإنسان في الكيفيّة اختلافًا لا يُستهان به؛ لأن هذه الأحاسيس في الإنسان “إنسانيةٌ” وفي الحيوانات “حيوانيّة”، ولم يوضع لما لدى الإنسان مِن حدٍّ، في حين أنها في الحيوانات قد حُدَّتْ بحدودٍ معيَّنَةٍ، ولذلك فمشاعر الإنسان قابلةٌ للإفراط والتفريط.
لو لم يُوْدَع في الإنسان “الشهوة” مثلًا لما رغبَ في الأكلِ والشربِ والنومِ، ولما فكَّرَ في الزواج، حيث لا يشعر بميلٍ نحو الجنس الآخر، ولما حصلَ التناسُلُ والتوالُد، وفي نهاية الأمر لَانْقَرَضَ النوعُ الإنسانيّ.
وهناك إفراط في القوة الشهوية؛ وفي هذه الحالة يكون الإنسان متهوِّرًا عدوانيًّا ينتهكُ الحرمات ولا يقفُ عند حدٍّ، وكما ورد في الحديث الشريف الذي أوردناه آنفًا: يفتحُ النوافذَ المطلَّةَ على الحرام، ويهتك الأستار، ويتخطّى الحدود، ويدخل في دائرةِ الحرام، وينتهكُ حدودَ الله ويدوسُ عليها بِقَدَميهِ.
فـ”الصراط المستقيم” هو الطريق المنزه عن كلِّ هذه الأنواع من الإفراط والتفريط، والذين يجعلون هذا النظام الإلهيَّ دستورًا لهم هم الموصوفون بأنهم أصحاب الصراط المستقيم.
فمَن هؤلاء؟
إن هؤلاء هم عباد الله الذين يكرهونَ الحرامَ ويجتنبونَهُ، ويشتهونَ الحلالَ ويأتونَهُ، وقد يتركون الحلالَ إذا وقعَ في أنفسِهم الشكُّ فيه خوفًا من الوقوعِ في الحرام.
فهؤلاء كما أنهم يسيرون في الطريق الوسطِ في الشهويّات، فكذلك ينتهجونه في سائر المشاعر والأحاسيس.
فالذي لا يثورُ غضبُهُ بل يظلُّ ساكتًا خاملًا أمام انتهاك الأعراضِ والمقدَّساتِ، فهو يعيش حالةً من التفريطِ في مشاعر الغضبِ، في حين أن الذي تثورُ ثائرتُهُ لكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ويُثيرُ زوبعةً كبيرةً تجاهَ كلِّ حادثةٍ؛ فهو على “الإفراط”، أما أصحاب الصراط المستقيم فيَغضبون في الأمور التي تستحقُّ الغضب، ويتحلَّون بالصبر والأناة فيما دونه.
نعم، إنّ حسّ الغضب لو لم يُودَع في الإنسان، لوقع شرٌّ وفساد كبير، فهذا الإحساسُ قد يبدو ظاهره فيه الشرُّ، إلا أن باطنه ينطوي على خيرٍ كثير.
وخيرُ مثالٍ لهذا هو رسول الله:
روى البخاري بسنده عن أنس بن مالك، قَال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.[3]
في حين أننا نراه صلى الله عليه وسلم يزأرُ مثلَ الأُسود إذا انتُهِكَ حقٌّ من حقوق الله، فيَتَّخذ من الأمر موقفًا صارمًا، ولا ينصاعُ لأيِّ محاولةِ إيقافٍ أو شفاعةٍ إلى أن يُحْكَمَ بالحقِّ.
وتفصح سيدتُنا عائشة عن هذه الحقيقة باختصار: “مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ”[4].
ولذلك فإن سلطان الرسل r هو الذي يقول بكلِّ وجدانه وكيانه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ويقول بكل وجدانه: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. نعم، إن الرسول قد صارَ بِكُلِّ ماهيَّتِهِ العُلويّةِ مَظهرًا ومَعكِسًا لهذا الأمر.
أجل، إن أصحاب الصراط المستقيم لا يَثورون غضبًا تجاهَ الأمور الصغيرة التافِهَةِ، ولكنهم لا يظلّون غير مبالين أمام الهجمات التي تستهدف دينَهم وأوطانَهم ومقدَّساتهم، فإذا اختلَّ هذا التوازُنُ وانقلبَ رأسًا على عَقِبٍ، فإنَّ هذا يعني أن أصحابَ الصِّراط المستقيم لم يعُد لهم وجودٌ على الساحة، وليس هناك جماعة منتظِمة تقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وأما من يَظهَرون بمَظهر “الجماعة” فليسوا إلا حشودًا من الناس، وهذا يعني أن تلك الحشود لم تؤمن بعدُ بـ”مالك يوم الدين” الذي يجازي يومئذٍ كلًّا بعمله، وليس لديها معرفة بـ”الرحمن الرحيم” الذي جعلَ وجهَ الأرضِ بِنِعَمِهِ مائدةً لِعِبَادِهِ، وبالتالي فليس لديها علم عن “ربِّ العالمين” الذي يربِّي كلَّ شيءٍ.
والنتيجةُ هي: أن هؤلاء لا يُعتَبَرون مؤمنين بأن الله مهيمنٌ على كلِّ شيء. أجل، إننا نستطيعُ أن نتابعَ كلَّ هذه الأمورِ في الفاتحة واحدةً تلوَ الأخرى، وبشكل تسلسليٍّ، وكأنها كلمةٌ واحدةٌ.
ومن القوَى التي أودِعت في الإنسان “القوَّةُ العقليّة”، فالإفراط في هذه القوّة يؤدِّي إلى الجَدَلِ، وبذلك تُوجَّه حشود الناس وتُجرَف نحو السُّبُلِ الخاطئَةِ، ويُــزَجُّ بالإنسانية في الضلال، وتتدفّقُ سيولٌ من الكَذِبِ، فتنجرِفُ الحشودُ وراءَ هؤلاء من دون شعورٍ وإحساسٍ وكأنها أجسام جامدة هامدة، فالمنطِقُ الذي لم يخضَعْ للتعديلِ منطقٌ يُستَخدَم في الخداع، وأما صاحب المنطق السليم المنصف فيقول: “ضَعُوا قولي على المحكّ؛ فإن ظهر أنه خاطئ أو سيِّءٌ فاضربوا به عرضَ الحائط”، يقول ذلك ويبين للآخرين كيف يُستخدم العقلُ والمنطِقُ، ويوضح الطريق المستقيم لهما.
وهناك بالمقابل تفريط في القوة العقلية، ألا وهو “البَلَه”، أي عدمُ الفهمِ حتى في أبسطِ المسائل وقلَّةُ التعقُّل والخَرَفُ..
أما الاعتدالُ في هذه القوة فهو “الحكمة”، فهي وضعُ كلِّ شيءٍ في موضِعِهِ، فـ”الحكيم” من يستخدمُ عقلَهُ ومنطقَهُ في مكانِهِمَا المناسبِ لهما، إنه لا يَخدع ولا يَغش أحدًا، ولا يُظهِرُ الخيرَ بمظهرِ الشرِّ، ولا الشرَّ بمظهرِ الخيرِ، ويَظهر أمام الآخرين كما هو، وبِفِطْرَتِهِ التي هو عليها.
هذا هو طريق المؤمن، ونحن إذ نقول في اليوم الواحد أربعين مرة: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فإننا نقصد بذلك هذا الطريق الوسط.
و. الصراطُ المستقيمُ والنظرةُ الصحيحةُ إلى الطبيعة
من القوَى التي أودِعت في الإنسان “القوة الطبيعية”. نعم، الإنسانُ ثمرةٌ لشجرة الخلقة التي نسميها: “الطبيعة”، فهو قد نشأ من الطبيعة التي هي مَعرض ومَشهر للصنائع الإلهية.
قد يكون الإنسانُ عابدًا للطبيعة ومؤَلِّهًا لها، ويبحث عن كل شيء فيها، ويربط كلَّ شيءٍ بها لأنها مَنْشَؤه، ويشاهد الكائنات ويقوِّمها بحسب لون النظارة التي يرتديها، ففكرُ المادّية الجدليّة والتاريخية والفكرُ الطبيعيُّ قد نشآ وترعرعا في أحضان هذه الأسس الخادعة، والحقيقةُ أن هذا نوعٌ من أنواعِ الانحراف، صحيح أن الإنسان من حيث إنه انبثق بجانبيه المادي والمعنوي عن هذا العالم، فمن الطبيعي أن يكون متعلّقًا به، ولكن لا بدّ أن يكون على دراية بأن الإفراط في هذا سيؤدّي إلى أضرار؛ فكلُّ التيارات، بدءًا من أقدم الأنظمة الكومونالية، ومنها إلى اليهودية المؤلِّهة للطبيعة، ومنها إلى المادية التاريخية، ومنها إلى الوجودية، وحتى من الطبيعيين الجدد، إلى تأليهِ منتسبي الحزب الأخضر للطبيعة، كل هؤلاء قد انحرفوا نحو الإفراط في أمر الطبيعة وخَلخَلوا الانسجام والموازينَ.
نعم إن هؤلاء قد قالوا: “دعونا نعُدْ إلى الطبيعة، ونعشْ كما يحلو لنا، ولْنعتصِمْ بالفطرة، ونأكلْ أكلًا بسيطًا، ونشربْ شربًا بسيطًا، ونَدَع القوانين السماوية والبشرية، ونتحرر من كل القيود والشروط…”، فانحرفوا بمثل هذه الأقوال والأفكار إلى “طبيعية” مفرطة، وقلبوا العلاقة والتوازن بين الإنسان والطبيعة رأسًا على عقب.
، وبالمقابل هناك تيّارٌ آخر يترُكُ أَتْباعُه الطبيعةَ بالمرة، بمعنى أنهم “ضدّ الطبيعة” تمامًا. نعم، إن الذين يُفكرون على هذا المنوال، سواء كانوا شكوكيّين، أو سوفسطائيّين، أو غموضيّين، هم يكونون منغلقين تجاه الطبيعة والكون، ويتناسون فطرتهم ومَبدَأهم ومَنشأهم، ويعيشون موَلِّين وجوههم عن الوجود والأشياء وجميعِ الشؤون، فهؤلاء مِن حيث إنهم يكونون غير مبالين لقوانين الفطرة التي نشؤوا فيها، قد يأتي يوم يصطدمون فيه بدواليب الفطرة، وينمحون عن الوجود، والحال أن الصانع الأعظم الذي نظَّم كتاب الطبيعة على هيئةِ مصنع وساعة وحَرَّكَهَا، قد وضع مناسبةً بين بني الإنسان والكونِ، ولذلك نقول: إن المنطويَ على نفسِهِ، والهاربَ عن الطبيعة والكونِ يكون قد فرَّط من هذه الناحية.
والواقع أنه في كثيرٍ من الأحيان يُنتج الإفراطُ التفريطَ، كما ينتج التفريطُ الإفراطَ، فقد أنتج تركُ الطبيعة وهجرُها تمامًا، التعلُّقَ بها لدى آخرين بكلِّ ما أوتوا من قوّة، وبهذا الاعتبار نقول: إن كلا من الإفراط والتفريط في تعلق الإنسان بالطبيعة مذمومٌ، وأما الصراطُ المستقيم الوسطُ في هذا الباب -وفي كلِّ مسألةٍ- فهو ما سار عليه الرسول وأصحابه.
لقد فهِمَ سيدُنا عمر موضوعَ الطبيعة فهمًا جيِّدًا، فكان يَعرف كيف تُدار الدولةُ؛ كان عسكريًّا ومجاهدًا، وكان في الوقت نفسِهِ ربانيًّا عابدًا زاهدًا، فهِمَ الدنيا فهمًا صحيحًا، وكان مُطَّلِعًا على طبيعة الأشياء واقفًا عليها، ويُجري معها علاقةً متوازنة، كانَ ذا علاقةٍ وطيدةٍ مع الكون؛ يأكلُ ويشربُ بِقدرِ حاجتِهِ، ويأخذُ حظَّه من الاستراحة، يتزوَّج ويبني أسرة، ولكنه مع ذلك كلِّه لا يجعلُ حياتَهُ البدنيّة مهمتَه الأولى وغايتَه الأساسيةَ، فحينما ذهب لتفقد أحوال أهل ولاية الشام ركبَ راحلةً مستأجَرة، وكان السرجُ الذي على ظهر الراحلة من الخشونة بحيث إنه قد أثَّرَ في سرواله، ولم يكن لدى عمر العظيم خيط يخيطُ به سرواله، فذهب إلى سوق شعبي هناك فاشترى الخيط وتنحَّى جانبًا فخاطَ سروالَهُ بنفسِهِ، ومن المحتمل أنه لم يكن له سروال آخر ليلبسه، مع أنه كان على رأسِ دولةٍ تزيد مساحتُها عن مساحةِ تركيا بعشرين ضعفا.
نعم، إنه كان في أحضان الطبيعة ولكنه لم يكن يتوجَّه نحوها بشكل مبالَغٍ فيه ومتجاوِزٍ للحدِّ، ولم يكن في الوقت نفسِهِ في زهدٍ غير متوازن بحيث يترك الطبيعة ويعصي الله ويناطح قوانينه وسننَه، فهؤلاء هم أرباب الصراط المستقيم.
إن الله خلقَ الإنسان ورباه بصفته “التربية” وساقَه نحو الكمال، وتجلَّى بصفة “الرحمة” فرقَّى الإنسانَ برحمانيَّتِه ورحيميَّته إلى مستوى الكمالات الإنسانيّة، فنحن نحسُّ ونشعر كيف أن الله غمرنا بالرحمة منذ أن كنّا أجنّة في بطون أمهاتنا إلى أن نكبُر ونترعرع، ونلمسُ كيف أنه يقدم لنا على مائدة الأرض التي كأنها مأدبةُ ضيافةٍ أنواعًا وألوانًا من النِّعَمِ والآلاء، وكيف أنه بما أنعم علينا من الفواكه التي تُطِلُّ برأسِها من فوق الأشجار يَلفِت أنظارَنا إلى نِعَمِ الجنة، فنستشعر بكلّ هذا أننا سنحاسَب مِن قِبل “رب العالمين”، فنلجأ إلى “مالك يوم الدين” ونطلبُ منه الهداية.
ز. التنوُّع في طلب الهداية
إن طلبَ الهداية لا بدَّ أن يكون جامعًا دائمًا لكلِّ أنواعِ الهداية.
ما الذي يعنيه طلبُ الهداية بالنسبة لجماعةٍ اصطفَّت خلفَ الإمام، وتوجهتْ نحو الكعبة، وجددتْ بيعتَها متصوِّرةً بخيالها كأنها واقفة خلف النبي؟ نعم، ما المقصود بطلب الهداية بالنسبة لجماعة اتَّبعت النبيَّ بكل مشاعرها وكيانها، أَلسنا على الهداية؟ ألم نصطفَّ خلف الرسول وأَلَمْ نولِّ وجوَهنا شطرَ المسجد الحرام؟ ألم نعلن على الملإ أننا نؤمن برب العالمين إذ قلنا: ﴿اَلْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؟!
نعم، قد فَعَلْنا كل ذلك، ولكن لماذا نطلبُ الهداية مع كلِّ ذلك ونقولُ: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، وكنْ رفيقنا في الدرب، واذهبْ بنا إلى آخر المراحل؟
فيُفهم من هذا أن كلمةَ الهداية لها معنى آخَرُ غير المعنى الظاهري، أو أن للهداية أنواع ومستويات؛ أوّلها التخلُّص من الكفرِ إلى الإيمانِ، والضالُّون حينما يقولون: “اهدِنا” فإنهم يطلُبُون التخلُّص من ضلالِـهِم، وأما الذين آمنوا إيمانًا تقليديًّا فيقصدون بذلك: “اللهم خلِّصْنا من التقليدِ، واسقِنا شرابَ التحقيق الذي هو ماءُ الحياة، وأَطْلِعنا على حقائقِ الأشياء”، فهؤلاء يطلبُون كمالَ الهداية التي نالوها، وأما الكاملون، فإنهم إذ يقولون: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فإنهم يعنون بذلك: “اللهم أَدِمْ علينا هدايتك، وارزقْنا القيامَ بحقِّ الأمانة إلى آخرِ لحظةٍ، وإلى أن تبلُغَ الروحُ الحلقومَ، ووفِّقْنا لأداءِ الأمانةِ”.
وقد تخـتَلِجُ في صدورنا أفكارٌ كفريّة فتحيط بأرواحنا، وقد تــتفلَّتُ من ألسنتِنا فتجرح قلوبنا وأفئدتنا، ومَن يدري كم مرة في اليوم الواحد ينحو خيالُنا نحو الفسق فيَجْرفُنا من ورائه؟ ومن يدري كم مِن مرّة تتعلَّق وتتبعثَرُ مشاعرنا العُلْوية/السامية بالكلاليب التي يعلّقها الخيال، فننساق بها هادرين؟ وإذ ننجرفُ وننساقُ؛ نُطفئُ مشاعرَنا العُلْوية ومَلكاتِنا وقابلياتِنا، فالإنسان الذي يكون في حالةٍ كهذه، حينما يردِّدُ في اليوم الواحد أربعين مرة: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، آخِذًا كلَّ هذه الأحوال بعين الاعتبار كأنه يقول: “يا ربِّ! أحمدك لأني على الهداية، وهذا يتطلّب مني إبداء مشاعرِ الشكر والثناء، ولدوام هذه الهداية لا بدَّ لي من النقاء من شتى أنواع الخلل والأدرانِ، وينبغي عليَّ الابتعاد عنها، والحال أنني من بني الإنسان المفطورِ على النسيان، وأكبو وأتعثَّرُ على الدوام، فكذلك أطلبُ منك الهداية في كلِّ دقيقةٍ حتى لا تُغرِقني أخطائي تلك وحتى لا تؤدّيني ذنوبي إلى الكفر”، يقول ذلك ليُزيل ما عَلق بحياته وكيانِه المعنوي وعالمِه الروحيّ والقلبيّ من السخام والصدإِ والغبارِ والترابِ.
فلذلك فإننا نحن المؤمنين ملزَمون ومكلَّفون بأن نقول على الدوام: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
نعم، “الصراط المستقيم” هو الطريق المؤدّي إلى الحقِّ، وقد تكون لطريق الخير منعرَجَاتٌ ومحطَّات بها أنواع من الشرور هي بالمرصاد للإنسان، وخَلْقُ هذه الشرور أيضًا ينطوي على جوانب من الخير؛ لا شيء يخرج من إطار قوانين الله خيرًا كان أو شرًا، وأحد جانبي الصراط المستقيم هو معرفة الشرِّ والحذر والاجتناب منه، والجانب الآخر هو معرفة الخير والتواصي به وتهيئةُ المناخِ لإحياء الخير.
[1] سنن الترمذي، فضائل القرآن، 14.
[2] سنن الترمذي، الأمثال، 1؛ مسند الإمام أحمد، 29/181-182 (واللفظ للمسند).
[3] صحيح البخاري، فرض الخُمُص، 19، الأدب، 68؛ صحيح مسلم، الزكاة، 128.
[4] صحيح مسلم، الفضائل، 79.