سؤال: هل يمكن أن تشرحوا لنا كيف نحافظ على جيلنا ضدّ عمَليات التخريب التي يقوم بها المفسدون؟
الجواب: منذ عهد آدم عليه السلام وحتى اليوم اختار الكفرُ طريق التخريب والهدم، واختار المؤمنون دائمًا طريق البناء والتعمير، واليوم يجري الشيء نفسه، لذا نرى مفكر العصر الأستاذ النُّورسي رحمه الله الذي أحسّ بهذا الهمّ في أعماق قلبه يقول: “لذا فمقاومة خدام القرآن الكريم وحدهم تلك التخريبات المريعة إنما هي عمل خارق جدًا، فلو كانت هاتان القوَّتان المتقابلتان على مستوًى واحدٍ من القوَّةِ؛ لكنتَ ترى في التعمير والبناء -الروحي والأخلاقي- خوارقَ وفتوحاتٍ عظيمة جدًا”[1].
فلا يقوم مَنْ ليس لهم حظٌّ من الإيمان إلّا بعمليات التخريب والتدمير، إذ يقومون باستغلال مشاعر الإنسان وغرائزه لِـجَـرِّهِ وإسقاطِهِ في مستنقَعِ الشهوةِ، ويُثِيرون فيه الرغبات إلى أن يُصبحَ أسيرًا وعبدًا لحياة مادّيّةٍ بَحْتة، ويزيّنون له المنصب والجاه ويُغرّرون الناس، وهكذا تقوم جبهة الكفر بعمليات هدم وتخريبٍ واسعة بوسائل بسيطة، فتغوي أجيالًا من الشباب، ولو كانت الأمور تجري بهذه البساطة لصالح أمّتنا لأُحرزت نجاحات كبيرة بعد كلّ هذه الجهود المبذولة، في حين أننا نقوم بإعادة بناءِ وتعمير قلعة كبيرة جدًّا تهدّمت جدرانُها وحصونها منذ قرون عديدة.
تأملوا، لقد اهتزت قواعد التوحيد في جميع بلدان العالم الإسلامي، وظهر الكفر بالله وإنكاره، وتعرّض الرسول صلى الله عليه وسلم للسخرية والاستهزاء، واستُهين بالدين، وأُهين القرآن الكريم؛ مصدر النور الذي أضاء الكون واعترف أعداؤه بإعجازه، بل فقدَ الدين حتى عند بعض المؤمنين أولويّتَه وثِقَلَه، وتعقّد كلّ شيء… إن الواجبات لَتَتعاظَمُ وتكثرُ في مثل هذا العهد، كما تعظم قيمة تلك الواجبات وأهميتها، وإنَّ سَحْبَ لبنةٍ واحدةٍ من مكانها على يدِ المخرّبين كفيلٌ بسقوطِ وانهيار البناءِ كاملًا، وعند ذلك يجد المسلمون أنفسهم مضطرّين إلى إعادةِ تشْيِيد البناء لبنة لبنة وحجرًا حجرًا مجدّدًا، وحراسةِ الجزء المشيّد من البناية أيضًا، ومما يجبُ علينا ذكرُه هنا أننا نلمس في عَمَلِنا هذا يدَ العناية الربانية، وهذه الأسطر تذكّرني بإحدى ذكريات العالِم “باسْكال”، لقد كان إنسان وَجدٍ وعِشق، ولكنه لم يكن محظوظًا؛ يقول أحد مفكرينا عنه: “إنه أضاع فرصة الركوب على الباخرة الأخيرة ولم يستطع اللحاق بها…”. أجل، لقد اقترب من ميناء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يستطع رميَ نفسه في أحضان ذلك النور، هذا موضوع آخر، وما أريده هنا هو إيراد إحدى ذكرياته لإيضاح مسألة متعلّقة بنا.
يقول باسكال: “كنتُ راكبًا عرَبة يجرّها حصانان، وكانت العربة تسيرُ بمحاذاةِ نهر “السين”، وفجأةً فقدتُ السيطرة على الحصانين، فبدآ بالعدْو نحو النهر بجنون… لم يكن هناك أيّ أملٍ في النجاة، إذ كان مقدّرًا لي أن أسقطَ في النهر، ولكن شيئًا غيرَ متوقَّعٍ حدثَ، إذ انقطعَ الرباط ما بين الحصانين والعربة وسقط الحصانان في النهر، أما أنا فقد تمّ إنقاذي بِيَدَين نورانيّتَين، حيث بقيت أنا والعربة على حافة النهر.”
وبسبب هذه الحادثة عزفَ “باسكال” عن منهجِ حياته السابق المليء باللهو والمجون، وقضى بقية حياته متفرّغًا في الدَّيرِ -كراهبٍ- متأمِّلًا ومتفكِّرًا، أما نحن فقد رأينا هذه الأيدي النورانية مئات المرّات في الحوادث التي جرت معنا، وليست مرّةً واحدةً كما حدث لباسكال؛ لذا فإننا نحمد الله تعالى حمدًا لا نهاية له على نِعَمِه ورعايته.
وبينما يقوم الطرف المعادي بتدمير الشباب بأفلامه ومسرحياته وخَمّاراته وملاهيه الليلية، فإننا نرشد الشباب ونطلب منهم أشياء تبدو في الظاهر صعبة، إذ نقول لهم: “صلّوا وصوموا وضحوا ببعض رغبات أنفسكم، لا تعيشوا لأنفسكم، بل لِمَن حولكم، وضحّوا بأنفسكم من أجل الأجيال القادمة”، ومع كلّ هذه المطالب الصعبة ظاهريًّا نرى إقبال آلاف الشباب علينا، وتمسكهم بإخلاصٍ بمبادئ الإسلام، لقد قلنا قبل سنواتٍ بأن التفكُّك والانهدامَ سيكون مصير الاتحاد السوفيتي والصين، وأصبح هذا من المعلومات الاعتيادية الآن، ومسائل عديدة قيلت في الأمس ولم يفهمها أحدٌ حقَّ الفهم ونراها الآن قد تحققت وأصبحت عينَ اليقين، فهناك تبدّلات وتغيرات مهمة جدًّا نشاهدها حولنا، لقد بدأت الإنسانية تذوب أمام الدين كذوبان الثلج تحتَ أشعّة الشمس المتوهّجة، وبدأت قلعة الكفر تفقد مواقعها في الأماكن المرتفعة منحدِرةً إلى أسفل، أما برج إيماننا فهو يرتفع بسرعةٍ إلى الأعلى.
ولا بدّ أنّ أمورًا كثيرةً ستتغير في السنوات القادمة وسيأخذ العالم الإسلامي موقعَه اللائق به بين الأمم إن شاء الله تعالى.
علينا أن نقوم بما يجب علينا القيام به، أما حفظ أجيال الشباب فهو شأنٌ من شؤونه تعالى، ونحن نأمل من رحمته الواسعة أن يصون هذا الجيل الناشئ الذي صاحبَه منذ نشأته كثيرٌ من الآلام والمعاناة، وألّا يدعَ براعم الأمل فريسةً للوحوش، وفي الواقع لو لم تمتدّ يد عنايته ورحمته لَما كان هذا بمقدورنا. أجل، لقد تفضّل علينا ربنا سبحانه بإحسانه ولطفه، وساقنا إلى مجالاتٍ لا نعرفها أبدًا، وبعد مدةٍ أدركنا أنه كان من الواجب علينا الدخول إلى تلك الساحات، ونحن ندعو الله تعالى أن يديم علينا عنايته ومعونته حتى إنجاز هذا العمل كاملًا غير منقوص، إنه على كل شيء قدير.
[1] بديع الزمان سعيد النُّورسي: سيرة ذاتية، في منفى قسطموني، ص 345.