ثمَّةَ حقيقةٌ عُظمَى ماثلة أمامنا، ألا وهي حقيقة القرآن، ونحن مكلَّفون بواجبات تجاهها، ولكن هذا الواجب لا ينحصر في حفظ المصاحف فقط. نعم، هذا شيءٌ مهمٌّ، ولكن يجب الحفاظ على المظروفِ أكثر من الظرفِ، بمعنى احترام الكنز أكثر من صندوقه، ولن نكون قد أدَّينا واجبَنا حقيقةً في تعظيم القرآن إذا وضعناهُ في غلافٍ وعلَّقناه في أحسن زاويةٍ من زوايا منازلنا… فلو وصلتكم رسالة من السلطان فهل ستقبِّلونها وتضعونها على الرؤوس ثم تحتفظون بها في مكانٍ ما دون اهتمامٍ بمضمونِها، أم أنّكم ستفتحونها بكلِّ اهتمامٍ وتقرؤونها بكلّ دقّةٍ حتى تَطَّلعوا على ما يوجَّه إليكم من الأوامر..!؟
فالله تعالى مَلِكُ الملوك، قد أرسل إليكم رسالة… رسالةً لها أهمية قصوى بالنسبة لكم، وفيها قضايا تتعلق بدنياكم وآخرتكم، فإن أخذتم هذه الرسالة وقبَّلتموها ورفعتموها على هاماتكم ثم وضعتموها على الرفِّ، فهل -يا ترى- ستكونون قد أرْضيتموه..؟!
إن القرآنَ المعجزَ “مرسومٌ سلطانيٌّ”ورسالة إلهيّة أُرسلت تكريمًا وتشريفًا لكم ولطفًا ورأفةً بكم، حتى تُنظِّموا حياتكم في ضوئها، وتصحِّحوا مسارَكم على منوالِها.
والله عز وجل يقول في هذه الرسالة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/70)، لقد كَرَّمَنا اللهُ بالقرآن الكريم، لأنه تعالى يقول في حقِّ الغافلين المحرومين من القرآن: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (سورة الفُرْقَانِ: 25/44)، وهذا يعني أنَّ كونَ أحدِنا إنسانًا بقالَبِهِ وجِسْمِهِ لا يكفي لإحرازِهِ هذه الكرامة، فاهتمامُك بالقرآن المعجِزِ البيانِ سيكون له أكبرُ الأثر لِنيلِكَ إيَّاها.
صدقة الجهر بالقرآن
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اَلْجَاهِرُ بالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بالصَّدَقَةِ” .
كما أنه يُهدَف أحيانًا في إبداء الصدقات والجهرِ بـها تحفيزُ الآخرين وترغيبُهم في الخوض والمشاركةِ في السباق إلى الخير؛ فكذلك يُقصد بالجهر بالقرآن جذبُ اهتمام الآخرين وتشويقُهم إليه.
أن يكونَ أحدُنا إنسانًا بقالَبِهِ وجِسْمِهِ لا يكفي لإحرازِهِ الكرامة الإنسانية، لكن الاهتمام بالقرآن المعجِزِ البيانِ سيكون له أكبرُ الأثر لِنيلِ هذه الكرامة.
وأما الاختلاء بالقرآن في جنح ظلام الليل فهو مثل الإسرار بالصدقة؛ فالمؤمن حينما يظفر بمثل هذا الخفاء، يبحث عن مكانه في القرآن ويحاول أن يجده فيه، فمن الأهمية بمكان بالنسبة للمؤمن أن يبحث لنفسه عن مكان له في القرآن حتى يتخذ موقفه على حسبه، فعمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي وكثيرون غيرهم كانوا يقرؤون القرآن طوال الليالي بهذا الشكل، وبلغوا بهذه الروح إلى أعماق القرآن ومعانيه الحقة.
القرآن وطمأنينة النفس
والقرآن إذا تُلي بأداء جيِّدٍ صادقٍ أضفى الحياةَ على روحِ الإنسان وقلبِهِ وأحاسيسِهِ، وعلى الخصوص إذا استمَعَ الإنسان إلى القرآن متخيِّلًا أنّ دُرَر هذا الكتاب الكريم تتناثر من الفمِ المبارَكِ للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سيجدُ نفسه غارقًا في طمأنينةٍ لا حدَّ لها… وإذا ارتقى درجةً أعلى وتَخيَّل أنه يستمع إلى الفرقان بديعِ البيان من جبريل ــ عليه السلام ـــ لحظةَ نزولهِ بِهِ غضَّا طريًّا من عند الله سبحانه وتعالى، فإن الروحَ عند ذاك ستتنسَّمُ نسائمَ يَعِزُّ وصفُها… وفوق ذلك كلِّه أنْ يتخيلَ الإنسانُ أن ربَّ العزة يخاطبه مباشرةً وأنه يستمع إلى القرآن من المتكلِّم الأزليِّ سبحانه وتعالى الذي هو صاحب هذا الكلام -ولست أدري هل للقلب البشري طاقة لتحمُّل ذلك- فحينئذ ينقلبُ الإنسانُ إلى كائنٍ سماويّ.
ـــــــــــــ
المصدر: من كتاب “خواطر من سورة الفاتحة”