في هذا العالم الفاني كلُّ شيءٍ زائلٌ، والإنسانُ -شأنُه شأن كلّ شيءٍ- عابرٌ لا بقاء له، فالناس يأتون إلى الدنيا واحدًا بعد آخر، ويغادرونها واحدًا بعد آخر.. يتبع الذاهبين من يأتي بعدهم، ثم يلحق بهم آخرون أيضًا، ومن يظنّ نفسه خالدًا هنا، قد يُطرَح خارج هذا العالم في لحظةٍ لم تخطر له على بال، فيبقى من بعده ينظرون إليه في دهشةٍ وحيرة.

فإذا كان انتهاء الطريق لكلّ واحدٍ منّا يقود إلى العالم الآخر، فلا بد إذًا من أن نسعى لأن يكون رحيلنا رحيلًا جميلًا، وطريقُ الرحيل الجميل أن نعيش حياةً جميلةً، ولهذا ينبّهنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “مَنْ ‌مَاتَ ‌عَلَى ‌شَيْءٍ بَعَثَهُ اللهُ عَلَيْهِ”[1].

ينبغي للمؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم لله أن يبحثوا عن سبل تكسب هذا العمر الفاني صفة البقاء، لتخليد هذه الحياة الفانية.

فالإنسان في الآخرة يمضي من حيث أوصلته الطريق التي كان يسلكها في الدنيا؛ إما أن يُدحرج دحرجةً إلى هاويةٍ لا قرار لها، أو يطيرَ محلّقًا نحو القمم.. يُبعث كما مات، ويُحشر على الهيئة التي خرج بها من الدنيا.

وكل واحد منا في هذه الحياة ينسج بإرادته -كما تُمسك الإبرة بالخيط- ثوبَ أبديّته الخاص، وجمالُ ذلك الثوب أو قبحُه إنما يتشكّل وفق نياتنا واختياراتنا وأعمالنا.

إن ما نسمّيه عمرًا ليس إلا حيّزًا قصيرًا من الزمن، فإن لم نُنَمِّ هذا العمرَ القصيرَ بإيماننا وإخلاصنا وأعمالنا، كالحبّة التي تنبت سبع سنابل؛ فهذا يعني أننا قد عشنا حياتَنا عبثًا.

إن هذا العمر القصير لا قيمةَ له إلا إذا كان وسيلةً لكسبِ الحياة الأبدية، وإلا فما فائدته! يجب على الإنسان أن يحوّل عمره الذي بمثابة القطرة إلى بحارٍ شاسعةٍ في الدار الآخرة، وأن يجعل كلَّ ذرّةٍ منه شمسًا مشرقةً، فإذا كان ثمّة إكسيرٌ يحوّل الحياة المحدودة إلى حياةٍ غير محدودة؛ فهو النية والعزم والإصرار على الثبات في طريق العبودية لربنا عز وجل حتى ولو امتد بنا العمر آلاف السنين؛ فإن الإنسان سيُعامَل في الآخرة بحسب قصده ونيته وما كان يجري على لسانه من ذكرٍ في الدنيا، فالعبرة في الآخرة ليست بالعبادة المحدودة في هذه الحياة القصيرة فحسب؛ بل بصفاء النية ونقائها، وإلى مدى ارتباطها برضا الله تعالى.

الفوز الأبدي أو الخسران الأبدي

إنّ من يعيش حياته متوجّهًا إلى الله لا يخسر أبدًا، بل إنه يحوّل البلايا والمصائب التي تبدو وكأنها خسارة إلى ربح ومكسب، لأنه يعلم أن هذه المصائب العابرة هي للتذكير والإنذار، ويرى أنها صفعاتُ شفقةٍ ربانيةٍ، فتتحوّل الشدائد التي تبدو في أول وهلةٍ مريرةً مؤلمةً -بفضل إكسير الصبر- إلى شرابٍ حلو المذاق، فيقابلها بالصبر الجميل الذي يعود عليه بفوائد جمّة في الآخرة، ولذا تجده لا يتزعزع عند الصدمة الأولى، ويتوجّه إلى الباب الذي ينبغي أن يتوجّه إليه، وينتظر من الله فقط العون والمدد ويجعل ما يصيبه من ظلمٍ أو قهرٍ أو ابتلاءٍ سلّمًا يرتقي به، فيحلّق بواسطته كالحمام الزاجل نحو القمم، ويُظهر أمام الشدائد من التسليم لله ما يغنيه حتى عن تسليات الناس العابرة، فلا يحتاج إلى عزاء من أحد ما دام قلبه موصولًا بالله.

إنّ مثل هذا الشخص لا يتعلّق بالدنيا، ولا يسعى وراءها، ولا يجعلها قِبلةً له.. قد تأتي الدنيا خلفه، ولكنها لا تضره.. ومثلُ هذا المؤمن الذي وهبَ قلبه لله يعرف كيف يستثمر الدنيا من أجل الآخرة، فهو يعمل على كسب الدار الآخرة بما أسبغ الله عليه من نِعمٍ في الدنيا، لا تأخذ مفاتنُ الدنيا حيزًا في قلبه، بل يردّ كلَّ ما يأتيه من الله إليه مرة أخرى، دون أن يجد في نفسه ألمًا أو حرجًا من ذلك.

الدنيا دارُ ضيافةٍ مؤقّتة، ونحن فيها ضيوفٌ عابرون.

وهذا حاله يشبه حال من قدّموا كل ما يملكون بين يدي رسول الله ﷺ؛ كأبي بكر الصدّيق الذي جاء بماله كله، وكعثمان بن عفان الذي أنفق خمسمائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.. همُّه الوحيدُ هو هل حاز القبولَ عند الله أم لا؟!

أما أولئك الذين يتشبّثون بالدنيا تشبّث العابد بمعبوده، والذين يريدون أن يحصدوا ثمرات كلّ ما زرعوه في هذه الحياة العاجلة، فإنهم -من حيث لا يشعرون- يصيرون هم أنفسهم حصادًا للدنيا.

أما أولئك الذين يلهثون وراء الثروة مثل قارون، أو يتكبّرون مثل فرعون؛ فقد تعلّقوا بالدنيا بأيديهم وأفئدتهم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحولوا دون زوال ما بأيديهم من قوّةٍ وملك، فكم من طغاةٍ كفرعون والنمرود استحوذوا على القوّة والسلطان، ولكنّهم تدحرجوا في نهاية المطاف إلى هوّةٍ سحيقةٍ وهلكوا، وكما لم يستطيعوا أن يخلدوا في هذه الدنيا، فقد انهارت كلّ النظم التي أقاموها -بظلمهم وبغيهم- انهيارًا مدوّيًا؛ لأنها بُنيت على قواعد فانيةٍ لا ثباتَ ولا أساسَ لها.

إنّ من يعيش حياته متوجّهًا إلى الله لا يخسر أبدًا، بل إنه يحوّل البلايا والمصائب التي تبدو وكأنها خسارة إلى ربح ومكسب.

وبعد أن اندثرت، لم يحفظ حتى أتباعهم ذكراهم، بل هدموا تماثيلهم، ومحوا أسماءهم من كلّ مكانٍ، وهكذا صار من طلبوا العظمة والهيبة منبوذين، يُذكرون في سجلّ الجبابرة الظالمين بما جلبته أيديهم من اللعنات، وقد خلّفوا وراءهم من يردّد فيهم قول الشاعر: “لا هو استراح في حياته، ولا ترك الناس تستريح، سقط من الدنيا وانتهى، فليتحمّلْه أهل القبور”.

فهؤلاء لم يذوقوا طعم الراحة في الدنيا، ولن يعرفوا السكينة في القبر ولا في البرزخ ولا فيما بعده من الدار الآخرة.

أمّا الأنبياء في المقام الأول، ثم الأرواح المؤمنة التي سارت على طريقهم، فقد أصبحوا بما قدّموا من أعمال وما خلّفوا من آثار ذكرى جميلة خالدة.. عاشوا مبتسمين، ورحلوا إلى الدار الآخرة وهم يبتسمون، ولعلهم حتى الموت استقبلوه بابتسامة راضية! ومن يدري بأيّ هيئةٍ من البهاء والجمال يأتيهم ملك الموت وبأيّ بشاراتٍ طيّبة يبشّرهم؟! فإن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، نسأل الله أن يرزقنا عيشةً هنية، وميتة سوية، ومردًّا غير مخزٍ ولا فاضح، وأن يكرمنا في الآخرة بأجمل ما عنده من النعم والفضائل.

 ما نسمّيه عمرًا ليس إلا حيّزًا قصيرًا من الزمن، فإن لم نُنَمِّ هذا العمرَ القصيرَ بإيماننا وإخلاصنا وأعمالنا،  فإننا قد عشنا حياتَنا عبثًا.

السبيل إلى تخليد الحياة الفانية

الدنيا دارُ ضيافةٍ مؤقّتة، ونحن فيها ضيوفٌ عابرون، فنحن كما بيّن سيدنا رسول الله ﷺ في حديثه الشريف: “مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا[2]، فما قيمة حياةٍ تمتدّ لستّين أو سبعين عامًا بالنسبة إلى الخلود؟ إن عمر الإنسان بل عمر البشرية كلّها بالنسبة للأبدية لا يعدو أن يكون لحظةً خاطفةً لا تكاد تُذكر، فإذا أدركنا الفرق بين الدنيا التي نعيش فيها وبين دار الخلود التي سنرحل إليها؛ عشنا حياتنا على هذا الأساس، وما تعلّق قلبُنا بهذه الضيافة المؤقّتة.. فسنلتزم بأوامر القرآن الكريم، ونركض خلف الآخرة مستثمرين كلَّ النعم والإمكانات التي أحسن الله بها إلينا، ونسعى إلى كسب الآخرة بكلِّ ما أوتينا من قوة، وحتى لا نتلوّى ألمًا، ولا نئنّ ندمًا في الآخرة؛ فيجب ألا ننخدع بهذه الحياة التي تمرّ كلمح البصر، ولا نُغلق أعيننا عن النور الأبدي، ولا نعيش في عمًى عن الآخرة.

غير أن كثيرًا من الناس في زماننا اليوم قد وقعوا في مثل هذا العمى؛ صارت الدنيا أكبر همهم، لا يفكرون في شيء غيرها، ولا يرون شيئًا سواها، قد تعلقوا بالدنيا لدرجة أنهم لا يتورّعون عن استغلال حتى القيم الدينية في سبيل الحصول عليها.. يتصرّفون وكأنهم سيُخلّدون فيها أبدًا، ويفضلون حياة الدنيا على الآخرة عن وعيٍ وقصدٍ، إذا حدّثتهم عن الربح والكسب تراهم لا يفكرون إلا في الدنيا مثل قارون، وينسون الآخرة.. وكم من أناسٍ ذوي قدودٍ ممشوقةٍ، وكم من سلاطين ذوي وجوهٍ نضرةٍ، وكم من ملوكٍ عظامٍ؛ قد وقعوا في حبِّ الدنيا، وغرقوا في بحرها، وذهبوا ضحيّةً لها.

لذلك ينبغي للمؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم لله -رغم انخداع الكثيرين بالدنيا- أن يبحثوا عن سبل تكسب هذا العمر الفاني صفة البقاء، لتخليد هذه الحياة الفانية.. عليهم أن يزرعوا مزرعة الدنيا بأشياء يحصدونها ويجنون ثمارها في الآخرة، عليهم أن يختاروا بعناية الطريقَ الذي سيسيرون فيه فيعبروا ممرّ الدنيا القصير ليُحلّقوا بأجنحتهم نحو عوالم الملكوت.

في هذا العالم الفاني كلُّ شيءٍ زائلٌ، والإنسانُ -شأنُه شأن كلّ شيءٍ- عابرٌ لا بقاء له.

يجب أن يستثمروا عمرهم القصير ورأس مالهم الضئيل استثمارًا يجعلهم قادرين على شراء دار الإقامة الأبدية، كما ينبغي ألا يُبالوا بما يواجهونه من مشاقّ في طريق الأبدية؛ فإذا كان ينتظرهم في نهاية الطريق معيةٌ إلهية، وتوجّهٌ إلهي، ولطفٌ ونِعمٌ ربانية، أفلا يستحقّ ذلك تحمل المشاق هنا في الدنيا؟ إن الإنسان عندما يشمّ في النهاية ريح الجنة التي تخلب الألباب، ويلتفت إلى الوراء، سيقول: “ما أثمن ما نلتُه من مكاسب! وما أهون ما قدّمتُه من تضحيات في الدنيا!”. فهل يُعَدّ ذلك خسارةً بالنسبة لمَن أعطى قطرةً فَنالَ بحرًا؟! أو لمن بذل ذرة فبلغ بها نجمًا مضيئًا؟! كيف يُذكر الخسران في حقّ مَن كانت عاقبته كذلك؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  مسند الإمام أحمد، 22/271.

[2] سنن الترمذي، الزهد، 44.

المصدر: موقع هيركل، انظر الرباط التالي: https://herkul.org/alarabi/man-mata-ala-shay-in-bathahu-allahu-alayh/