نظّم مركز نسمات للدراسات الإنسانية والحضارية ندوة دولية عبر الإنترنت بعنوان: «في الذكرى الأولى لرحيله: الأستاذ فتح الله كولن عالمًا ومربّيًا وأديبًا».

لم يكن اللقاء مناسبة تأبينية فحسب، بل قدّم قراءة متماسكة في مدرسة كولن الفكرية والتربوية، وكيف صاغت علاقة خاصة بين المعرفة والأخلاق وخدمة الإنسان.

انطلقت المداخلات من فكرة بسيطة وواضحة: العلم عند كولن التزام أخلاقي، لا وصفة تقنية. المعرفة تُترجم إلى خدمة عامة ومؤسسات تعليمية وحوارات حضارية. في المحور الصوفي، بدا التصوف بوصفه تزكيةً تنتج فعلًا اجتماعيًا رصينًا، وتوازنًا بين ظاهر الشريعة وباطنها، بعيدًا عن الانغلاق أو الشعارات. أما الجانب الأدبي فحضر عبر قراءة في «ألوان وظلال»، حيث يطل الأدب أداةً للتهذيب وصقل الذائقة، لا ترفًا لغويًا. وتجمعت هذه الخيوط تحت قاعدةٍ جامعة: «بناء الإنسان قبل البنيان»؛ فالهياكل لا تغني إن غاب التكوين العقلي والروحي والوجداني.

قدّم المتحدثون خلاصات مكثفة. افتتح مدير الندوة صابر المشرفي الرؤية الجامعة بقوله: «إرث كولن يثبت إمكانية الجمع بين المعرفة والتزكية وخدمة الإنسان في مشروع واحد». وفي تفصيل هذا المنهج، قدّم أ.د. عبد المجيد بوشبكة (المغرب) تحليلاً لـ”بناء الوعي الإيماني” كـ”ثلاثية ذهبية” لا تتجزأ: “قراءة وجدانية” (التزكية)، و”قراءة عقلية تدبرية” (فهم السنن)، و”قراءة عمرانية” تحوِّل الإيمان “إلى سلوك حقيقي وآثار مادية”.

وهو ما اتفقت معه أ.د. هدى درويش التي رأت أن التصوف عند كولن «يُثمر أخلاقًا عملية ومسؤولية اجتماعية».

وحول المنهج المعرفي، أوضح نوزات صواش أن الأستاذ لم يكن يقرأ الكتب كدارس فحسب، بل كـ”مستشير لعلماء الأمة”؛ فَوصَفَ جلسة قراءة 50 تفسيرًا بأنها “حالة استشارة مع 50 مفسرًا… لاكتشاف مناهج تفكيرهم، وكيف أجابوا على الأسئلة الكبرى للعصر”.

وفي البُعد الأدبي التربوي، بيّن أ.د. أحمد تمام أن نصوص «ألوان وظلال» «تفتح الأدب على التربية والتهذيب». وركّز أ.د. توفيق أبو بكر حسين (نيجيريا) على التربية كـ”خريطة طريق تربوية شاملة”، تنقل الفرد خطوة بخطوة “من كائن فردي منشغل بذاته إلى إنسان عالمي يسعى لإسعاد الآخرين وإصلاح المجتمع”.

وفي شهادة من الداخل، لخّص صالح القاضي هذا المنهج بأن «الأستاذ كان يربي بالقدوة، ويحوّل المعرفة إلى خلق وممارسة». واختتم المهندس محمد ياسين بالدعوة إلى تحويل هذا الزخم إلى «ورشة عمل» تُعد «خرائط تطبيقية» تُيسّر الإفادة من فكر الأستاذ في الواقع.

خلاصة ما رسخته الجلسة أن مدرسة كولن ليست سردًا لماضي رجل، بل أدوات حاضرة لبناء الإنسان اليوم: علمٌ منضبط، وروحٌ مهذّبة، وأدبٌ يُنير الطريق. هذا ما يجعل إرثه قابلًا للتفعيل، لا للاستيعاد فقط.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts