سؤال: قد تواجهنا في طريق الخدمة عقباتٌ تثبّط هممنا وتُضعف عزائمنا، فما نصيحتكم لنا حتى نتمكّن من مواصلة السير دون أن نتزعزع أمام هذه التحدّيات؟
الجواب: ينبغي على كل مَن يسعى في سبيل الله أن يهيّئ نفسه ذهنيًّا ونفسيًّا لمواجهة ما قد يعترض طريقَه مِن صعوباتٍ ومِحنٍ، فقد لا تسير الأمور دائمًا كما نخطّط، ولا تتحقّق رغباتنا وتطلّعاتنا كما نرجو؛ فربما تتوقّف مشروعاتنا وخططنا المستقبلية عند مرحلةٍ ما، وقد لا تكتمل، وقد نُفاجأ بأمورٍ لم نتوقّعْها من قبل، وقد نتعرّض للغدر والخيانة ممّن لم نكن نتوقّع منهم ذلك، وكما قال بديع الزمان سعيد النورسي: إنّ الأعمال الخيّرة كثيرًا ما تعترضها موانع مؤذية؛ حيث يشتدّ الشياطين من الإنس والجن في محاربة خدّام تلك الخدمة، ويتسلّطون عليهم ولا يتركونهم وشأنهم، كما لم يتركوا أنبياء الله العظام ولا أولياءه الكرام.. وهناك قولٌ مأثورٌ ليس بحديث، ولكن يُدعّم معناه الكثيرُ من الآيات والأحاديث: “عَلَى كُلِّ خَيْرٍ مَانِعٌ”، فمن شرع في عملٍ من الأعمال الخيّرة خرج له الشيطان، وحاول أن يثنيه عن طريقه بحيله ودسائسه..
إن الله تعالى قد شمل عبادَه السائرين في سبيله دائمًا بعنايته، وأحاطهم بحفظه ورعايته، ولكن هذا لا يعني أننا لن نتعرّض أبدًا للمحن والابتلاءات، فنحن في دار ابتلاء، لذلك سنتعرّض لبعض الصعوبات من وقتٍ لآخر.. وكما ورد في مواضع متعدّدة من آيات القرآن الكريم، أن مَن يسير في طريق إحياءِ دين الله ونشرِه، سيتعرّض لمحنٍ ومصائب؛ فمن يسير في هذا الطريق المبارك سيعاني ألوانًا من الفقد والحرمان.. فقد نُبتلَى بنقصٍ في أموالنا أحيانًا وفي أرواحنا أحيانًا أخرى، فإذا استطعنا أن نتحمّل هذه الابتلاءات الشديدة ونصبر عليها؛ فسنكون من الفائزين، وسنحصل على أضعاف ما فقدناه في هذه الدنيا.
أتدرون على ماذا تبايعون؟!
من الأهمية بمكان أن يكون المرء -وهو لا يزال في بداية الطريق- على استعدادٍ لمواجهة ما قد يعترضه من صعوباتٍ ومشقّات محتملة.. فالشخص الذي يُدرك منذ البداية أنّه سيسلك طريقًا وعرًا، ويصعد فيه منحدراتٍ شديدة، ويجتاز قممًا عالية، ويعبر حفرًا عميقة؛ يُعدّ نفسه ذهنيًّا ونفسيًّا وفقًا لهذه التحدّيات.. يمكننا أن نُطلق على هذه الاستعدادات اسم “التهيئة الداخلية”، والمقصود بها أن يقوّي الإنسان عالمه الداخلي، ويكتسب المقاومة اللازمة لحياته القلبية والروحية، فإذا تسنى له تحقيق مثل هذا المستوى من الثبات، وإذا تكوّن هذا الرصيد المعنوي منذ البداية؛ فإنه لا يهتز أمام الضربات الخارجية، ولا يتأثر بالهجمات الموجهة إليه.. أمّا إذا غفل الإنسان عن طبيعة الطريق وما فيه من وعورةٍ وتشعُّبٍ، ثم فوجئ بالمصاعب عند أول منعطفٍ، فقد يُصاب بالارتباك، ويختلّ توازنه، وتضطرب رؤيته، فيعجز عن المضيّ قدمًا.
وإن شئتم فلْنصْغ إلى هذه البيانات النورانية من القرآن الكريم: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/214).. وبما أن القرآن الكريم ينبّهنا إلى هذه الحقيقة العظيمة، فعلينا أن ننتبه لهذا التحذير، ونتيقّظ ونتعقّل ونستفيق من غفلتنا.
وهنا يمكننا أن نستحضر ما قاله سيدنا العباس بن عبادة رضي الله عنه عندما خاطب الأنصار الذين بايعوا رسول الله ﷺ في بيعة العقبة: “أتدرون على ماذا تبايعون؟!”، فالناس قد يتحرّكون وفق سيكولوجية الجماعة، وينجرفون مع تيارٍ شعوريٍّ عام، وينجرّون عاطفيًّا وراء شيءٍ ما.. هذا شيءٌ جميلٌ في حدّ ذاته، ولكن لا ينبغي أن يقف الأمر عند هذا الحدّ؛ بل لا بدّ من إيضاح طبيعة الطريق الذي يسلكونه، وتعريفهم بما ينتظرهم في المستقبل؛ فهذا الطريق وإن حظيَ بلذّاتٍ معنويّةٍ ومباهجَ روحيّةٍ عظيمة، إلّا أنّه لا يخلو من تضحياتٍ جسيمةٍ، وآلامٍ شديدة، وصعوباتٍ بالغة.. وهو ما كان يُلمّح إليه العباس بن عبادة رضي الله عنه الذي كان يتمتّع بالبصيرة والفراسة.. فقد كان يذكّرهم بأن أمامهم أيامًا صعبةً وشاقّةً، ويعدّهم لذلك.. وبالمثل كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأخذ البيعة من هؤلاء حديثي العهد بالإسلام يطلب منهم أن يبايعوه في السراء والضراء، والمنشط والمكره.
ولا نفهم من ذلك أن كل مَن يخدم في سبيل الله يجب أن يمرّ حتمًا بابتلاءات شديدة، فقد يرحمنا الله تعالى أحيانًا بسبب عجزنا وضعفنا وفقرنا وتقلباتنا، فلا يبتلينا بهذه الأمور شديدة الوطأة علينا.. وفي هذا السياق يقول بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله: “إن القدير ذا الـجلال الذي يطهـّر وجه السـماء الـملبـّد بالغيوم ويبرز الشمس الساطعة في وجه السـماء اللامع خلال دقيقة واحدة، هو القادر أيضًا على أن يزيل هذه الغيوم السوداء الـمظلـمة الفاقدة للرحـمة، ويُظهر حقائق الشريعة كالشمس الـمنيرة بكل يسرٍ وسهولةٍ وبغير خسارة، وإننا نرجو هذا من رحـمته الواسعة، ونسألـه سبـحانه ألا يكـلِّفنا ذلك ثمنًا غاليًا”[1].. ولكن لا يمكننا أن نهيئ أنفسنا على هذا الأساس، بل نعدّ أنفسنا لفصل الشتاء ونحتاط بناءً على ذلك، وإذا أتى الربيع فسنعتبره منّة وفضلًا عظيمًا.
مسؤولية أعضاء الشركة المعنوية
ثم إنّ الذين يُكرّسون قلوبهم لخدمة الإيمان والقرآن، كأنّهم -مجازًا- قد أسّسوا شركةً معنويةً مشتركة.. وهذه “الشركة الروحية” يقتضي أن يكون كلُّ عضوٍ فيها سندًا لإخوانه، معينًا لهم في شدائدهم.. فإذا أصاب أحدَهم كربٌ أو نزلت به محنةٌ، وجب على الآخرين أن يمدّوا له يد العون، وأن يقيموه من عثرته، وأن يغذّوا قلبه وروحه بما يقوّي صبره وثباته.. فالتغلب على الضغوط الخارجية، ومواجهة مظالم الطغاة، وتجاوز صدمات الحوادث المفاجئة؛ لا يكون إلا بمثل هذا التضامن المتين، الذي نحن جميعًا بأمسّ الحاجة إليه.
ولا سيما أولئك الذين يضعف لديهم نظامُ المناعة، فيتأثرون سريعًا أمام الضغوط، فهؤلاء أحوج ما يكونون إلى الدعم الروحي والتعزيز المعنوي.. فلا يصحّ أن يُترَكوا وحدهم، بل يجب أن نحتضنهم ونقوم على شأنهم.. وإنّ عيادةَ أخٍ لنا ابتُلي بالضيق، أو وقع في السجن، والسؤالَ عن حاله، وقضاءَ حاجته، لَهو عنده مصدرٌ عظيم للطمأنينة، وسندٌ قويّ يعيد إلى قلبه عزيمته، ويغذّي روحه بالصبر والثبات.
ويجب ألّا نغفل عن حقيقةٍ مهمّة: وهي أنّ أيَّ إنسانٍ يحمل عبء الدعوة إذا أصابه جرح أو وقع في محنة، فإنّ أثر ذلك لا يقف عنده وحده، بل ينعكس على المجموع كلّه، وربما أحدث تصدّعًا أو شرخًا في البنيان العام، ومن هنا إذا ألمّت بأحد إخواننا كارثةٌ، وجب علينا أن نسخّر ما أكرمنا الله به من إمكانات وطاقات، ونسعى بكلِّ سبيلٍ إلى حلّ مشكلته وتخفيف بلائه.
فقد يتعرض كلّ واحدٍ منا لأنواع مختلفة من البلايا والمصائب، وقد يتمكّن البعض من تجاوز هذه المحن اعتمادًا على قوة صمودهم الداخلي ومناعتهم، غير أنّه ليس جميع الناس على الدرجة نفسها من القوّة؛ فمناعة بعضهم أضعف، وقد لا يستطيعون مقاومة ما يواجهونه من “فيروسات”.. وفي هذه الحالة يقع على عاتق جميع أفراد الشركة المعنوية ألا يتركوا أحدًا يواجه آلامه وحده، وألا يُشعروا أحدًا بالعزلة أو العجز.. فإذا تكاتفنا واصطففنا مثل أحجار القبة؛ استطعنا أن نقف ثابتين دون أن نتزعزع، وإلا ضعُفْنا وتشتّتنا في الطرق.
دعونا لا نضاعف المصيبة
ومما ينبغي التنبّه إليه هنا أمرٌ آخر: وهو أنّه في أزمنة الابتلاء والامتحان، قد يقع ضعاف النفوس في مهاوي الاعتراض على القدر، فلا يخضعون لحكم القضاء، بل يشرعون في مساءلة ما قدّره الله تعالى في حقّهم، وبهذا يسلكون مسلكًا مناقضًا لقوله سبحانه: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/23).
ومن جهة أخرى، قد ينشغل الناس في مثل هذه الظروف بالبحث عن متّهمٍ خارج ذواتهم، فيُسند بعضهم إلى بعضٍ تَبِعات الأحداث، ويتقاذفون اللوم والاتهام باحثين عن كبش فداء؛ فيتبدّد بذلك صفاء القلوب، وتخور العزائم، وتتمزّق وحدة الروح، فلا يزيدهم ذلك إلا مضاعفة البلاء وتثقيل وقع المصيبة.
لا بدّ عند مواجهة ما يعترضنا من مصاعب وسلبيّات أن نحاسب أنفسنا محاسبةً جادّة، نستخلص من خلالها الدروس والعبر من أخطائنا الماضية، حتى لا نكّررها في المستقبل.. وينبغي لنا أن نتّعظ بما جرى، فنكون أكثر حذرًا ووعيًا لتجنّب تكرار المشكلات ذاتها.. يجب أن ندرس الأسباب الظاهريّة لما أصابنا من شدائد، ونتخذ التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع ما يشبهها لاحقًا.. علينا أن نعيد النظر في أنشطتنا وخططنا وبرامجنا، ونفكر في حلول جديدة لضمان سلامة مسارنا، ولكن كل هذا يجب أن يتم بلينٍ ولطفٍ، دون انتقاد للقدر، أو تقاذفٍ للملامة، ودون أن نجرح أو نُؤنّب رفاقنا.
فإذا لم نفعل ذلك كَسرْنا خاطر أصدقائنا، ودفعناهم إلى الشعور بالذنب، وأجبرناهم على الدفاع عن أنفسهم.. وبانتقاداتنا واتهاماتنا نتسبّب في النزاع والشقاق فيما بيننا، ومع مرور الوقت، قد يتشكّل فريقٌ من المتذمّرين والساخطين الذين يعملون ضدّنا؛ وبذلك نكون قد فتحنا على أنفسنا بابًا آخر من المشاكل، واعتدينا -دون أن ندري- على حقوقِنا وحقوقِ الله.. وفي محاولتنا لحلِّ مشكلةٍ واحدةٍ نختلق بأيدينا مشكلةً أكبر لأنفسنا، ثم ننسحق أمامها.. ولذلك فإن هذا النوع من المسائل لا يحتمل العجلة أو العنف أو الغضب.
نسأل الله ألا يحرمنا من عونه وتوفيقه، وأن يثبت أقدامنا في الخدمة الإيمانية والقرآنية. اللّهم آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السادسة عشرة، ص 153.
المصدر: موقع هيركول، أنظر الرابط التالي: https://herkul.org/alarabi/tahaddiyat-al-sayr-fi-tariq-al-haqq/