في فترةٍ يشهد فيها الدينُ والإيمانُ تهديمًا مروّعًا، وتنهار فيها قيمُنا الأساسية الواحدة تلو الأخرى، وتنخر المشاكلُ الاجتماعية بنيةَ المجتمعِ من الداخل كالأرضة، كانت جهود معماري القلوب الذين شرعوا في إصلاح هذا الدمار تبعث الأمل فينا.. ففي حين سخّر الكثيرون كلَّ قواهم العقلية لتدمير كلِّ ما هو جميل، سعى هؤلاء المعماريون إلى إقامة كلِّ ما هو إيجابي بنّاء، لقد كان هؤلاء المتطوّعون يتكاتفون، ويحتكمون إلى العقل الجمعي، ويحاولون أداء كلّ ما يقع على عاتقهم من مسؤوليات؛ لرأب كلِّ الشقوق والتصدّعات التي أصابت الحياة الاجتماعية.. كانوا يبنون جسور الحوار لإرساء السلام والطمأنينة في العالم، ويجتهدون للالتقاء مع الجميع على أرضيّةٍ إنسانيّةٍ مشتركةٍ، ويسيرون بعزمٍ وإصرارٍ أملًا في أن يصبحوا “الجيل الجديد” الذي بشَّر به بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله.

غير أن سعي هؤلاء وجهودهم قد أزعج بعضَ الأرواحِ المظلمة التي تكره النور، فقاموا -بكل ما أوتوا من قوة- بتخريب العديد من الأعمال القيّمة التي كانت ثمرة جهود المتطوّعين المخلصين ودموعهم، فراحوا كاللصوص الذين يسطون على حصاد الآخرين، ينقضّون على المؤسسات التي بُنيَت بجهود جبّارة، فألحقوا أضرارًا بالغةً بالمنجزات التي ما استطاع هؤلاء المتطوّعون المخلصون تحقيقها إلا بشقِّ الأنفسِ وعَرَقِ الجبين وخواءِ البطون وصداع الرؤوس، وأخذوا يحاولون إطفاء كلّ المشاعل المضيئة، فتسبّبوا في تخريباتٍ كبيرةٍ، وخسائرَ فادحة.. لكننا نؤمن أن الله الذي أوقد المشاعل مرّةً قادرٌ على أن يوقدها ألف مرّة، ولن ينتهي هذا الأمرُ بمجرّد قول بعضهم “انتهى”، المهمّ أن نقف بثباتٍ، ونعزو كلَّ ما يحدث إلى تقصيرنا، ونتوجّه إلى الله بلسان التضرّع، ونقوم بكلّ المسؤوليات التي تقع على عاتقنا؛ حينها سيبدّد الله تعالى هذه الأجواء الملبّدة بالغيوم والدخان، وسيفتح من قلبِ هذه الفترة العصيبة أبوابًا لعهودٍ من الرخاء، ويحوّل الليالي الحالكة إلى أيامٍ طويلةٍ، ويحوّل الشتاء -الذي يُظنّ أن ثلجه وجليدَه لا يذوب- إلى ربيعٍ زاهر.

المهم هو أن نحظى بمعيّة الله، وما دام هو معنا فلا غمّ ولا كرب! إذا استقرّ كلٌّ منّا في الموضع الذي أراده الله له، فماذا يضرّه أو ينفعه ما يضعه فيه الناس، أو حتى ما يضعه فيه العالم بأسره؟! لكن إذا فقدناه سبحانه في قلوبنا فتلك إذًا هي الخسارة الحقيقية! وإذا كنا نصرّ على الابتعاد عنه رغم أنه أقرب إلينا من حبل الوريد؛ فهذا يعني أننا وقعنا في قبضة مرضٍ أخطر من السرطان الذي ينتشر في الجسم.. ولا يمكن تصوّر مصيبةٍ أعظم من عدم القدرة على استشعار وجوده تعالى بعمقٍ في قلوبنا! أو أن تخلوَ قلوبُنا من مشاعر الحبّ والشوق له!

استغلال الفرص المتاحة

لقد أدت أعمالُ الظلم والقمع إلى هجراتٍ قسريّةٍ، فتفرّق الآلاف من المتطوعين في شتى أنحاء العالم، ونظرًا لأن الدول التي كان لهم معها ارتباطاتٌ سابقةٌ في الماضي لم تعد توفّر لهم الثقة والأمان؛ فقد توجهت الهجرات بشكلٍ خاص إلى الدول الغربية.. والواقع أن هؤلاء المتطوعين كانوا قد انفتحوا على مناطق مختلفةٍ من العالم بصفتهم ممثّلين للتسامح والحوار، غير أن انفتاحًا بهذا الحجم الكبير اليوم تجاه الدول الغربية لم يكن قد حدث من قبل.. وقد فتحت هذه الدول لهم أبوابها في الغالب، وقدمت لهم الدعم، ومنحتهم حقّ الإقامة فيها، وفي هذا سَوقٌ إلهيٌّ عظيمٌ، فكلُّ أمرٍ ينطوي على حكمةٍ معيّنةٍ، فالله لا يفعل شيئًا عبثًا.

غير أن فتح هذه الأبواب لا يعني بالضرورة أنه لا توجد أيُّ شكوكٍ وشُبهات نحوكم؛ لأنكم قادمون من بيئةٍ ملبّدةٍ بالغيوم والضباب، يصعب فيها الفهم، وتتبلّد فيها الرؤية.. فلا تزال المنشورات التي تهدف إلى إثارة البلبلة حولكم مستمرّةً بلا هوادةٍ، ولهذا قد يكون لهذه الدول بعض الشكوك تجاه القادمين الجدد.. وقد يكون لهذا الاحتضان نيّةٌ للاستماع إليكم، يا تُرى مَن أنتم؟ وما هي أفكاركم الأساسية؟ والحق أن مثل هذا الاهتمام والاستجواب ليسا عيبًا بالنسبة لكم، بل فرصةٌ مهمّةٌ للتعبير عن أنفسكم بشكلٍ صحيحٍ، فما يقع على عاتقنا هو استغلال هذه الفرصة على أفضل نحوٍ، وتمثيل قيمنا على أكمل وجهٍ.

وفي هذا المقام يكون التمثيل الصحيح أبلغ وأكثر فعالية من أيِّ شيءٍ، فقد تعبّرون عن مشاعركم وأفكاركم بأجمل الكلمات وأبلغ العبارات كالشاعر الفردوسي مثلًا، ومع ذلك لا تتمكّنون من إزالة الشكوك والشبهات لدى الآخرين، ولكن إذا أوكلتم الأمر إلى التمثيل العملي والسلوك الصادق؛ حينها تُؤَلِّفون القلوب، وتُسعِدون روح سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، وتنالون رضا الله عز وجل.. أليس هذا هو هدفنا الأسمى؟!

لو أنفقنا ثرواتٍ طائلةً لنعرِّف شعوبَ العالم بأنفسنا ونوصِّل صوتنا لهم ما كنا لنحظى بهذا القدر من الظهور والاهتمام.. قد يكونُ البعض قد سمع عنكم أو تناهى إليه كلامٌ سيّئٌ عنكم، فلا تكترثوا لهذا، وبدلًا من أن تُشغلوا أنفسكم بالأكاذيب والافتراءات التي تلفّق لكم ركزوا على ما أمامكم، وعلى ما يجب القيام به، وحاولوا استغلال هذه الفرصة التي سنحتْ لكم، وطالما علموا بأمركم، فالآن حان دوركم للحديث عما تريدون بأسلوبٍ صحيح.. اجعلوا الجميع يشعرُ من خلال أفعالكم وتصرّفاتكم بنظرتكم الإنسانية، وبمحبّتكم للبشرية، وبنبض قلوبكم من أجل الإنسانية، وأنكم لم تأتوا للصراع مع أحدٍ، بل لِبناء الجسور مع الجميع، وأنكم أناسٌ يمكن السير معهم في دربٍ واحدٍ.

يجب أن نبني علاقاتنا مع الآخرين على خطِّ المحبّة ومدار المودّة.. لقد خلق الله الإنسان ليكون محبوبًا.. أبدعه بريشة القدرة والعلم والإرادة، وخلقه في أحسن تقويمٍ، ولهذا اعتبرَتْه الملائكة محرابًا، وانحنتْ أمامه بخشوعٍ وخضوعٍ لما له من شخصيّةٍ شامخةٍ! فما يقع على عاتقنا هو أن نحب الجميع ونحترمهم لمجرّد أنهم بشر، ونظرًا لأن البعض يلجأ إلى الضغط والإكراه لفرض أفكاره وثقافته على الآخرين وصَهره في بوتقته، فقد ينظرُ إليكم الآخرون من المنظور نفسه؛ فعلينا أن نُظهر للجميع، من خلال ثباتنا على مبادئنا وسلوكنا الواضح، أننا لا نسعى إلى تحقيق مثل هذا الهدف.

الاندماجٌ الحقيقيّ

ليس من الواقعي أن نتوقّع أن تصنع أصواتنا وأنفاسنا في كلِّ مكانٍ نذهب إليه نفس الأثر.. يمكن أن نُشبّه الرسالة التي نقدّمها للبشرية بأمطار الرحمة النازلة من السماء: أحيانًا تكون قطرة ندى تُغذّي بعض الأوراق، وأحيانًا تمطر مطرًا خفيفًا، وأحيانًا تكون غزيرةً فتنعش الأرض، وأحيانًا تتراكم على شكل ثلوجٍ.

إن ثمار الخدمات تعتمد -من جهة- على مدى قدرتنا على تحقيق اندماجٍ صادقٍ مع المجتمع الذي نتواجد فيه.. يجب ألا نقصّر في هذا الجانب، كما يجب ألا نكون محلّ استغرابٍ بتصرّفاتنا وسلوكنا في الأماكن التي نعيش فيها.

عندما يرى الناس وجودنا، يجب أن يشعروا أننا جزءٌ منهم، لا أن نكون غريبين بينهم.

فلا ينبغي أن ننشغل بتفاصيل فرعيّةٍ أو نقيم صراعاتٍ على قضايا هامشيّة، ولا نثير قلق أحدٍ بتصرفاتنا وأفعالنا، ولا نجلب كراهية أحدٍ نحونا.

إن الاندماج أمرٌ مهمٌّ أيضًا من حيث بناء جسور الحوار وغرس الثقة، فإذا أضحينا جزءًا من المجتمع منحَنا الناسُ ثقتَهم بسهولةٍ أكبر، بل إنكم إن أحسنتم التعبير عن أنفسكم بشكلٍ صحيحٍ رأى فيكم البعض عقولًا ناضجةً يمكن الاستفادة منها، وبهذه الطريقة نأخذ ما يمكننا أن نأخذه، ونعطي ما يجب أن نعطيه، ونحن ندرك أن ما نأخذه سيفتح لنا طريقًا، ويؤسّس لنا أرضيّةً لتقديم ما نريد تقديمه، ولا ننسَ أن الأمم المهاجرة الحركية بشكلٍ عام -كما يقول المؤرّخون الاجتماعيون- قد أخذت من الأمم الجالسة الوادعة أكثر مما أعطتها.

يجب أن نقيم تواصلًا مباشرًا مع أفراد المجتمع الذي نعيش فيه، حتى يتمكن كلُّ طرفٍ من التعرّف على الطرف الآخر.. وإذا اقتضت الضرورة يمكننا المشاركة في فعالياتهم التي لا تتعارض مع جوهر ديننا، فمثلًا يمكننا التواجد في دور عباداتهم، ومشاهدة طقوسهم وشعائرهم، ونهنئهم في أعيادهم ونواسيهم في أتراحهم، فمثل هذا التصرف يُلين القلوب، ويُظهر للجميع أننا لا نحمل عداءً تجاه أحد.

موقف حازم من الذوبان الثقافي

إن الانفتاح على الثقافات الأجنبية، وإقامة علاقاتٍ وثيقةٍ مع أصحاب رؤًى عالميةٍ مختلفةٍ؛ يحمل في طيّاته خطر الذوبان، لا سيما بالنسبة للأطفال والشباب، فهم أكثر عرضةً لهذا التأثّر؛ حيث يجذبهم كلُّ ما هو جديدٌ ويؤثّر فيهم أكثر من غيرهم.. ولهذا علينا أن ننشئ بيئاتٍ آمنةً أشبه بالصوبات لحمايتهم من هذا الخطر، وأن نربطهم بقوّةٍ بمصادرهم الفكرية.. ولا بدّ أن نوظّف مرشدين أكفاء مؤهلين لتربية الشباب وتوجيههم وتحبيبهم في قيمنا الذاتية؛ حتى تنشأ أجيالٌ متمسّكة روحيًّا بقيمها مفتخرةٌ بها.

وفترة العطلات تُعد فرصةً كبيرةً للقيام بهذا الأمر، فمن الممكن تخصيص أماكن منفصلةٍ للبنين والبنات بشكلٍ يتناسب مع تربيتنا العامة، وعقد جلسات معهم نتذاكر فيها ونتدارس الكتب المتعلقة بالقضايا الإيمانية، حتى نجعل قيمنا التي نؤمن بها جزءًا من طبيعتهم؛ وبذلك تقوى مناعتُهم الروحية، ويكتسبون قدرةً على مقاومة التأثيرات الخارجية الغريبة، ومن ثمَّ نحول دون تغريبهم أو ابتعادهم عن ذواتهم الأصلية.

ذات يوم زارنا أحدُ الأكاديميين الأمريكيين، وقال لنا متوسلًا راجيًا: “أرجوكم، بالله عليكم، لا تذوبوا في هذا المجتمع.. ظلّوا كما أنتم، وواصلوا حياتكم على ما أنتم عليه، فالذين سبقوكم تفرّقوا في أماكن مختلفة، ونسوا قيمهم، وذابوا في المجتمعات التي ذهبوا إليها.. إياكم أن تقعوا في الخطإ نفسه، فإسهامكم الحقيقي في هذا المجتمع مرهونٌ بقدرتكم على الحفاظ على ذاتيتكم”.

أجل، فمن جهةٍ نكون جزءًا من المجتمع الذي نعيش فيه، ومن جهةٍ أخرى لا نتخلّى أبدًا عن هويّتنا، قد يبدو هذان الأمران متعارضين، لكن كليهما يحمل أهميّةً بالغةً بالنسبة لنا.. إن اندماجنا في المجتمع الذي نعيش فيه لا يمنعنا من التمسّكِ بقيمنا بشدّة، والشعورِ بها بعمقٍ لدرجةٍ تجعل قلوبنا تهفو إليها على الدوام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: https://herkul.org/alarabi/alindimaj-doun-althawban/