سؤال: كيف ينبغي لنا أن نتعامل مع الغيرة والحسد؟
الجواب: من المعلوم بداهة أن الحسد هو مرضٌ روحي يصعب للغاية التغلّب عليه، وأبرز مثالٍ يشكّل هذه الحقيقة هو حسد الشيطانِ لآدم عليه السلام ومن ثمّ تدحرجه في قعر جهنم، وإذا ما نظرنا إلى كلام الشيطان كما جاء في آياتٍ عدّة من كتاب الله فسنجد أن الشيطان مخلوقٌ يعرف اللهَ حقًّا، ومع ذلك لم يرض لنفسه -عامدًا- السجودَ لآدم بسبب حسده وغيرته، وقد استعمل القرآنُ الكريم دومًا الفعل “أبى” تعبيرًا عن استكبار الشيطانِ السجودَ لآدم عليه السلام، مما يشير إلى شدة عصيان الشيطان واستكباره في هذا الأمر.
كما أنّ هذا يدلّ دلالةً قطعيةً وحتميةً على تمرّد الشيطان وعناده في مسألة السجود لآدم عليه السلام، إذ كان قلبُه موغرًا بالحقد والغلّ؛ وهذا جعله لا يفكر بإيجابية ولا يرى ما في هذا الأمر من وجوه جميلة، إذ لو كان من السهل مقاومة هذه المشاعر السلبية وقمعها لربما لم يتعرضْ الشيطان لمثل هذه العاقبة الوخيمة، أو كان بإمكانه أن يستخرج معنى معينًا من صلة آدم بربه وتعظيم الملائكة الكرام له، فيأخذ العبرة ويجمع شتات نفسه، ولكنّ هذا المخلوقَ التعيس ضحيةَ الغيرة والحسد جوزي بالتدحرج رأسًا على عقب في قعر جهنم ولا يزال..
جاء في الأثر أن إبلِيس لَقِي مُوسَى فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنْت الَّذِي اصطفاك الله بِرِسَالَاتِهِ وكلّمك تكليمًا إِذْ تبتَ وَأَنا أُرِيد أَن أَتُوب فاشفع لي إِلَى رَبِّي أَن يَتُوب عليّ، قَالَ مُوسَى: نعم، فَدَعَا مُوسَى ربه، فَقيل: يَا مُوسَى قد قُضيت حَاجَتُك، فلقي مُوسَى إِبْلِيس قَالَ: قد أُمِرتَ أَن تسْجد لقبر آدم ويُتاب عَلَيْك، فاستكبر وَغَضب وَقَالَ: لم أَسجد حَيًّا أَأَسجد بِهِ مَيتًا ، وهذا يعني أن حسد الشيطان كان مكعّبًا مضاعفًا لدرجةٍ دفعته إلى أن يلقي بنفسه في مستنقع الكفر وهو على وعي تام.
قتلُ الأخِ بسبب الغيرة والحسد
من جانبٍ آخر يحكي القرآن الكريم في سورة المائدة قصة ولديْ آدم اللذَين قتل أحدهما الآخر؛ وذلك حتى يشير إلى العاقبة الوخيمة الناشئة عن الغيرة والحسد ، ورغم أن القرآن الكريم والسنة الصحيحة لم يصرِّحا بأسماء ولدي آدم عليه السلام فلقد جاء في كتب الأمم السابقة أن اسمهما قابيل وهابيل.
أجل، نشأ ولدا آدم عليه السلام في بيتٍ يتنزل عليه الوحي زخًّا زخًّا، وكان أبوهما عليه السلام يُلقب بآدم صفي الله، كما كان من جهةٍ ما بذرة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك دبّتْ الغيرة في صدر أحد الولدين للآخر، فطار صوابه وقتل أخاه، وفي النهاية تلطخت يداه بدم أخيه.
وعبْرَ عملية استقراءٍ سريعة للتاريخ يمكننا أن نستخلص من عصارته العديدَ من الأحداث الشبيهة بهذه المسألة، وحاصل هذه الوقائع يشير إلى النهاية المفجعة التي أردى الحسدُ بسببها الكثيرين في نار جهنم، بل إن مفخرة الإنسانية سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي لم يؤذِ مخلوقًا كائنًا من كان حتى ولو مجرّد وردة، ولم يقترف ذنبًا يُحاسب عليه؛ تعرض من قِبَلِ البعض إلى تصرّفاتٍ ناجمة عن الغلّ والحسد، فمثلًا نلحظ آثار هذا الحسد بوضوح في قول أبي جهل: “واللهِ لقد كان محمدٌ فينا وهو شابٌّ يُدعَى “الأمين”، فما جرَّبنا عليه كَذِبًا قطُّ… تنازَعْنا نحن وبنو هاشم الشرفَ، فأطعَموا وأطعَمْنا، وسَقَوا وسَقَيْنا، وأجارُوا وأَجَرْنا، حتى إذا تجاثَيْنا على الرُّكَب وكنَّا كفَرَسَيْ رهانٍ قالوا: “مِنَّا نبيٌّ”، فمتى نُدرِك مثلَ هذه!؟” .
لقد عاشَ هذا التعيس الذي يُدعى أبا جهل عمره كلّه مضمرًا العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تردّى قتيلًا يوم بدر، لقد انبطح واقعًا تحت وطأة الحسد والغيرة فسيق إلى جهنم، فلو أنه رفع رأسه واعترفَ قبل وفاته بدقائق بأن ما فعله برسولِ الله ودينِه كان ناشئًا عن حسده وغيرته، وجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مستغفرًا فلربما حظي بالعفو الإلهي.. غير أن الحسد والغيرة ساقاهُ وتمكّنا منه أيَّما تمكُّن، حتى إنه بينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة كان قلبه يطفح غرورًا وكبرًا وحسدًا!
والآن تأملوا، إذا كان الحسد الذي يشبه جبل الثلج لم يذب ويتفتت في جو رسول الله صلى الله عليه وسلم الساحر فلا عليكم إذا لم يَذُبْ جليدُ حسدِ الآخرين لكم، وعليكم أن تعتبروا هذا الأمر طبيعيًّا وعاديًّا من ناحية ما.
حتى وإن وضعتم لهم سلَّمًا يرتقون به إلى الجنة..
وقد يرغب بعضُ الناس أحيانًا في إحباط أيِّ عمل حتى وإن كان خيِّرًا ومهمًّا ونافعًا للناس، وما ذلك إلا لأن القائمين على العمل لم يشركوهم في شيءٍ منه؛ فمثلًا في الآونة الأخيرة أُقيمت فعاليات اللغة التركية في تركيا بمشاركة طلابٍ من كل دول العالم، وكان المنظِّمون لهذا المهرجان من رجال الأناضول بما في ذلك المعلمون الذين نذروا أنفسهم لخدمة التعليم، ورجال الأعمال الفدائيون؛ بمعنى أن أولمبياد اللغة التركية كانت نتاجَ جهدٍ وسعي العديد من أصحاب التضحية والفداء في تركيا، ومن خلالها استطعنا توجيه أنظار الجميع إلى منظومة القيم التي رشحت من جذورنا الروحية والمعنوية، دون إكراهٍ أو دعايات تبشيرية؛ لأنه لا يمكن أن تكون اللغة بمنأى عن عالمها الفكري والثقافي الذي تقوم عليه، ورغم ما عاشته دولتنا من أزمات اقتصادية كبيرة فقد استطاع رجلُ الأناضول صاحبُ المروءة أن يجابه كلَّ الصعوبات ويحقق -ولا يزال- هذه المهمة العظيمة بفضلٍ من الله وعنايته، وبذلك حالفه التوفيق في أمرٍ تعذّر تحقيقه على هذا المستوى في أحلك فترات تاريخنا.. ورغم كل هذا قام بعض من يشاركنا محيطنا وأرضنا وثقافتنا وأعرب عن ضجره واستيائه مما يحدث زاعمًا بأننا نضخِّم الأمور، وجاء آخر وقال: ما هذه الخدمات إلا دعايات إعلامية.
وكما رأينا فإن بعض الناس لا يستسيغ كل هذه الفعاليات التي صاحبتها المشقات وفاضت من أجلها العبرات، ويتفننون في إلصاق الافتراءات بها، بل قد يتملكهم الحسد والغيرة أحيانًا، فيتمنون إحباط كل الخدمات الجميلة، وفي بعض الأحيان يحاولون تفعيل ما يضمرونه من حسدٍ وغيرة، ويستثيرونكم بالاتهامات والمزاعم الباطلة التي لا أساس لها من الصحة، فضلًا عن ذلك يبذلون كل وسعهم لاستئصال شأفة الخدمات التي تقومون بها في البلاد المختلفة، وعلى ذلك فإن إطلاق مصطلح الحسد على هذا الكمّ الهائل من الغيظ والحقد غيرُ كافٍ لاستحضار المعنى، لأن الحسد حينها سيقول: لا يمكن أنْ أندرج ضمن هذه القائمة.
أجل، إن هذه الصفات الهدامة لم تُوجد إلا ليُنعَتَ بها الكفار، والحال أنه لا يمكننا أن ننعت هؤلاء الناس بالكفر، كما لا نستطيع أن نقول إنهم منافقون، ولكن هؤلاء الناس قد تمكن منهم الحسدُ والغيرة لدرجة أنكم لو وضعتم لهم سُلّمًا يرتقون به إلى الجنة لفعلوا كل شيء في سبيل هدم ذلك السلم النوراني.
استساغة الحسد
إذًا علينا أن نضع في اعتبارنا أن الحسد والغيرة موجودان على الدوام، وكما أنّ مَن يخالفوننا عقيدتنا يقومون بما يقتضيه كفرُهم فإن الذين يشاركوننا الدربَ نفسَه ويشاطروننا المشاعر والأفكار عينها ويتداولون معنا المؤلفات نفسها قد يَكشفون ويُعلنون أيضًا عن حسدهم وغيرتهم في بعض الأحيان.. وعلى ذلك فإن الوظيفة التي تقع على عاتقنا هي أن نستوعب كلَّ هذا بمقتضى الطبيعة البشرية ونحتضن الجميع، فالله تعالى يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/134)، وبمقتضى هذه الآية عليكم أن تكظموا غيظكم وتعفوا عن غيركم، ولا تُقابلوا الإساءة بالإساءة؛ لأن الخسارة تقلّ عند اصطدام سيارتين إحداهما واقفة والأخرى سائرة، ولكن إذا كانت السيارتان على نفس السرعة واصطدمتا كانت الخسارة أكثر فداحةً، وعلى نفس الشاكلة عليكم أن تقللوا الضرر بألا تقابلوا الإساءة بالإساءة؛ حتى تذيبوا جليد الحسد والغيرة الذي يحيط بمعارضيكم.
من جانب آخر ومن أجل التغلب على هذه المشاكل لا بدّ من إرشاد الناس حولكم باستمرارٍ إلى سبل التعمق في الإيمان، وتوجيه أنظارهم إلى الإخلاص والأخوّة، وإعادة تأهيلهم باصطحابهم إلى الجلسات الإيمانية، وبذل الجهد في سبيل قمع عجبهم وأنانيتهم، حتى يكونوا مظهرًا للارتقاء من جديد إلى مرتبة البقاء بالله في حياتهم الروحية والقلبية، وحينئذ لا بدّ وأن تكون المادة الأولى التي تتصدر جلساتكم الإيمانية هي مراجعة ما إذا كنا في علاقتنا مع ربنا سبحانه وتعالى على المستوى الذي يرتضيه الله أم لا، وهل نحن نسير في عالمنا الفكري على الهدي القرآني أم لا!؟
لا بد أن تكون الجلسات الإيمانية فرصةً لإنعاشنا وشحذنا من جديد، وعلى ذلك تظل بعض الأمور مثل افتتاح مدرسة في مكان ما، أو فتح جامعة في موضع ما أمرًا بسيطًا في مقابل هذه المحاسبة العظيمة، ولو نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية لتبيَّن موضع القصور فينا، إننا لا نستطيع تكميم فم هذا الوحش الكاسر المسمّى بالحسد لأننا لم نداوم على حضور الجلسات الإيمانية، ولم نحوّل دفة الحديث في مجالسنا إلى الحديث عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم نركِّز كلامنا دائمًا على الحديث عن الإيمان الحقيقي، الأمر الذي جعل هذا الوحش يسوق المسلمين إلى التلفُّظ بأقوال بذيئة، والقيام بتصرّفات مشينة.