سؤال: ما المعاني التي يحملها مفهوم حبّ الأمة نظريًّا وعمليًّا؟
الجواب: منذ القدم وهناك من يُحمّل كلمة “حب الأمة” مفاهيم ومعاني مختلفة، غير أنها تعني في رأيي تلك العاطفة التي يشعر بها الإنسان تجاه مَن يشاركونه همومه وأحزانه وأفراحه وأتراحه، ويقاسمونه منظومةَ قيمِهِ عبر التاريخ، وينهلون معه من جذور روحية ومعنوية واحدة؛ وتُعتَبَرُ عوالمُهم الفكرية عبارة عن عصارات رشّحتها هذه القيم لأنهم في النهاية أبناء مصيرٍ واحد يمتد إلى وتيرة تبلغ آلاف السنين، ولقد استطاعت أمتنا خلال هذه الوتيرة أن تجد في الإسلام الحنيف ما تنشده، وصارت تسمع فيه صوت روحها وقلبها، واكتشفت فكرة الخلود، فأقامت توازنًا بين الدنيا والعقبى، وسنحت لها الفرصة للانفتاح على عوالم مختلفة.
بعبارةٍ أخرى لقد وضعت أمّتنا التي أقامت دولًا مختلفة عبر التاريخ؛ باعتناقها الإسلام الحدَّ لبحثها وتنقيبها، وبلغت مستواها الحقيقي؛ وفي هذا يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/3)؛ بمعنى أن الدين قد وصل إلى الكمال الحقيقي برسالة القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك وصلت أمتنا إلى قوامها الحقيقي بتشرّفها باعتناق الإسلام.
منظومة القيم التي عالجها الدين
فضلًا عن ذلك فقد نُقِّيت التقاليد والعادات والأعراف التي ورثناها منذ القدم ورُشِّحت وعُولجَت بمحكمات آي القرآن والمعايير الإلهية، وصارت جزءًا من طبيعة أمتنا، من أجل ذلك لا بد من النظر إلى ما ذكرناه على أنه قيمٌ يسمح بها الإسلام، وكما هو معلوم فإن الأدلة الشرعية تنقسم في الإسلام إلى أدلة شرعية أصلية وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأدلة تبعية وهي الاستصحاب والاستحسان والمصلحة وسد الذرائع، وقد اعتبر البعضُ العرفَ من الأدلة التبعية التي تأتي في الدرجة الثانية؛ لأن العرف هو منظومة القيم التي لا تتعارض مع المصادر الرئيسة للتشريع، وهو ما عدّه الحق تعالى معروفًا وأمر بمراعاته فقال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/199)، أما العناصر الرئيسة التي تشكل ماهية أمتنا فهي جميع تلك العصارات التي رشحت من جذورنا الروحية والمعنوية.
العنصرية والنفاق
والأمة يُشكّلها أفرادها؛ وهم الذين يتشاركون في الثقافة والعقيدة والأفراح والأتراح والظلم والجور ويعيشون معًا منذ عصور، ولكن للأسف الشديد أخذت الأفكار والسلوكيات التي يشوبها النفاق تتحكّم في العالم الإسلامي في العصور الأخيرة، والأحرى في رقعةٍ بائسة من العالم اسمها الدول الإسلامية؛ حيث حاول البعض ممن تتناقض أفعالُهم مع أقوالهم تمزيقَ وتشتيت شمل أفراد الأمة بما أتوا به من أيديولوجيات غربية، فأساؤوا لهذه الأمة أيما إساءة، وكانوا أشدَّ خطرًا على المسلمين من الكفر المطلق؛ لأنهم يمثلون الكفر المطلق، وينكرون وجود الله تعالى، ويردّون كل شيء
إلى الطبيعة، فهؤلاء وإن كانوا قد لمعوا فترةً ببريقهم الكاذب فإنهم لا شك سيضمحلون في نظر الأمة.
ولكن من الصعب إلى حد ما أن تضمحل وتتلاشى فكرةُ النفاق التي تحافظ على وجودها منذ زمن بعيدٍ بارتدائها بعض الأقنعة، ولذا من الممكن القول إن الأرَضَة الفالجة التي تسلطت على العالم الإسلامي منذ عصور هي أَرَضَةُ النفاق، إذ إنها تظل تنخر في جذر المجتمع حتى تمص دمه، وتقطع أوردته، وهذا فإن مفهوم حب الوطن هو أحد المفاهيم التي تستغلها شبكات النفاق هذه، حيث تعبّر عن هذه المفاهيم بعباراتٍ برّاقة مُغَالِيةً لدغدغة مشاعر الناس وإثارة انفعالاتهم، بغية تمزيق المجتمع وإفساد أفراده، فإن أفرادها وإن بدوا بأفعالهم وتصرفاتهم وكأنهم يكافحون في سبيل مستقبل المجتمع إلا أنهم ينشدون من وراء ذلك تحويل المجتمع إلى ساحة حرب.
ولنوضح هذا الأمر بمثال: جمَعَنا القدرُ في السبعينات والثمانينات في زنزانة واحدة مع أناسٍ من شتى الجبهات، وقد تعرفتُ في هذه الجبهات على شبابٍ أُشهد الله أنهم مخلصون من رأسهم حتى أخمص أقدامهم، غير أنهم خُدعوا فحملوا السلاح ونزلوا إلى الشوارع ظنًّا منهم أنهم يكافحون عن أفكارهم، ومن المؤسف أن حميّة القتل والثأر قد أُثيرت فيهم حتى صيَّرَتْهم في النهاية قتلةً دمويّين، بيد أنك إن نفذتَ قليلًا إلى العالم الداخلي لهؤلاء الشباب وشققتَ عن قلوبهم لَتبيّن لك أن قلوبهم تنبض بحبّ هذه الأمة، ولكن شبكات النفاق التي أنشأتها التيارات والأيدولوجيات المختلفة قد أجّجت نار العداوة بين هؤلاء الشباب المخلصين.
وفي الواقع فإن شبكات النفاق يرجع أصلها إلى الثقافة الفارسية؛ إذ كانت عداوة الفرس لسيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنه سببًا في ظهور أوّل شبكة نفاق في الإسلام، وفي إلقاء أول بذرة نفاق في أرض الإسلام، وبعد ذلك اتخذتْ فكرةُ النفاق أبعادًا وألوانًا ولغاتٍ مختلفةً على يد الأشرار والفجار.
وكانت فكرة العنصرية نتاجًا لهذه الفكرة، ويحدثنا الشاعر التركي “رضا توفيق بُولُوكْ بَاشِي” عن فترة انهيار الدولة العثمانية وتسلل الأفكار العنصرية إليها فيقول في كتابه “استمدادًا من روحانيات السلطان عبد الحميد خان”:
خالط الفسقُ القوميةَ فكان ما كان
وصار رداءُ الدين موطئًا للأقدام في كل مكان
فبدت روحُ الترك وكأنها
عاصيةٌ لربها ونبيها
ومن ثم فليس بالإمكان فصل فكرة (الله-الرسول-القرآن) عن فكرة حبّ الأمة لدينا، ليس هذا فحسب بل لا يمكننا أن نوفق بين حبّنا لأمتنا وبين التصرّفات والسلوكيات التي تستهين بهذه الأفكار العالية، فمثل هذه القيم السامية لا يليق أن نستخدمها في حواراتنا ومناقشاتنا العادية، وعلينا أن نعظّمها ونقدّرها، فنحن أصحاب هذه الأخلاق والقيم العظيمة.
أن يخالط حبّ الأمة اللحمَ والعظمَ
وبما أن مراعاة هذه القيم يترتب عليها بقاءُ الأمة ودوامها، ونهوضها من جديد، فإن تبوُّأها المكانة اللائقة بها في التوازن الدولي، وإمساكها بدفّة سفينة الإنسانية مرة أخرى مرهون بالأخذ بمنظومة هذه القيم وإعلاء الفضائل الإنسانية.
أجل، إننا على ثقة بأنه في ظلّ هذه القيم سيتبدى المعنى الحقيقي للحقّ والحقوق، وتسكُن الدماء والعبرات، وسيتحقق العدل إما بمعناه الحقيقي أو النسبي، وستنعم الإنسانية بالطمأنينة الحقة من جديد على يد أهلها، والآن أَلَا يفكر من يؤمن بهذه الفكرة في تبليغ منظومة هذه القيم إلى الدنيا بأسرها!؟
هنا تتبدى فكرة حبّ الأمة نظريًّا وعمليًّا، وقناعتنا في ذلك أن الإنسان بالعمل يمكنه أن يجعل الإيمان جزءًا من طبيعته، يقول الفيلسوف الألماني كانط: “إن معرفة الله ليست من اختصاص العقل النظري الخالص بل من اختصاص العقل العملي الأخلاقي”، ويمكن التوفيق بين هذه الفكرة وبين المنطق الحسي لـ”برغسون” أيضًا، ولأهمية هذه المسألة ركز الأستاذ النورسي رحمه الله على حدس الوجدان، وأكد على ضرورة أن يشعر الإنسان بفقره وعجزه، وأن يتجه إلى ربه في جميع أموره.
وعلى نفس الشاكلة فإن حبَّ الأمة النظري البعيد عن التطبيق مجرّد ثرثرة وتسلٍّ بالملاحم الحماسية ليس إلا، بيد أن المهم هو العمل دون توقف، والسعي دون تشوُّف لأيِّ غرض، فمثلًا على الإنسان أن يقول: لم لا أجعل لغتي لغة عالمية؟ لا حرج في أن تكون الإنجليزية لغة عالمية، ولكن لم لا تكون لغتي -سواء كانت عربية أو تركية أو فارسية- لغةً عالمية يتحدث الناس ويتفاهمون بها فيما بينهم؟ ولكن كما قال المفكر الإيراني “علي شريعتي” عن اللغات العربية والتركية والفارسية الدارجة اليوم: لا سبيل إلى تحصيل العلم بلغة ضيقة محدودة فقيرة ضحلة مثل هذه اللغة، ومن ثم فلم لا نطور لغتنا ونثريها ونجعل منها لغة عالمية من خلال استغلال الكلمات المحلية، والاستفادة من القصص والروايات، وإحياء الكلمات التي بقيت حبيسة المعاجم؟! فلو كان حبُّنا لأمتنا عمليًّا فسنحرص على تطوير لغتنا الجميلة، وسنسعى إلى تعريف العالم كلِّه بمشاعرنا الذاتية، وقيمنا التاريخية.
والآن يبذل إخوانُنا في الخدمة أنشطَتهم التعليمية بما يواكب عصر العولمة، فنتمنى لتركيا أن يزدهر اقتصادها وتزداد إمكانياتها ويصل عدد المدارس التي افتتحها إنساننا إلى ألفي مدرسة.
وفي هذا الصدد لزامًا علينا أن نُنوّه بما فعله إنساننا الذي بذل كل ما يملك من شعور الوفاء، وحقق بما لديه من إمكانيات خدمات جليلةً في الداخل والخارج، فإن أغفلنا هذه الخدمات فقد أنكرنا الجميل والمعروف.
أجل، ومن الملاحظ أن الوجدان العام قد اعتنى عناية كبيرة بهذه الفعاليات الإيجابية وغمره الفرحُ والسعادة؛ ندعو الله تعالى ألا يعترضنا مانعٌ، ولا يقف أمامنا حاجز، ولا تصيبنا ريحٌ معاكسة، ونتمنّى أن تزداد وتتضاعف -إن عاجلًا أو آجلًا- المؤسسات التي شيدتها أمتنا في الداخل والخارج، ويصبح عالمنا عالَمًا مثاليًّا يغبطنا الجميع عليه.. وهكذا يمكننا أن نطلق اسم “حبّ الأمة العملي” على ذلك الجهد العالي والأداء المتميز في سبيل تحقيق هذه الغاية المثالية.
والحاصل أنكم لو آمنتم بأن قِيَمكم الذاتية ذات مصدرٍ إلهي، وأنها على درجة كبيرة من الحيوية والأهمية على اعتبار أنها سماويّة المصدر فلن تتوانوا عن تبليغ هذه القيم إلى الإنسانية كلها.. قد لا يقبل مخاطبُكم كل هذه القيم التي تُحدثونَه عنها، ولكن على الأقل سيتعرّف على وجهكم الحقيقي وجمالكم الداخلي، وبذلك تُشكلون حولكم حلقات من المحبين والمؤيدين والمتعاطفين، ولا تنغلقون على أنفسكم في هذا العالم الذي أصبح كالقرية الصغيرة، ولا تسلمون أنفسكم للعزلة والوحدة.