سؤال: ذكرتم فيما سبق حيالَ أبطال المحبّة أنه يجب عليهم أن يكونوا أفرادًا عاديّين من الناس، وأن يسعوا في الوقت ذاته إلى أن يكونوا من أرباب المستوى والمعرفة، فكيف يمكن أن نجمع بين هذين الأمرين؟ لا سيما وأنهما فيما يبدو متناقضين مع بعضهما؟
الجواب: لو تناولْنا المسألة من حيث وظيفة الإرشاد والتبليغ التي هي مهمة الأنبياء فسنجد أن جمعَ الإنسان بين بلوغه أفق الكمال وبين مفهوم محو الذات منوطٌ بالاعتقاد بأن هذين الوصفين من الأسس التي لا غنى عنها في الإرشاد والتبليغ.
أجل، حتى يستطيع الإنسان أن يقوم بوظيفة الإرشاد والتبليغ، ويُحدث التأثير المرجوّ بإذن الله تعالى في نفوس مخاطبيه لا بدّ وأن يتزوّد بالمعرفة الكاملة وأن يتحلّى بالمحو والتواضع ويعتبر نفسه فردًا بين الناس؛ لأن الإرشاد والتبليغ الذي لا يعتمد على العلم والمعرفة يؤدي إلى إحداث أزمة ثقةٍ لدى المخاطبين، كما أن الأقوالَ الصادرة من الأفواه الملطَّخة بالكبر والغرور لن تنفذ إلى القلوب أبدًا، وإن نفذت فلن يُكتب لها البقاء والدوام، فعلى حين ذكر الأستاذ النورسي رحمه الله في مؤلفاته أن الجهل هو داء الأمة الوبيل[1]، وجّه الأنظار من ناحية أخرى إلى أن لهذا العصر مرضًا داهمًا؛ وهو الأنانية وحب النفس.
روح الإرشاد بجناحي المعرفة والتواضع
وهنا نتناول بإيجاز هاتين الخاصيتين اللتَين تُعدَّان بمثابة الجناحين بالنسبة لرجُلِ الإرشاد والتبليغ؛ فحتى يتمكّن المؤمن من تمثيل الحقائق التي يؤمن بها حقًّا يجب أن يدرسَ عصره وبنيتَه الاجتماعية والحوادث الدنيوية والأوامر التكوينية، وأن يفهمها فهمًا صحيحًا، ويحلّلها تحليلًا دقيقًا، وأن يتعرّف على الأوامر التشريعية التي تتعلّق بعصرنا على وجه الخصوص، حتى يصبح ابنًا للزمان والوقت، وإلا امتُهِنَ كثيرٌ من الحقائق، وفقدت القيمُ قدرَها في نظر المخاطبين.
أجل، بما أن كلَّ شيءٍ موجَّه إلى العلم ومتعلِّقٌ بالمعرفة في النهاية، فالعلمُ بناء على ذلك هو عاملٌ مهم للغاية للتعبير عن قيمنا، ولا نقصد بالعلم هنا ذلك العلم (Science) المعروف بصورته في عصرنا، بل نقصد به العلم الذي يوصِّلنا إلى نتيجة مهمّة وهي المعرفة، ولكن بشرط أن يعتمد على تناول الأحداث بمقدّماتها وخلفياتها.
وفي الواقع أنه لا يمكن لمن يفتقر إلى مثل هذه المعرفة أن يحدّث الآخرين بشيء، بله نفسَه، كما أن مَن لا حظّ له من العلم والمعرفة لا يقدر على التصدي لاحتجاجات نفسه، أو التخلّص من الفوضى الفكرية، ومن لم يستطع حلَّ مشاكله النفسية والعقلية والروحية سيتعذّر عليه تبليغ شيء للآخرين، وربما يلجأ إلى الديماغوجية والجدل دون وعي أو قصدٍ منه، ومن لم يستطع التغلب على الأوهام والشبهات الدائرة في داخله لن يستطيع أن ينجو من الزلل في التعبير.
ومن ثم فلا بد من أن نتعرّف على مشاكلنا بروحها وجوهرها وخلفياتها ومصادرها، وأن نشعر في أنفسنا بالشوق والاشتياق إلى الله، القائمِ على معرفةٍ مبنيةٍ على العلم، ومحبّةٍ ناشئةٍ عن المعرفة، فإذا جعلنا هذه الصفات جزءًا من طبيعتنا وأدركنا بقلوبنا وعقولنا صور الكلمات التي تتفوه بها أفواهنا خلصنا من النزاع في داخلنا والتناقض في أفكارنا.
ومن ثم يجب على المرشد والمبلِّغ أن يتزود بمعرفةٍ عميقة ذات أبعاد متنوعة تحوزُ رضا الله تعالى، ولكنَّ العلم والمعرفة
لا يكفيان وحدهما في الإرشاد والتبليغ، بل يتطلّبان من الإنسان أن يشعر بكل الواردات والمواهب التي هي محضُ لطفِ الله تعالى وإحسانه، فإن كل هذه النعم كما أشار الأستاذ النورسي بمثابة الفرو الذي يُلبسه السلطانُ للإنسان. ولذا لا يصح التغاضي عن هذه النعم، ولكن يجب ألا ننسى أبدًا أن هذه النعم ليست من عند أنفسنا، بمعنى أن علينا ألا ننكر الجمال بل ننسبه إلى صاحبه الحقيقي، فإن اقتنعنا بوجهة النظر هذه تيسّرَ لنا سبيلُ الوصول إلى درجة التواضع والمحو والحياء، ودخلنا في عداد المعنيين بقول سيدنا علي رضي الله عنه: “كُنْ بين النَّاسِ فَرْدًا مِنَ النَّاسِ”، وهذا يعني أننا قد جمعنا بين أفق الكمال والتواضع.
وحتى يُكتب لهذا الشعور وتلك الفكرة البقاء والدوام فلا بد أن يردّ الإنسانُ كلَّ شيءٍ إلى صاحبه الحقيقي، وأن يُقنع نفسه بأنها لا شيء على الإطلاق، وأستميحكم عذرًا هنا أن أكرّر ما قلته من قبلُ: لو قيل لنا: “جرِّدوا أنفسكم مما هو لله، وقدموا تقريرًا بما هو صِرفٌ وخالصٌ لكم من دون الله، فالحقيقةُ أننا لن نستطيع أن نقدم شيئًا”، ومن ثم يقع على عاتقنا أن نتوجه إلى ربنا سبحانه وتعالى في محوٍ وتواضع وحياء وانكسارٍ.
ويمكن القول إن هناك حِكَمًا على هذا النحو تندرج تحت تخصيص الصلاة بخمسة أوقات في اليوم؛ لأن هرولة الإنسان إلى ربه خمس مرات في اليوم ووقوفه في حضرته سبحانه وتعالى في خضوعٍ تام فيه نوعٌ من الانقياد الكامل، فركوعُه يعبر عن التواضع، ووضع جبهته على الأرض وسجوده يعبر عن المحو كما يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ“[2].
والواقع أن لحظة السجود هي اللحظة التي ينسلخ فيها الإنسان من نفسه، وينصبغ بتجليات ربه سبحانه.. بمعنى أن الإنسان عند السجود ينسلخ من “أنا” نفسه، ويصل إلى “أنا” من تجليات ربه سبحانه وتعالى؛ بمعنى أن أقرب حالات العبد من ربه هي الحالة التي يتمكن فيها من محو نفسه.
أكمل الناس هو أكثرهم تواضعًا
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (سورة الأَحْزَابِ: 33/21)، وبالفعل كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم قدوة لنا في أقواله وأفعاله وجلوسه وقيامه وسائر سلوكياته، ولا غرابة في ذلك؛ أما خوطب كما روي في الأثر: “لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك”، وكما يقول الأستاذ نجيب فاضل رحمه الله: “لولاه ما خُلقنا”؛ هو مَنْ نورُه سابقٌ على سائر المخلوقات[3]، هو أينعُ ثمرة في شجرة الوجود، وبتعبير آخر: إن النور المحمدي هو نواةُ شجرة هذا الكون، وحبر القلم الذي سطّر كتاب الكون، وهو المرشد في معرِض هذا الكون، وكما يقول المحققون: “هو ذاتٌ جامعة لعلوم الأولين والآخرين، يستطيع بفضلٍ من الله وعنايته حلّ كلّ مشكلة، تعلّمَ الخلقُ منه الحكمةَ من خلق الدنيا وما فيها.
ورغم هذا كله فقد كان في الوقت ذاته صرحًا في المحو والتواضع، يمتدحه أحد صحابته قائلًا: “سيدنا”، إلا أنه يعاتبه على قوله هذا، وإن كان بالفعل هو كذلك[4].
ولما نزل قول الله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ (سورة القَلَمِ: 68/48) خاف صلى الله عليه وسلم أن تذهب الظنون ببعض الصحابة في حقّ سيدنا يونس بن متى فقال صلى الله عليه وسلم: “لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ“[5]، وذات يوم أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: “هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ“[6]، وعند بناء المسجد النبوي كان صلوات ربي وسلامه عليه يحمل الحجارة مع أصحابه[7].. ولما خرج ذات يوم في سفر
مع أصحابه، واحتاجوا إلى طهي الطعام، وتعهّد كل منهم بالقيام بعمل ما؛ تكفّل صلى الله عليه وسلم هو أيضًا بجمع الحطب؛ وذلك لأنه لم يكن يريد أن يتميَّزَ عن أصحابه حتى في الأعمال العاديّة التي يقومون بها.
وهكذا جمع أكملُ الكاملين الذي فُرشت النجوم تحت قدميه كأحجار الرصيف؛ في نفسه كلَّ الأضداد، فكان الكاملَ المكمّلَ بكل جهاته، وصرحَ المحو والتواضع أيضًا، فاستطاع بفضل مصداقيةِ وكمالِ حالِه ومقالِه أن ينفذ إلى الأرواح، وهذا أمر يدعونا إلى اتباع ذلك المرشد الأكمل على الوجه الأمثل.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: سيرة ذاتية، ص 97.
[2] صحيح مسلم، الصلاة، 215؛ سنن أبي داود، الصلاة، 148.
[3] السيرة الحلبية، 1/240.
[4] سنن أبي داود، الأدب، 10.
[5] صحيح البخاري، الأنبياء، 35؛ صحيح مسلم، الفضائل، 166-167.
[6] سنن ابن ماجه، الأطعمة، 30. والقديد: هو اللحم المملح المجفف.
[7] انظر: مسند الإمام أحمد، 2/381؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى، 2/66.