وبعد كلِّ هذا البحثِ الذي يدلُّنا على الحقِّ تعالى، نَمْثُلُ بين يديه؛ فكأن السورةَ من بدايَتِها إلى الآن هيَّأَتْـنا للمُثول بين يديه، نَمْثُل بين يديه ونقدِّم عبوديَّتَنا له ونقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهذه هي النقطةُ التي تَلفِتُ إليها مقولةُ: ” الصلاةُ معراج المؤمن ؛ فإنك تحلِّق وتصعدُ في الأعالي، وتتخطّى المكان، وتسمو إلى مقامٍ تقول فيه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ حيث تجمعُ بين “الجَمْع” و”الفَرْق”، ويا لها من سعادة أن توفَّقَ للعروج باعتقادِك ويقينِك كلّ يومٍ خمس مرّات إلى مقامٍ عَرج إليه سلطان الأنبياء بِجِسْمِهِ وروحِهِ ليلةَ المعراج.
أ. العِبادة – العُبوديّة – العُبُودة
﴿نَعْبُدُ﴾ فعلٌ مضارع للمتكلِّمِ مع الغير، يفيد حصولَ الفعل على سبيل التجدُّدِ، وهي مِن “عَبَدَ – يَعْبُدُ – عِبَادَةً وعُبُودِيَّةً وعُبُودَةً”.
ومعنى “عَبَدَ”: قام بالفعل بعزمٍ وتصميم، والعبودة: التواضعُ والخضوعُ، والعبودية: قيامُ العبد بالتعظيم والتبجيلِ لمولاه في نظامٍ معيَّن، والعبادة أن تعبد الله U طبقًا لما أَمَر به، في خضوع وخشوعٍ؛ بمعنى أنك -أيها العابِدُ- تُمَرِّغُ وجهكَ بالأرض وتتذلَّلُ أمام الله في عزمٍ وتصميمٍ، وحرصٍ على عدم توليتِكَ وجهَكَ شطرَ أيِّ شيءٍ سواه، وتقدِّم له التعظيم والتبجيل في خشوع وخضوع بَالِغَيْن، ولكن ليس بطريقة عشوائية، بل في نظام وميزان تلقيتَه منه تعالى، تَفعلُ ذلك وأنت تستشعر كبرياءَه وعظمته، وتُدرِكُ مدى ضآلة حجمك وقدرِك، فكأنك حينما تقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ تعني: “يا ربَّنا! أنا العبد وأنت المولى، وأنا الرقيق وأنت السيد، أنا الهائم المشرَّد في المتاهات، وأنت المولى المتعالي الذي يقول لي: “أما آن لك أن تأتيني؟”، فتستحضرُ هذه المعاني وأنت تقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.
ب. العِبادة – الطاعة – القُربة
والعبادة في المصطلح الإسلامي هي: الطاعة التي تُقَدَّم لله بقصدِ التقرُّب إليه تعالى، وبخالصِ النيّة، وعلى أمل الثواب منه تعالى.
وحينما تُطلَق العبادةُ فإن معنى الطاعة والقربةِ مندرجٌ فيها، ولكن في الوقت ذاتِهِ لكلٍّ من كلمات “العبادة” و”الطاعة” و”القربة” معنى يختصّ بها:
فالطاعةُ: فِعْلُ ما يُثاب عليه، أي امتثالُ الأمر، ولا يتَوقَّف على النيَّةِ ولا على معرفةِ مَن يُطاع.
والقربة: فعلُ ما يُثاب عليه، ولا يتوقَّف على النية ولكن يتوقَّف على معرفةِ مَن يُتقرَّب إليه.
وبهذا الاعتبار فالطاعة أعمُّ، والقربةُ أخصُّ منها والعبادةُ أخصُّ من القربة، أي كلُّ عبادة قربةٌ وطاعةٌ في الوقت نفسه، وليس كلُّ قربةٍ وطاعةٍ عبادةً.
ولنوضح هذا بمثال:
إنَّ تَفكُّر الإنسان في نفسه وفي الكون، أي إنّ تَفكُّره الآفاقيَّ والأنفسيَّ إذا تحقَّق منه من دون أن يَعرف مَن يجب عليه أن يَعرِفَهُ، فإن ذلك لا يُعد قربة ولا عبادة، لكنه طاعةٌ، فمثلًا: إننا نقوم بالبحث في الآفاق والأنفس، ونشتغل بعلومٍ مثل الفيزياء والكيمياء والفلك وعلم الأحياء، وفي أثناء ذلك نرجع إلى أنفسنا ونخوض في التدقيقات الأنفسية، وبمثل هذه التدقيقات نكون قد خُضنا في تفكُّرٍ وتذكُّرٍ عميقَيْن، وذكرٍ وفكرٍ دقيقَيْن، ولكن مثل هذه النشاطات مع أنها نوعٌ من الطاعة لأمر الله تعالى، لكنَّها لا تُعَدُّ قربةً ولا عبادة، وإنما هي ليست عبادة؛ لأن القيام بمثل هذه الأعمال لا يحتاج إلى نية العبادة، وليست قربة؛ لأن المتفكِّرَ لا يَعرف بَعْدُ ذلكَ الكبيرَ المتعاليَ، ففي مثل هذه الجادة النورانية إذا قلنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ مستشعرين معانيها بكلِّ كيانِنا فإننا سنصل إلى الهدف، وأما قراءة القرآن، وإيتاءُ الصدقاتِ ونحوُها فإنها تُعَدُّ طاعةً وقربةً لأنها لا تحتاج إلى نيّةٍ، ولكنها لا تُعَدُّ عبادةً حسب المواصفات التي ذكرناها آنفًا.
فـ”العبادة” هي نوعٌ من الحركات المنتظِمة التي تتجلَّى في توجُّه الإنسان إلى الله بكلِّ كيانِهِ، وبجميع مشاعِرِهِ، وبكافَّةِ حواسِّه الظاهرةِ والباطنة، وبِمَلَكَاتِهِ الفكريّة، وعالمِهِ الحسِّيِّ، وبعقلِه ولسانِهِ.
فهذه النقاط التي ذكرناها هي من التفسيرات الواردة للعبادة في الإسلام، ونحن بدورنا حينما نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فإنما نقصد بها هذه المعاني، إن العبادة اسمٌ لتوجُّه العبد إلى ربِّهِ بكلِّ تعظيم وتكريم، مع استحضاره لعجزِهِ وافتقارِهِ وضعفِه وحاجاتِهِ ولا شَيْـئِيَّـتِهِ، ومع العلم بأن كلَّ السعادة والحبورِ والرَّغَدِ والفرحِ هي في القرب منه، ومن حيث إنه لا يمكن ولا يجوز تكريمُ غير الله بهذا النوع من التعظيم والتبجيل، فما يفعله الإنسانُ أمام غيره من الاحترام بالقول أو الفعل وسائر أنواع التبجيل لا يُسمَّى “عبادة”، فالعبادةُ حقٌّ خالصٌ له وخاصٌّ به سبحانه وتعالى.
ج. العبادة وروحُ الإنسان
وأما تحليلُ هذا الأمر من زاويةِ علمِ النفس فهو: أن نفسَ الإنسانِ تنزلُ بها الآلام والأكدارُ، كما تمرَّ بها الآمالُ والمسرَّات، والإنسان بطبيعتِهِ يكون -دائمًا- مرتابًا تجاه الأمور التي تُخلِّف في نفسه الأذى، فيحاول الابتعادَ عنها؛ وهو -بالمقابل- مولَعٌ بالأمورٌ التي تؤدِّي إلى الملذَّات، فيظلُّ متعلّقًا بهذه الأمور بأملٍ، ويتشبَّثُ بها بحرصٍ، وبطبيعة الحال يستقبلُ الأسبابَ المؤدِّيةَ إلى الأذى بكراهيةٍ ويكون متيقِّظًا تجاهها.
وهذا يعني أن الإنسان أمام نوعين من الأحداث؛ إنه يَلقى أمورًا لا يفتأُ يطلبُها ويشتهيها ويلهثُ وراءَها ويَمُدُّ يديه نحوَها وينشرِحُ لها، وهناك أمور أخرى يُعاني وينزعجُ منها ويخافُها ويحاولُ الهروبَ منها، إنه بمثلِ هذا الخوفِ وما ينتجُ عنه من تهرُّبٍ، وبمثلِ تلك المحبَّة وما يستند إليها من أملٍ يحافِظُ على التوازنِ الذي هو مقتضى إنسانيّته، وهذا التوازنُ من الأهمِّيَّةِ بمكان، بحيث إنه إذا انقطع الرجاءُ والأملُ من الفردِ والمجتمعِ فإن اليأسَ سيُطِلُّ برأسِهِ، وسيَخمدُ العزمُ على العملِ بالكلّيّة، وستنطفئُ جذوةُ النشاطِ والحركيّة، فإذا فَقد الإنسانُ الأملَ قبعَ الكسلُ واستفحلَت العطالةُ في داخله، فحتى لا ينمحي الشعور بالأمل لا بدّ من عدمِ ذبولِ وردةِ المحبة التي هي منبع الأمل، بل تظلَّ حيَّةً نابضة، وكذلك الخوف إذا انمحى من الفرد والمجتمع فإن الفرد والأسرة والمجتمع وكلَّ الأمة قاطبةً سيبدؤون بمباشرةِ أعمالٍ غير محسوبة النتائج، وهذا الأمر سيؤدي إلى طغيان البشرية جمعاء.
ولذلك فقد تَزامَنَ خَلقُ الإحساسِ بالخوفِ والمحبَّةِ مع خلقِ الإنسان؛ حيث اندَرَجَ في ماهيَّةِ الإنسانِ شعورٌ بالمحبَّةِ، وهذا الشعورُ من السَّعَةِ بحيث يستوعبُ جميعَ الكون، كما أنه وضعَ في ماهيَّتِهِ الإحساسَ بالخوفِ بحيث إنه يَشعُرُ بالرهبَةِ الشديدة تجاه الأحداث التي تنتظِرُهُ أو التي يتوهّم أنها له بالمرصاد؛ فأحيانًا تتزعزعُ أركانُ آمالِهِ كلِّيًّا جرَّاء هذا الخوف، بل إنه لَيَخَافُ من الانهدامِ والاندحارِ كلِّيًّا، فتراه يَرهب وترتعد فرائصُهُ من المثولِ أمام الله تعالى هكذا مسودَّ الوجه صِفرَ اليدين.
هذا الأمر في حدِّ ذاتِهِ لا بدَّ منه لدوام العدل والاستقامة، ولكن إذا أسيءَ استخدامُهُ فإنه يجعل الإنسان يخافُ كلَّ شيءٍ؛ من الزلازل والمذَنَّبات ولَدْغِ الحيات ولسع العقارب، حتى من الميكروبات التي لا تُرى، وهذا الخوف من شأنه أن يعكِّرَ صفوَ الإنسانِ ويكدِّرَه في قابلِ حياته، لأنه يخاف أشياء لا تَعرِف الرأفةَ والرحمة؛ فمَن تعرض لهذا البلاء فلن يحظى بالسكينة والطمأنينة إلى أن يمحوَهُ من ذهنِهِ.
وأما فرطُ المحبَّةُ فهي أيضًا مصيبةٌ محفوفةٌ بالبلايا؛ فقد يميلُ الإنسان إلى أمورٍ ويتعلَّقُ قلبُهُ بأشياء، ويلهث -بكلِّ أملٍ- وراءَ أشخاص، إلا أنهم لا يلتفتون إليه ويفارقونه من دون كلمةِ وداعٍ حتى. أجل، إن شبابَك وطاقتَك وحيويَّتَكَ ستذهبُ عنك من دون أن توَدِّعَكَ، بل إن شريكةَ حياتِكَ وأمَّكَ وأباكَ وأولادَكَ لا يودِّعونك حينما يذهبون إلى الآخرة.
أجل، المحبَّةُ أيضًا قد تتحوَّلُ إلى مصيبةٍ، فإذا أسيءَ استخدامُها عادت على الإنسان بالويلات، قد يشتدُّ ارتباطُ الإنسانِ بما أحبَّهُ وعلَّقَ عليه آمالَه بحيث يكون عبدًا رقيقًا له، فيجعله هذا التعلُّقُ الشديدُ والمحبَّةُ البالغةُ أعمى وأصمّ، فلا يعير سمعًا لأيِّ شيءٍ يُقالُ ضدَّ محبوبِهِ، ولا يَرى ما سيتعرَّضُ له محبوبُهُ من الفناءِ والزوال.
فكلُّ أنواعِ الشركِ وعبادةِ الأوثان واتّخاذ الشركاء والأنداد لله تعالى قد نشأت من هذه المشاعر، فتحوَّلت الأشياءُ المحبوبةُ أو المرهوب منها إلى آلهةٍ تُعبَدُ.
نعم، إن الحاجةَ إلى الأمنِ تجاهَ الأمور المخيفةِ، ورجاءَ الحصول على إحرازِ الأمور المحبوبة؛ قد أَنتجت ركامًا من المعبودات، فما إن يتعلّق القلبُ بالفانيات الزائلات حتى يكون الإنسان في الخسران؛ فإنه قد يتعلَّقُ بما لا يَضمن له عدم الرحيل إلى العالم الآخر قبله، ولا يستطيع تحقيقَ ما عُقِدَ عليه مِن آمال.
كان رسول الله سلطانًا للقلوب ينبغي لكل أحدٍ أن يرتبطَ به من أعماق قلبِهِ؛ فقد كان كلُّ قلبٍ طاهرٍ برَّاقٍ يحبُّهُ حبًّا جَمًّا، مع ذلك فإن الذين فهموا جيِّدًا ووعَوا أهـمِّــــيَّــةَ الحفاظ على التوازن في موضوعِ تعليق القلبِ بالباقي دون الفاني لم يتزعزعوا بوفاتِهِ؛ وأما الذين تعلَّقوا بالفاني، فإنهم لم يصمدوا، وبعضُهم تركوا دينَه وارتدُّوا عنه.
إن كلَّ شيءٍ قابلٍ للتطور والتغير فإنه في نهاية أمره سيؤول إلى الزوال، والرسولُ الأكرم كان قد أدَّى ما عليه من التكاليف بأخلص المشاعر وأنهى مهمَّتَه، ومِن بعد ذلك استجابَ لدعوة ربه، وقد يكون من المفيد الحديثُ عن حدثٍ لافتٍ للأنظار ذي علاقة بهذا الموضوع:
في هذه الفترة الحرجة التي التحق فيها الرسول بالرفيق الأعلى تعرَّضَ الناسُ لزعزعةٍ، حتى سيدُنا عمرُ بن الخطاب ذو العقل الراقي الذي كان يَعرف جيِّدًا الحفاظَ على التوازن بين الباقي والفاني عاتبَ وكذَّب يؤمئذٍ مَن قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وكان ثـمَّةَ رجل يتعلق قلبُهُ بالباقي على قدر بقائِهِ وبالفاني على درجةِ فنائِهِ، هو الصِّدِّيق الأعظم رضي الله عنه، فكان يسكن في حيٍّ قريب من أحياء المدينة يُدْعى “السُّنْحَ”، فلما نزلَ المدينةَ لاحظَ السُحُبَ السوداء التي خيَّمت على آفاقِها؛ وكان الناس يبكونَ ولا ينبسون ولو بِبنتِ شفة، حتى إن شخصًا مثل سيدنا علي الحيدر الكرار الذي كان حينما يزأرُ ترتعدُ منه فرائصُ الأُسُود، لم يعد قادرًا على الوقوف على قدميه، ولكن الصادق إذا طُلِبَ منه الصدق والإخلاص فإن إظهارَهُ لصدقِهِ يكون من باب الأداءِ بالواجب.
نعم، إن الصِّديق الأكبر كان يحملُ على عاتقه مسؤوليَّةً كبرى؛ كان عليه أن يغيِّر الجوَّ السائدَ هناك، ويُحْدِثَ تيَّارًا جديدًا كلَّ الجدَّة، ويبيِّنَ لمن كان هناك: مَن هو الباقي ومَن الفاني؟ ولكنه قبل ذلك مرَّ على الحُجرة الشريفة، واقتربَ من الرسول وقبَّل وجهه الأزهرَ الأنورَ، ويا لهما من شفتين نظيفتين تمسَّان تلك الجبهة الطاهرة؛ ففي أثناء ذلك يقول: “بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا”، وبعد ذلك دخل المسجد، فشقَّ صفوف الصحابة المهزوزين المرزوئين المدهوشين، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عليه وقال: “أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ”، ثم قرأ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقرأ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/144).[1]
فالصحابة أفاقوا جميعًا عن غفوتِهم فجأةً، حيث تأكَّدوا من أن الرسولَ قد ارتحل، والوحيَ قد انقطع، ولكن كأنهم كانوا يتساءلون فيما بينهم وبين أنفسهم: هل نزلت هذه الآية للتوّ!؟ فكأن عِظمَ المصيبةِ أذهلهم عن وجود مثل هذه الآية في القرآن الكريم، ولم يكن يخطر ببالهم ويدُور بخَلَدهم إلى ذلك الحين أن شمسَ الشموسِ من الممكنِ أن تأفلَ أو تغيبَ عن ناظِرهم.
فالآية الكريمة كانت تقول لهم: ليس محمد إلا رسولًا لله شريفًا ليس غير ذلك، ومِن قَبْلِه قد أتى رُسلٌ مثله وراحوا، فإن توفاه الله أو قُتِل فهل ستنقلِبُون على أعقابكم وتَترُكون دينَه؟
لقد نزلَتْ هذه الآية يوم موقعة أُحد، ولم يزل الصحابةُ الكرام يُرَتِّلونها إلى أن جاءَ يوم رحيلِ رسول الله، ولكنهم ما كانوا قد فهِمُوا ما تنطوي عليه من المعنى على الوجه الذي فَهِمَهُ أبو بكر، والرسولُ قد أدَّى مهمَّتَهُ ورحلَ، ولكن الله باقٍ لا يموت.
فكأنما أحدث صوت سيدنا أبي بكر موجةً في المسجِدِ هزَّتْ كيان المجتمعين، وأخذ الصحابة يؤوبون إلى الله من جديد، فصار هذا الجَـيَشانُ والتموُّجُ بمنزلةِ سدٍّ أمام الفِتَنِ التي تُراد إثارتُها إثرَ وفاةِ رسول الله، وصار بمثابة إنذارٍ مبكِّرٍ لهم تجاه ما سيظهر في الأوقات اللاحقة من الأحداث والفِتَنِ المتعاقِبَةِ، ودفَعَهم إلى التنبُّهِ والحَذَرِ.
وإذ وصل بنا الحديث إلى هذه النقطة نريد أن نُذكِّرَ بما قلناه سابقًا فنقولُ: هل مِن الفانين الذين ارتبطت بهم قلوبكم وعُلِّقَتْ عليهم آمالكم مِن أحدٍ يضمنُ لكم أن لا يرحل من هذه الدنيا قبلكم، وأنْ يلبي كل أمانيكم ورغباتكم؟؟
فإذا كانت المحبة التي لا بد من توجيهها إلى الله لا يجوز توجيهها حتى إلى رسول الله، فلا بدَّ لكم من أن تُعيدوا النظرَ مجدَّدًا -من منظورِ عقيدةِ التوحيد- في المحبَّة والتعلق اللذَين تُبدونهما نحوَ كثير من معبوداتكم وأصنامكم الفانيات.
فالقلبُ إذا توجَّهَ نحو الفانيات؛ أوقعَ صاحبَه في ازدواجيّةٍ مخيفةٍ، ويصبح وكأنه ذو شخصيَّتين، لأن الإنسان يحملُ بين جوانحِهِ الخوفَ والمحبَّة، ولكن هذه المحبَّة والخوف إذا لم يجدا صاحبَهما الحقيقيّ فإن الإنسان قد يُصبح قلبُهُ متعلِّقًا بما يخافُه ويحبُّه، بل أحيانًا ما يعبدُه، وهكذا يكون قد اختلقَ آلهةً عدّة وسَلَّطها على نفسه؛ ولكنه إذا عَرَف المرجعَ الأوَّلَ والأخير لذلك الخوف وتلك المحبةِ، وتَقبَّلَه بكلِّ روحِهِ وكيانِهِ؛ فإن ذلك الإنسان يكون مترقِّيًا إلى التوحيد، وبفضل هذا الخوف وهذه المحبة يُحرزُ السكينةَ والطمأنينةَ الحقيقيَّتين.
وهذا يعني أن الخالق الأعظمَ والصانعَ الأجلَّ الذي خلقَنَا قد أودَعَ فينا الآليَّات والقدراتِ التي من شأنها أن توجِّهَنا إليه تعالى، وهي تقوم بهذا العمل فعلًا، وفي الوقت نفسِهِ أودع فينا محبَّةً تَسَعُ الكون، ومهابةً عظيمةً تَسَعُ العوالم، ومِن أحسنِ الأمثلة على هذا محبّةُ الطفل لأمِّهِ والأمِّ لطفلها.
والإنسانُ إذا ضاقت به الدنيا وصارَ يرتجفُ فؤادُهُ من خشية الله وخافَ أن تخيبَ آمالُه بالكلّيّة يلجأ إلى الله، ومثلُ هذا الخوفِ فيه من اللَّذة ما لا يُدرَك أعماقُه ولا يحاط بحدوده، فإذا كان الخوفُ تكمن فيه لذَّةٌ على هذه الشاكلة فما بالك بلذَّةِ المحبّة، فالعبوديّة لله إنما تتحقَّقُ بالخشية البالغة مقرونةً بالمحبَّة البالغة، وكذلك الوظيفة التي نسمِّيها “العبادة”، هي عبارة عن الجمعِ بين هذين الأمرين اللذين يبدوان في ظاهرهما وكأنهما متناقضان، ففي العبودية نلاحظُ ونشاهِدُ أن بحارَ المهابة ومحيطاتها تفور، وأنَّ أمواجَ المحبَّةِ تتلاطم، وأن رياحَ الاحترام العميق ونسائمَ السكينة اللامحدودة تهبُّ فتغمر الروح، وهذه هي ماهية “العبادة”.
إن الذي لا يُدرِك مدى عجزِهِ وذلَّتِهِ، ولا يعرفُ مدى قيمةِ الرحمةِ والأملِ؛ لهو تعيسٌ سيِّئُ الطالِعِ، وغير مُدْرِكٍ لنشوةِ العبادة. نعم، إن في روح العبادة تمريغًا وتعفيرًا للوجه في الأرض أملًا في رحمة الله، وفيها ارتعادُ الفرائصِ خوفًا من خيبةِ الآمال، أي إنّ عظيمَ الخوفِ يتداخَلُ فيها مع عظيمِ البهجةِ والسرورِ اللامحدودين، فإذا جمعتُم بين الخوفِ والرجاءِ؛ فلكم أن تؤْمنوا بأنكم في حضرةِ المولى U وبذلك تقيمون التوازنَ.
أما المتفائلون المتكبرون الذين يصولون ويجولون في شموخ وكبرياء وليس لهم من الخشية والخوف نصيب وتعلَّقَت آمالهم بالأماني والأحلام، والبؤساءُ الذين يتخبَّطون في اليأسِ الذين لم يُدركوا مدى سموِّ مقام العبودية، فهؤلاء كلُّهم لن يستشعروا في وجدانهم لذَّةَ هذه النشوة والطمأنينة.
د. النيَّةُ روحُ العبادة
كما أنه لا بدَّ من مراعاة التوازن والانضباط والعمل ضمن القواعد التي وضعها الله؛ فكذلك لا بدَّ من النيّة الخالصة؛ يقول رسول الله : “رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ”[2].
فهذا يعني أنه لا بدَّ من أن يتوجَّه القلبُ إليه فقط؛ فلن تُعَدَّ الزكاة التي تُدفع من دون تذكُّره زكاةً ولا الصدقةُ صدقةً، بل هي نوعٌ من تبذير المال وهَدْرِهِ هنا وهناك، وشكلٌ من أشكال الأخوَّة والصداقةِ مع الشيطان كما عبَّرَ عن ذلك القرآنُ الكريم[3]، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكَرِ إذا لم يُقصَدْ بهما وجهُ الله يكونان عبارةً عن جدلٍ وخداعٍ للناس بغوغاءِ الكلام والديماغوجية، والجهادُ الذي لا يُبتغى به رضاه تعالى ليس إلا نوعًا من البهرجة والرياء، وهدرًا للثروة والوقت، فلا بدّ أن يكون الهدف والغاية في روح “العبادة” هو “المعبود”، وأن يتوجّه “العبد” إلى “المعبود”، وأن تُقدَّم العبوديةُ إلى “المعبود”، فلا بدَّ من عدم الفصل بين مسمّيات (العبادة-العبودية-المعبود) التي تشترك في أصلِ الاشتقاق.
فالعبدُ يناجي ربَّه قائلًا: مثلتُ بين يديك بذُلّـي مستحضِرًا عزَّتَك، وحضرتُ بمهانتي مستشعرًا عظمتَك، فأنا الذي لا أنحني ولا أُخضِع رقبتي لأحد، ها أنا ذا أنحني وأُخضع رقبتي لك، وأدوسُ على كبريائي، وأُمَرِّغُ وجهي بالأرض بروحانيّة السجود لك؛ لأنك أنتَ المعبودُ وأنا العبد، وأنت الخالقُ وأنا المخلوقُ، أتيتُ إلى بابك مُعلِنًا كلَّ فقري وفاقتي لك، لأنكَ وهبتَ لي عقلًا وقلبًا وإرادةً وشعورًا، وجمعتَ هذه الأمور وجعلتَها أركانًا لوجداني، ووجداني هذا يريد أن يقدِّم إليك امتنانه وثناءه، ولْتشهدْ كلُّ الكائنات أنني أنا العبدُ لك، وها أنا ذا أفتخر بهذا.
فالمؤمن حينما يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ يستشعر ويستذكر هذه المعاني، وليس هذا ذُلًّا وصَغارًا، بل هو تعبيرٌ عن إدراك الإنسان للطريق نحو العظَمَةِ الحقيقيّة، والشطرُ الثاني لكلمةِ الشهادة (وأَشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه) يعبّر عن هذه الحقيقة، إن سيِّدَنَا محمدًا عبدُ الله ورسولُهُ، إنه قبلَ كلِّ شيءٍ عبدٌ للهِ، وعبوديَّتُهُ مستمرة، كان عبدًا قبلَ أن يكون رسولًا، فجاءَتْهُ الرسالةُ ودامت عبوديّته، وبوفاتِهِ ذهبت الرسالةُ وما ذَهبَتْ عبوديَّتُهُ.
فنحن إذ نخاطِبُ الله بـ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فإنما نقصدُ بذلكَ عبوديّةً من هذا النوع.
نعم، إننا لن نتنازلَ عن حرِّيَّتِنا ولو أُوتِينا في مقابلها الدنيا وما فيها، ولن نَقبل الأَسْر لِغَيرِ الله، ولن نُعلِّقَ من أجل غيره تعالى أطواقًا في أعناقنا، ولكن لو كانت لنا أرواح بالآلاف، ورؤوسٌ بقدر شعر رؤوسنا فإننا نفديها بكلِّ سرورٍ وحبورٍ لله الذي خلقَنَا ثم جَعَلَنا نستشعر بوجودِه في وجداننا، وسنواجِهُ كلَّ المخاوِفِ في طريقِهِ، ونضحِّي بكلِّ ما نحبُّه في سبيله، ونفعلُ ذلكَ كلِّهِ بشوقٍ؛ لأنَّنا إذ نَفقِدُ كلَّ شيءٍ فإنّنا سنظفرُ بهِ هو، ونعتبر التضحيةَ في سبيله غايةَ الـمُنى، ولإحرازِ رضاه في عبقِ محبَّتِهِ والاحترامِ له سنفضِّلُ العيش في خضمِّ العَرَق والرَّهَق والدموع على العيش في الجِنان.
فنحنُ في غمرةِ هذه المشاعرِ الطافحة والإخلاص في النوايا نحملُ على عاتِقِنا وظيفةً عظيمةًتنوءُ الجبالُ بحملِها وتُشفِقُ على نفسِها منها، يقول الله معبِّرًا عن هذه الحقيقة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (سورة الأَحْزَابِ: 33/72)، فالجبلُ والحجرُ لم يكونا قادِرَين على النهوضِ بحملِ هذه الأمانة، ولذلك أبَيَا حَمْلَها لـمَّا عُرِضَ عليهما.
هـ. المناسبةُ بين العبادةِ والاستعانة
إن ما بين كلماتِ القرآنِ وجُمَلِهِ من التناسُبِ وما بين تعبيراتِهِ من التناغُمِ والتماسُكِ والانسيابيّة الحلوةِ الرائعة لَـخَيرُ مُعَلِّمٍ لنا كيف نتصرَّفُ حينما نتحمَّلُ هذه الأحمال الثقيلة التي أشفقتْ مِن حملِها السماواتُ والأرضُ والجبالُ، وتُنير لنا الطريق، وتسلِّط عليها الأضواء، ونحن بدورِنا بعد أن نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/5) نلتجِئُ إليه بقولِنا: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/5) أي لا نطلبُ العونَ إلا منكَ؛ وإلا فستنقَطِعُ بنا السُّبُلُ ونتيهُ ونُصْبِحُ ضائعين هائمين.
والاستعانةُ بالله تعني: طلبَ المعونة منه في كلِّ الأمورِ، والدعاء إليه ليسهِّل العبادات، والاتكالَ على عونِهِ وعنايتِهِ في كلِّ الأمور التي يواجهُها الإنسان، وعلى هذا فنحنُ إنما نطلبُ العونَ في عباداتنا وأعمالِنا بكلِّ إخلاصٍ ومن صميم قلوبِنا وأعماقِنا من الله تعالى فقط لا غيره، كما ورد عن حبرِ الأمَّة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: “يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”[4].
وهنا أمرٌ لا بدَّ من التنبُّهِ له، وهو أن عونَ الله نوعان: ضروريٌّ، وغيرُ ضروريٍّ؛ فالضروريُّ منه هو ما أودَعَهُ اللهُ برحمتِهِ في ماهيَّتِنا من أعضاء وقابليّات، فنحن نُبْصِرُ بأعيُنِنا، فنأخذُ ما تلتقِطُه أبصارُنا ونقوِّمها في مختبرِ الفكرِ، ونحاول أن نصنعَ منه خلايا شَهْدِ المعرفةِ الإلهية، وهذه العمليَّة تُجرى في الرأسِ، وقد أودع في الرأس الآليّات اللازمة، ووضع بين الآليات مناسبةً، وجعل منها مَصنعًا يُعملُ كلُّ شيءٍ فيه، فكلُّ هذه الأمور التي منحَنَا الله إيَّاها منذ البداية نسمِّيها -إن جازَ التعبير- “العونَ الضروريّ”، وإذا حصل النقصُ في أيِّ عنصرٍ من عناصرِهِ فلن يستطيعَ الإنسانُ تحقيقَ الأمور المطلوبةِ منه.
وهناك من العون ما هو غير ضروري، حيث إننا إذا فعلنا شيئًا فإن الله تعالى يحفِّزنا ويُيَسِّرُ لنا ويهدينا السبيلَ ويأخذُ بأيدينا باسْمِهِ: “الهادي”، وينيرُ لنا الطريقَ ويُرشدنا، ويمكنُ لنا استعارةُ التعبيرِ الأصوليِّ لتوضيحِ هذين القِسمين من أقسام العون الإلهيّ؛ فالقِسمُ الأوّل من العون الذي ذرأهُ الله في آلياتِنا الفطرية -وهو الضروريُّ- يُسمّى: “القدرة المُمَكِّنة”، وهي: عبارةٌ عن أدنى قوَّةٍ يتمكَّنُ بها المأمورُ من أداءِ ما لَزِمَهُ، والقسمُ الثاني -وهو غيرُ الضروريِّ-: “القدرة المُيَسِّرة”، وهي: ما يوجِبُ اليُسْرَ على الأداء، فكلُّ الأعمال التي نقوم بها، إنما ننجِزُها بالأعضاءِ والقابليَّاتِ التي خلقها الله وأودعها فينا فطرةً؛ وهذا ما أشرنا إليه بالقوة الممكِّنة، ثمَّ نحقق ذلك بالاعتماد على عنايتِهِ ولُطفِهِ وتيسيرِهِ؛ وهو ما أشرنا إليه بالقوّة الميسِّرة.
ولا بدّ لي في هذا السياق من التنويهِ بما يلي:
إن الله خلقَنَا وهو هو خالقُ أفعالِنا وتصرُّفاتنا التي ننسبُها إلى أنفسنا قائلين: “فعلتُ، أنجزتُ”، فـ”الخَلقُ الأولُ” “جَبْريٌّ”، والله تعالى لم يستشر الإنسانَ في هندسةِ الكون الذي خلقَهُ، فهو الذي خطَّطَ له بنفسِهِ، وهو الذي خلقَهُ، وهو الذي أوجدَهُ وأنشأه، فالذي يهيمن على هذا الجانب من الأمر هو “الجبرُ” والحاكميةُ المطلقة بكلِّ ما للكلمةِ من معنى، وللإنسان من الإرادة ما يُكسبه الجنةَ أو النارَ ويؤدي به إلى إحداهما، وقد مُنحَ الإنسانُ هذه الإرادَةَ برحمةٍ من الله تعالى، وكما كان اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ كذلك هُوَ هُوَ خالقُ الأفعال التي يكسبها الإنسانُ بإرادته.
فالله تعالى إذ يقول في كتابه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/5) فيُعلِّمنا التوجُّهَ إليه، ويمنحنا صلاحيَّةَ طلبِ المعونة منه؛ فكأنه يقول: إن لكم أن تستعينوا؛ فمنكم الطلبُ والكسبُ والتوجُّهُ، ومني الخلق والإيجاد والأخذ بأيديكم، وكذلك منكم التحفُّزُ والمبادرةُ، ومني السموُّ بكم نحو أعلى الأعالي، ونحن بدورِنا إذ نستجيبُ لِأَمْرِهِ، فنطلب منه ونتعلّم من كلامه المجيد كيفيَّةَ الاستعانة؛ نلاحظ أننا قد أوتينا صلاحيَّةَ الطلب والسُّؤْلِ منه، ففي كلِّ أعمالنا التي نُنْجِزُها هنا جانبٌ من أثر “الفاعلِ الخالقِ” ؛ فكلُّ ما يأتي إلى الوجود هو خالقُه، أي “خَلْقُ” أفعالِ العباد منه، وأما “الكَسْب” فهو منا، وفي أفعالنا يجتمع هذان الأمران.
وقد أوتي الإنسانُ في هذا المقام حَظْوةً وشرفًا؛ بحيث إن الخالق يقاسِمُهُ الأمرَ؛ بمعنى أننا نقوم بالعبوديّة، والله يأخذُ بأيدينا، وإذا فَهِمْنَا الموضوعَ على هذا الشكل فلن يكونَ هناك مجالٌ للانحراف نحو “الجبر” أو”الاعتزال”.
وأودُّ هنا أن أتطرَّقَ باختصارٍ شديدٍ إلى موضوعِ “القَدَر”، وإن كان من الأنسبِ تناولُ هذا الموضوع ضمن مباحثِ القَدَرِ، حيث سَبَقَ أنْ تناولناها في بحثٍ مستقِلٍّ.
إن الأشياء قبلَ أن تُخلقَ كانت موجودةً في علمِ الله “وجودًا عِلميًّا”، ثم خُلِقَتْ وأُوجِدَت بقدرةِ الله وإرادَتِهِ وفقَ هيئاتها في علمِ الله، و”عِلمُ اللهِ” بالوقائع قبل أن تَحدث لا يُجبِرُها على الوجود بشكلٍ أو بآخر، لا سيّما الإنسانُ -الذي جُلُّ رأسماله عبارةٌ عن الكسبِ- أينما تَوجَّهَ بإرادَتِهِ فالله يَخلُقُ الأمور على حسب ذلك.
والقَدَرُ يعني حُكْمَ الله للأشياء التي ستوجَد بأن كيف ستوجَد، وأن يَعلمه اللهُ تعالى بعِلْمِهِ الأزليِّ آخذًا إرادةَ الإنسانِ -إن صحَّ وجازَ التعبير- بِعينِ الاعتبار.
فتسجيلُ الأعمال التي سيُنجِزُها الإنسانُ في صحائفِ العلمِ الإلهيِّ -مع اعتبار الإرادةِ البشريَّةِ- ليس مجبِرًا الإنسانَ على فعلِ هذهِ الأعمالِ، وهذا يردُّ ما يقول به المعتزلةُ وما يقول به الجبريّة بتاتًا. أجل، إن العملَ والكسبَ مِنَّا، والخلق والإيجاد من الله، والتوجه نحو العمل هو مِنَّا، وأما الأخذ بأيدينا فهو منه، فمنَّا العبودية، ومنه أن يُدخِلَنا الجنة.
وهكذا فإنَّ ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/6) تعبيرٌ ذو حلاوة -وأيَّةُ حلاوةٍ- عن مقابلةٍ بين الخالق والمخلوق؛ فهذا تعاقُدٌ وتعاهُدٌ من الشرفِ ومن السموِّ بحيث إن البشريَّةَ لم ترقَ إلى شرفٍ وحظوةٍ أسمى منه؛ فلو قيلَ لأحدِنا: لقد تبوَّأْتَ منصبَ السلطان على البلدِ الفلانيِّ، فإن هذا المنصبَ العالي والمقامَ الراقي يتضاءَلُ أمام هذا التعاقُدِ الذي حصلَ بين الإنسان وربِّ العزَّةِ الذي له مقاليد السماوات والأرض، والذي يتوجَّهُ إلى قلبِكَ في هذه الدائرة الواسعةِ للربوبيّة، ويقلِّبُهُ بين إصبعيه، إن مقاولتك هذه وقولك: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/6) لهو شرفٌ عظيمٌ لك يستعصي على كلِّ الأوصاف.
أجل، إن الله الذي يتصرَّفُ بعنوان “رب العالمين”، ويسوقُكَ نحو الكمال، والذي جَعل باسْمَيه: “الرحمن” و”الرحيم” وجهَ الأرض مائدةً وعالَمك الخاصّ مائدة أخرى فتجلَّى برحمانيَّتِهِ ورحيميَّتِهِ، بمعنى أنك إذا تناولْتَ لقمةً إلى فمِكَ فإنه -تعالى- بالنظام والآليَّة التي وضعها فيك يبلِّلُ تلك اللقمة، وبرحمتِهِ يجعلُ غدَدَ معدتِكَ تفرزُ الماء، فيُسهِّلُ عمليَّةَ الهضمِ ويحرِّكُ جهازَ الأمعاءِ والكبدِ والكلى وكثيرًا من الأمور التي لا تُحسّ بها أنت ولا تشعر، ويُريك مِن وراء كلِّ حادثة رحمانيَّتَهُ ورحيميَّتَهُ، ويبسطُ لك على وجهِ الأرضِ موائدَ أفخمَ وأحسنَ وأرقى من الموائد التي تبسطُها أنت، ويلبّي -من خلال الأمور التي يقدِّمها لك ولأمثالك- ما تحتاجونه من الفيتامينات والبروتينات، وفوق ذلك يُريك رحمانيَّتَهُ ورحيميَّتَهُ من خلال ما يوجِد في ألفِ نوعٍ ونوعٍ من النِّعَمِ من الطعمِ واللونِ والرائحةِ الطيبة، فذلك عرَّفك اللهُ بنفسِهِ، وبذلك أعطاك شرفًا وحظوةً.
ثم باسمه ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ جَعَلَك تَشعُر في وجدانِكَ بِذاتِهِ، وذكَّرك بيومٍ يُجَازَى فيه الخيرُ والشرّ، فدعاك بذاك للاستعداد والتهيُّؤِ له. نعم، إنك تخطو اليوم خطواتك حسبَ الغدِ، فالله هو الذي حباك بذلك، إنك اتخذتَ هيئةً حسبَ تكوينك المعنويِّ وحياتِكَ الروحيَّة، وجمعت مقدارًا من الثروة، ولكن رأسمالك إنما أتى منه؛ لأنه هو الذي منحَكَ المواد الأولية بلطفه وإحسانه، ثم هو الذي هداك إلى الطريق الحق، ووفَّقك للأعمال الصائبة.
ولكن بالإضافة إلى ذلك كلِّه، تَوجَّهَ إليك وخاطَبك كأنَّ لك دَخْلا ومالكيةً في كلِّ ما أحرزتَه، وكأنك مالكٌ لبعض الأشياء، فقال لك في معادلة ومقابلةٍ: “يا عبدي، منك الكسب ومني الخلق والإيجاد، منك السير في طريق الجنة، ومني إدخالك الجنة، منك اجتنابُ المعاصي، ومني التوفيق…”، قال ذلك وكأنه يتعاقدُ معك، فنحن إذ نقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ كما أن الرسول الأكرم سلَّم على الله ليلة المعراج فتَلقَّى السلامَ، وكما أنه تَقبَّل لأمَّتِهِ من الله هديَّةَ الصلاة، وكما أنه خُفِّفَ عن أمَّتِهِ التكليفُ في عددِ الصلوات من دون نقصٍ في الثواب، فنحنُ كذلك في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ نحسُّ ونشعر بكلِّ كيانِنا بالتعاقُدِ والمقاولةِ نفسِها، وتطفحُ قلوبُنا التي سَئِمَتْ الأغيارَ، بالمشاعر ذاتِها.
و. العبادة والوعي الجَماعي
ومن جانب آخر فـ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يبعث فينا الشعور الجَماعي. نعم فنحنُ بـهذه الصيغة نترُك “أنا” ونقول: “نحن”، فهذا القول يقوله واحدٌ منا ويُنْصِتُ له الآخرون، والصلاة رمزٌ لِحياتِنا الاجتماعية وتوازُنِنا وانتظامِنا، فإذا نحن أحسَسنا بهذا في الصلاة، فسيَظهر ذلك في حياتنا الاجتماعية بكلِّ وضوحٍ، فـ”نحن” ليست تعبيرًا عن طائفةٍ من الناس اجتمعوا اجتماعًا عشوائيًّا، بل إنها تعني: أننا مجموعةٌ منتظِمَةٌ متناغمةٌ تتمتَّعُ بالوَحْدَةِ الروحيَّة.
فالإنسان الفرد يَرقى بهذه الفكرة إلى مستوى الوعي الجمعيِّ، ويتحرَّرُ من العيشِ العاطفيِّ، ويسمو إلى مستوى العيش المنطقيّ والعقليّ، فَيُصْبِحُ لائقًا بأن يكون عضوًا في المجتمَعِ، وهذا الأمرُ منوطٌ بمدى سعة “وجدانِ” الفردِ أو ضِيقِهِ؛ فالمجتمعُ الذي يتشَكَّلُ من الأفراد ذوي الوجدان الواسعِ يكون ذا أساسٍ متينٍ عريقٍ راسخٍ، وذا ديمومةٍ بمدى سعة الوجدان، وأما ضيِّقو الوجدانِ الذين لا يعرفون التسامحَ فيما بينهم، فإنَّنا نعتبِرُ المجتمعَ الذي يتكوَّن منهم مجرَّدَ “حَشدٍ من الناس”؛ لأن هؤلاء لم يرْقَوْا إلى مستوى العضويّة لأيِّ مجتمعٍ، أما ذلك الجمع الذي حاوَلْنا تحليلَهُ ووصفَهُ، فهو مجتمعٌ منتَظِمٌ، وما يشاهَد لأوَّلِ وهلةٍ من التطبيقِ العمليِّ لهذا الجمعِ هو أن تؤدَّى فيهم الصلوات جماعةً، فمعلوم أن أداء الصلاةِ جماعةً سنةٌ مؤكّدةٌ عند الحنفيّة والمالكيّة، وواجبٌ عند الحنابلة، وفرضُ كفايةٍ عند الشافعيّة.
والله قد أَدرَج في العديد من الآيات القرآنيَّةِ العناصرَ المهيِّئَةَ لمجتمَعٍ كهذا، ووَضَعَ القوانينَ اللازمةَ لإعدادِ هذا المجتمَعِ وتربيتِهِ؛ فهو قد بدأَ بإعدادِ الأفرادِ الذين سيُشَكِّلون هذا المجتمعَ.
إن إعداد الأفراد سيكون مستنِدًا إلى الوحي وعلى أيدي الأنبياء، ومِن بعدِ الأنبياء على أيدي المجتهِدِين والمجدِّدين، فالأفرادُ بعدما يُحرِزون الجدارةَ شيئًا فشيئًا ويصبحون لائقين بالعيشِ المجتمعيّ يبدؤُون بالتجمُّعِ فيما بينهم، وبالانضِواء تحت قانونٍ وحاكميَّةٍ واحدةٍ يتكاتَفون وينسَجِمون ويُصْبِحون كأنّهم أعضاء الجسدِ الواحِد، وهذا الانسجامُ والتوافُقُ إنما يتحقَّقُ بالوَحْدَةِ في القوانين والمبادئ التي يتمسَّكُون بها؛ فإذا لم تكن هناك وحدةٌ واتِّفاق على القوانين والمبادِئِ، ولم يكن الناسُ متوجِّهين في الرغبة والرهبة إلى البابِ نفسِهِ، فإن الفرقةَ والتشرذُمَ سيُطِلَّانِ برأسِهِما، ومن المستحيلِ بتاتًا أن يتشكَّلَ مجتمعٌ مثاليٌّ متكاتِفٌ مترابطُ الأفراد مِن أفرادٍ مُشَتَّتَةِ العقولِ مُتَشَرْذِمَةِ القلوب.
فحينما يَأمرنا القرآنُ المعجزُ البيانِ أن نقول: “نعبد” (بصيغة الجمع) بدلًا من: “أعبد” (بصيغة الإفراد)، فإنه يهدفُ إلى تكوينِ مجتمعٍ بهذه الأوصاف، وذلك يشيرُ ويُرشِدُ إلى أن أولئك الأفراد المثاليِّين ستتشكَّلُ منهم تَـكَــوُّناتٌ جديدة، وكما أن هناك ذرَّاتٍ وجُزَيئاتٍ تسري إلى دماغ الإنسان، سيكون من بين هذه التكوُّنات أيضًا أناس قد تَصَفَّوْا وأصبحوا جديرين لأن يتبوَّؤُوا موقِعَهم اللائق بهم في دماغ المجتمع، وهؤلاء سيقودون المجتمع، وهكذا ستكون الآليَّةُ الإداريَّةُ قد تَشكَّلَت تلقائيًّا، وهؤلاء ذووا الوجدان الواسِعِ، لا يعانون من عُقَدٍ نفسيّة، ولا يربِّي أمثالَ هؤلاء إلا الأخلاقُ والتربيةُ النبويّة.
وذِكرُ شرحِ صدرِ النبيِّ في قولِهِ تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (سورة الشَّرْحِ: 94/1) في مقامِ الامتنانِ له من المغزى ما هو عظيمٌ وعميقٌ؛ فذاك نبيّ الله فَتَحَ للآخَرين صدرَهُ وقلبَه على مصراعيهما، وقابَلَ أسوأَ المعاملات والتصرُّفات بالتسامحِ والرِّفقِ، فدلَّنا على الطُّرُقِ المؤَدِّيةِ إلى تشكيلِ مجتمعٍ، فلذلك نقول: إن المجتمع إنما ينمو ويتقوَّى بقدر سعة الوجدان وانفتاحِهِ وانشراحِهِ، أي إنَّ أداءَ أيِّ مجتمَعٍ دورًا محوريًّا في مقدَّرات التاريخ ومجرياتِ الأحداث؛ مرهونٌ ومربوطٌ ربطًا قويًّا بمدى سعةِ أو ضيقِ وجدان الأفراد الذين يشكِّلون ذلك المجتمع.
إن الأمر الذي يُنمِّي المجتمع هو وجدان الأفراد؛ فإذا كان الفردُ متحجِّرًا أنانيًّا، فإن هذا المجتمع وإن تشكَّلَ مؤقّتًا لكنه لن يدوم، ستتقوَّضُ أركانُهُ بمرورِ الوقتِ فيزول؛ وأما إذا كان الأفرادُ متسامحين وكان وجدانُهم واسعًا بكلِّ ما تعنيه كلمةُ “السَّعَةِ”، وكانوا مثلَ الرسول مُحْرِزين لسرِّ: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ فإن المجتمعَ الذي يؤسِّسُونه سيكونُ راسخًا صامدًا؛ يستطيعُ كلُّ أحدٍ أن ينخرِطَ فيه بكلِّ سهولة، وقد لا يتأتَّى إنشاءُ مثل هذا المجتمع في وقتٍ قصيرٍ ويستغرقُ زمنًا طويلًا، ولكنه يكون ذا عمرٍ طويلٍ، وبمرور الوقت يمكن أن يكونَ متحكِّمًا في مجرياتِ التاريخ، وهذا هو طريق الرسل ومسلكُهم، والرسول أرانا في نفسهِ -بشكلٍ مثاليٍّ- ميزةَ كون الإنسان ركنًا أساسيًّا في المجتمع، ومِن بعدِه نرى هذا الأمر في أكمل صُوَرِهِ في الجماعة التي أسَّسَها، فنرجو الله أن يتفضَّلَ على “أهلِ القرآن” في آخر الزمان بسعةِ الصَّدْرِ هذه، إنهم سيُضْفُون على الإنسانيَّةِ وجهًا مُشْرِقًا مختلفًا، وسيفتحون طرقَ العِلْمِ التي انسدَّتْ، ويُحقِّقون للإنسانية التحليقَ في الأجواء الماديّة والمعنويّة، وإننا إذ نطلبُ هذا لفي أملٍ من رحمة الله الواسِعَةِ.
وأما أصحاب الوجدان الضيِّقِ والقلبِ القاسي الذين يعيشونَ تحتَ سيطرةِ عُقَدِهم وعواطِفِهِم، فمع أن بإمكانهم أن يعيشوا في مجتمعٍ منسجِمٍ متناغِمٍ من غير أن يُخِلُّوا بتناغُمِهِ وانسجامِهِ، لكن يستحيلُ تشكيلُهم مجتمعًا جديدًا، كما أنه ليس من المعقول أو المنتَظَرِ بتاتًا ممّن هم أسارى نوازِعِهِم؛ وممّن يحتكِرون الفكرَ لأنفسِهم ويريدون من كلِّ أحدٍ أن يُفَكِّرَ مثلهم؛ ليسَ من المعقولِ أن يُكوِّنوا مجتمعًا ناجحًا.
إن المجتمعات المبنيّة على احترامِ الآخرين، وعلى رؤيةِ كلِّ مسلكٍ في طريقِ الحقِّ حقًّا، والتي آمنَ أربابُها بأنَّ المسالِكَ الأخرى غيرَ مسلكهم يمكنُ أيضًا أن تنطويَ على نوًى وبذورٍ للحقيقة، والتي توسَّعَ وجدانُ أربابها، وتفتَّحَتْ صدورُهم للآخرين على مصاريعِها، فولّوا وجوهَهم شطرَ الحقِّ، وتحلَّوا بالتسامح؛ إن المجتمعات التي بناها هؤلاء قد ظلَّت معمَّرة ومتَّسِمَةً بالديمومة، فنحن في معاهدةِ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نستحضرُ هذا الأمر أيضًا، ونشاهِدُ معا المحركاتِ الأساسيّةَ للمجتمع الإسلامي، إن الله يأمرنا بأن نقول “نحن” بدلًا من “أنا”، وهذا يعني أنْ تَخَلَّوْا عن أنانيتكم وقَدِّموا عبادتكم وقرباتكم لله مع الآخرين مستحضرًا هذه المعاني: “يا رب! إنني شخصيًّا لا يُؤْبَهُ بي ولا يؤبَهُ بعبوديَّتي، ولكني مُنْخَرِطٌ بين هؤلاء الناس، وأقوم بالعبوديَّة وأنا بين أظهرهم، إن هؤلاء يقدِّمون لك عبوديَّتَهم وهناك على وجه الأرض مئاتٌ بل آلافٌ مؤلَّفةٌ يقدِّمون لك عبوديَّتهم بدءًا من جماعة ذرَّاتِ وخلايا جسمي -حيث إنها جماعة تشكَّلَت جبرًا-، ومرورًا بجماعاتِ الأشجار والنبات والحيوانات -حيث إنها جماعات طبيعيّة فطريّة-، وانتهاء إلى جماعات البشر والملائكة والجِنِّ -حيث إن هؤلاء جماعات ذات إرادة-، وأنا أقول بكلِّ إخلاص من صميم قلبي بأنني أقدِّم وأَعرِضُ لك عبوديَّتي الناقصة ضمن عبوديَّــتِهم، فإني وإن لم يكن لي أن أقول شيئًا بمفردي، وأطلبَ شيئًا لوحدي؛ فإني لا أقول: “أنا” بل أقول: “نحن”، وأنخرطُ بينهم وأومِنُ بأن حياتي لن تدومَ إلا بحياةِ الجماعة، وبمقتضى كوني مدنيًّا بالطبع أَتَّبِـعُ الإمامَ الذي أقف خلفه، وأستمعُ لما يتلوه”.
ز. توحيد العبوديّة وتوحيد الربوبيّة
بغضِّ النظَرِ عما دارَ حول توحيدِ الربوبيّة وتوحيد الألوهية أو العبوديّة من اختلافٍ؛ فإننا سنتناولُ هذه المصطَلَحاتِ بإيجاز فنقول: إنّ لِقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/5) وجهًا آخر متعلِّقًا بتوحيد العبودية وتوحيدِ الربوبية، ولنحاولْ بيانَ ذلك:
إن الله بيَّن لنا إلى هذه الآية أنه هو الله رب العالمين، وأنه هو الذات الأجلّ الأعلى الذي ليس له شبيهٌ ولا مثيلٌ ولا ضدٌّ ولا ندٌّ، وليس له شريك في تربِيَتِهِ للعالمين، وأنَّ كلَّ شيءٍ -بدْءًا من ذرّات جسمِنا وانتهاءً بأبعَدِ الأنظمةِ والمجرّاتِ والسُّدُم- بِيَدِهِ وتحت تصرُّفِـهِ، وبيَّن بقوله: ﴿اَلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أنه هو الرحمن الرحيم الذي لا شريكَ ولا شبيهَ له في إسداءِ الرحمة، وأن كلَّ شيءٍ يحصل على ما يحتاج إليه؛ وأنَّ كلَّ شيءٍ -بدءًا من ذرّات جسمِنا وحتى الأنظمةِ السماويّة الكبرى- يعمل على أكمل وجه، وأنه تعالى هو المالك الوحيد ليوم الدين، وأنه -وإن كان الخيرُ والشرُّ، والحَسَنُ والقبيح، والإيمان والكفرُ، والهدايَةُ والضلالةُ، والمحسنُ والـمُسيءُ متداخلًا مختلِطًا هنا في الدنيا فإنه- سيميِّزُ يومًا بعضَهُ عن بعض ويقول: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (سورة يس: 36/59).
فالله تعالى بكلِّ ما سَبَقَ من الأمور شَرَحَ لنا وحدانيتَه، والواقعُ أنه لو لم يَشرَحْ لنا ذلك لفهمناه بمجرد النظرِ إلى الوجهِ النظيفِ الناصِعِ للكونِ وبقراءة كِتابِ الكائنات، ولَأدرَكْنَا وحدانيَّتَهُ بكلِّ سهولةٍ ويُسرٍ، هذا هو “توحيد الربوبية”.
فهو ربُّك، هو وحده منحَكَ ما منحَكَ، فأنتَ أخذتَ ما أخذتَهُ كلَّهُ منهُ وحدَه، فما عليك إلا أن تخضَعَ له وحدَه، ولا تلتَفِتْ إلى ما سواه، وتتوجَّه إليه بقدرِ إخلاصِكَ له.
فأنت إذا استطعتَ أن تفعلَ هذا فستُظهر بالفعل أنك إنما تقوم بالعبوديَّةِ له وحده، وتطلبُ ما تطلبُ منه وحدَه، فهذا هو “توحيد العبودية” مقابل “توحيد الربوبية”؛ بمعنى حصرِ العبوديّة له فقط؛ فكما أن الربَّ واحد، فالعبد كذلك لا بدَّ له من أن يقول:
“إنني خاضعٌ لك وحدَكَ يا ربي! فكما أنك سَخَّرْتَ لي الكونَ وجعلْتَهُ تحت أمري، فإني كذلك مسخَّر لكَ ولأمرِكَ، فما أحلى هذه المسخَّريّــة، لأني محظوظٌ بِنِعَمِكَ أنتَ”.
هذه هي مقابلة “توحيد الربوبية” بـــ”توحيد العبودية”، فالـتُّـعَساء الذين لم يدركوا هذا السرَّ اتخذوا الحجر والشجر والبقر… الخ آلهةً، وعبدوا الظُّلْمة والنور، واصطنعوا إلهين باسم: “يَزدان” و”أهرمن”، ولهثُوا وراءهما، والذين لم يَرْقَوْا إلى مستوَى تذوُّقِ حلاوةِ العبوديّة للمعبودِ المطلَّقِ، تعلَّقَتْ قلوبُهم بآلاف من المعبودات، وربطوا أفئدتهم بآلاف من المحبوبات، فخابوا وخسروا وسقطت أحلامهم.
الحمد لله الذي هدانا -تحت تعليم سيدنا محمد وإرشادِ القرآن- إلى سبيله المؤدِّي إلى العبودية أمام الألوهية المطلقة والربوبية المطلقة، ولم يتركنا هاملين في العراء.
[1] صحيح البخاري، المغازي، 84، فضائل أصحاب النبي، 5.
[2] سنن ابن ماجه، الصيام، 21؛ مسند الإمام أحمد، 14/445.
[3] ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/26-27)
[4] سنن الترمذي، صفة القيامة، 59؛ مسند الإمام أحمد، 4/410.