سؤال: لماذا وردت البشارة النبويّة خاصَّةً بفتحِ إسطنبول دون غيرها من المدن؟ وما الحكمة من تحقُّقِ هذا الفتحِ على يد الأجداد؟ هل يمكن تقديمُ إيضاحٍ دينيٍّ وتاريخيٍّ حول هذا الأمر؟
الجواب: لم تكن بشارات الرسول خاصة بفتح إسطنبول فقط، فهناك إشاراتٌ إلى فتح “الفسطاط”، وهي المدينة التي بناها عمرو بن العاص، ومدينة “القيروان” التي أنشأها عقبة بن نافع، وهناك روايات حول فتح “البصرة” كذلك، ومع ذلك فَلِبِشَارةِ فتحِ إسطنبول موقع خاص ومتميّز، وقد وردت هذه البشارة النبوية في المسند للإمام أحمد، وكذلك في المستدرك للحاكم وجاءت بالصيغة التالية: “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”([1]).
أصبحت “إسطنبول” بعد فتحها من قبل المسلمين ذات أهمية كبيرة بالنسبة للعالم الإسلامي، إذ أصبحَتْ مركزًا لانطلاقِ جيوشِ الفتحِ إلى جهاتِ العالم الأربع، وأصبحت عاصمةً للدولة العالمية، ومدينةً مباركةً وقلعةً منيعةً على تخومِ الغرب. نعم، إنَّ البشارة النبويّة إنما نصَّت على إسطنبول على اعتبارِها ستؤدي وظيفةً مقدّسةً على هذا المنوال.
كانت المدينة المنورة في عهد الخلفاء الراشدين هي المركز وكانت جيوش الفتح تنطلق منها إلى أرجاء العالم، وحافظت على موقعها المتميِّزِ كمركزٍ للثقافة وكمركزٍ للفتوحات سنوات عديدة، لم تنـزل المدينة عن موقعها المعنوي هذا أبدًا، ولكن كلَّما تغيَّرَتْ جغرافيّة العالم الإسلامي وتوسعت انتقل مركزُ الدولة من بلدة إلى أخرى، فقامت دمشق أولًا ثم بغداد ثانيًا بأداء هذه الوظيفة أمدًا طويلًا، أما بعد فتح إسطنبول فقد أصبحت وظيفة المحافظة على مكة والمدينة ودمشق وبغداد على عاتقها، ليست المحافظة عليها فقط، بل رعايتها كذلك.
فكل عام كان “محمل الصرة” يخرج من إسطنبول حيث يشيعه السلطان راجلًا بنفسه حتى خارج المدينة، وكان هذا المحمل يحمل الهدايا الثمينة لأحفاد الرسول r أولًا ثم لأحفاد الصحابة ثم لجميع فقراء المدينة، وكانت الهدايا تحتوي على الذهب والفضة والمرجان وغيرها من الأحجار الكريمة والهدايا الثمينة الأخرى، وهكذا كانت إسطنبول تعيش كل سنة متعةَ إهداء الهدايا إلى مدينة الرسول وإلى مدن الصحابة رضوان الله عليهم.
لذا فبسبب هذه الخدمات الكبيرة التي ستقوم بها هذه المدينة في المستقبل كان الرسول يبشر بهذه البشارة من وراء العصور ويتقبّلها بقبول حسن، وأصبحت المدينة المنورة ودمشق وبغداد بعد فتح إسطنبول مثل أبوينِ يحظيان بمروءة ابنهما وشهامتِهِ، وكأن إسطنبول ابنٌ بارٌّ يليقُ بمقام والديه، فَنُورُ الإسلام الذي وُلِدَ في المدينة وشعَّ وتعمَّقَ في دمشقَ وبغدادَ انعكسَ في إسطنبول لِيُنِيرَ ظلماتِ بلدانٍ لم يَصِلْها بعدُ هذا النور، لذا فمع تسليمنا بقدسيَّةِ مكة والمدينة فإنَّ لإسطنبول مكانةً واضحةً في خدمة هذه المدن وخدمةِ جميعِ العالم الإسلاميّ.
لقد تمَّ بفتحِ إسطنبول انتهاءُ عصرٍ وبدايةُ عصرٍ آخر في التاريخ([2])، فالجيوش الإسلامية التي توجَّهَتْ نحو الغربِ كانت تنطلق من إسطنبول، كما تمَّ فتحُ بغداد أكثر من مرة من إسطنبول، وفي الفتح الأخير الذي تحقق في عهد السلطان مراد الرابع كان الجيشُ منطلقًا من إسطنبول، وذلك اليوم هو الذي تمَّ فيه تحقيقُ وحدةِ العالم الإسلاميِّ مرَّةً أخرى، لذا أصبحَتْ إسطنبول لقيامِها بمثلِ هذه الوظائفِ مدينةً مباركة، كما استضافت -قبل فتحها من قبل المسلمين- أبا أيوب الأنصاري t وهو الصحابي الكريم الذي استضاف رسول الله r في بيتِهِ المتواضع.
فانظروا إلى تجلِّياتِ القَدَرِ كيفَ أتاحَت لإسطنبولَ استضافةَ مَن استضافَ الرسول r في المدينة المنورة، وإن “محمد الفاتح” ما إن فتحَ إسطنبول حتى قام بالبحث الفوري عن مثوى هذا الصحابي الكريم، ولقد قام بذلك قبل قيامه ببناءِ جامع الفاتح، وقبل تحويلِهِ أيا صوفيا إلى جامع، وقبل المباشرة بخطَطِهِ التي وضعها لإسطنبول، لقد أوعزَ إلى الوليِّ الكبير “آق شمس الدين” الذي كان مظهرًا لِسِرِّ ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (سُورَةُ ق: 50/22) في الدنيا بمهمّة البحثِ قائلًا له: “ابحثْ لي عن مثوى هذا الصحابي الكريم الذي استضاف الرسول r، فلم يلبث أن وجده، فقام محمد الفاتح ببناء جامعٍ من أجمل جوامع العالم الإسلامي بالقربِ من قبرِ هذا الصحابيِّ الجليل.
وهكذا فإن إسطنبول تحتفظ بأمانة ثمينة وقيمة ومهمة للرسول r، وأصبحت رمزًا للجهاد بسبب هذا الصحابي الذي جاء إليها مجاهدًا، فكم من جيش مجاهد انطلق منها زاحفًا، وكم من فتحٍ مؤزَّرٍ كانت إسطنبول مركزًا لانطلاقِ جحافِلِهِ، فإن كانت خيولنا تلعب وتسرح في تلك العهود في ثلاث قارات، فقد فعلنا ذلك بالجيوش المنطلِقَةِ من إسطنبول، وقد استنبط بعض علمائنا بحساب الحروف الأبجدية اسمَ هذه المدينة من الآية الكريمة ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ (سُورَةُ سَبَأٍ: 34/15)، فأطلقوا عليها اسم “البلدة الطاهرة”[3]، صحيح إنهم ذكروا ذلك لمدينة “صنعاء” أولًا إلا أنه لا يمنع أن تكون مكة والمدينة وإسطنبول مقصودة منها كذلك، فهذه البلدة الجميلة من الناحية المادية والمعنوية والتي تحتضن مراقد العديد من الصحابة والأولياء بلدة مباركة، ونأمل أنها ستستمرُّ في الاحتفاظ بمقامها المبارك، فإن لم تكن محتفظة به فنحن نأمل أن تصل في يوم من الأيام إلى هذا المقام ويهبّ عليها النسيم المحمدي المبارك مجدَّدًا.
والنبي r يشير إلى فتح ثان لإسطنبول، أي إن إنساننا الذي هربَ من ذاتِهِ وماهيَّتِهِ وروحِهِ سيرجع يومًا إلى هويَّتِهِ الأصليّة وإلى ذاتِهِ وروحِهِ ويرتفِعُ إلى حياةِ القلبِ والروح ويقوي صلته بالله تعالى، فهذه هي بشارةُ الرسول r، ونحن نترقب ذلك اليوم الذي سيكون فيه فتح جديد، ومن يدري فلعل هناك حِكمًا وأسرارًا أخرى رآها وعَلِمَها الرسول r في حقِّ إسطنبول، ممّا جعله يشيرُ إلى فتحِها ويُثني على الجيشِ الفاتح وقائده قبل عصور عديدة.
[1] مسند الإمام أحمد، 335/4؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/468؛ الطبراني: المعجم الكبير، 2/38.
[2] يعد فتح إسطنبول سنة (1453م) نهاية القرون الوسطى وبداية العصور الحديثة، أي بداية عصر النهضة. (المترجم)
[3] وفقًا لِحِسَابِ الحروفِ الهجائية التي يقيسُ بها البعضُ فإنَّ نتيجةَ جمع رموز الحروف العددية لِـكلمة “بلدة طيبة” هي تاريخ فتح إسطنبول، وذلك أن ما يُعادل الحروف من الأرقام الرمزية في ميزان الحساب الهجائي هو على النحو التالي بالنسبة لعبارة “بلدة طيبة”: فالباء ترمز إلى الرقم 2، واللام إلى 30، والدال إلى 4، والتاء إلى 400، والطاء إلى 9، والياء إلى 10، والباء إلى 2، والتاء إلى 400، وإذا جمعنا هذه الأرقام فإن المجموعُ هو: (857)، وهو العام الهجري الذي فُتِحَت فيه إسطنبول.