Reader Mode

لما دارت الأيام ووجد “الزبيرُ ين العوام” رضي الله عنه نفسه يوم “الجمل” أمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجهًا لوجه حتى اختلفت أعناق دوابهما؛ خَلَا عَلِيٌّ بِالزُّبَيرِ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِالله كَيفَ سَمِعْتَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَأَنْتَ لَاوٍ يَدِي فِي سَقِيفَةِ بَنِي فُلَانٍ: “لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ، ثُمَّ لَيُنْصَرَنَّ عَلَيكَ”؟ قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ، لَا جَرَمَ، لَا أُقَاتِلُكَ”[1]، لقد نـزلَتْ كلماتُ عليّ رضي الله عنه- وهو ينقل عن النبيّ قوله: “وأنت ظالمٌ له”-على مسامع الزبير كالصاعقة، فلقد نسي الزبيرُ ذلك الموقف بمرور الزمن، إلا أن عليًّا لما ذكّره تذكّر وأذعن للحقّ وأغمدَ سيفه في أحلكِ الظروف وأشدّ الأوقات.

 لقد نسي الزبيرُ رضي الله عنه ذلك الموقف بمرور الزمن، إلا أن عليًّا رضي الله عنه لما ذكّره تذكّر وأذعن للحقّ وأغمدَ سيفه في أحلكِ الظروف وأشدّ الأوقات.

واحتضنَ عليًّا وطلب منه العفو والصفح، ثم ركب جواده وترك ميدان القتال، وسار ليلتين من البصرة فمرّ على ماءٍ لبني “مجاشع”، فعرفه رجلٌ من تميم، يقال له “ابن جرموز”فقتله، وجاء بسيفه إلى عليّ، فقال: هذا سيف الزبير، قد قتلته، فقال علي: بَشِّرْ قَاتِلَ الزُّبَيرِ بِالنَّارِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَإِنَّ الزُّبَيرَ حَوَارِيِّي”[2]، لم يكن عليٌّ رضي الله عنه يتكلّم من عنده، بل ينقل ما سبق وأن سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، لقد أخذَ عليّ سيفَ الزبير ونظر إليه قائلًا: سيفه لعمري سيفٌ والله لطالما جُلِيَت به الغمرات عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ انفصح هو وبنوه يبكون على الزبير رضي الله عنه، ولما قيل له: يا أبا الحسن هذه فاطمة تبكي على الزبير؟ قال: فعلى مَن بعد الزبير إذا لم تبكِ عليه[3].

 عندما تبين الحق.. توقف الخلاف:

كما ترون فقد اُمتحن الصحابة ببعضهم أيضًا، ولكنهم عندما اقتتلوا، اقتتلوا في سبيل الحق باجتهادٍهم، وعندما تبين أنهم ليسوا على حقٍّ توقّفوا، وجنحوا للسلم، لم ينتقد أحدٌ منهم القدرَ، ولو قاموا بمثل هذا النقدِ لتضاعفت المصيبة، وكلّما تعرضوا للامتحان من قبل الله تعالى استغلوا فطنتَهم العظيمة التي وهبها الله لهم وحاولوا الوصول إلى الحقّ في ضوء الظلال النورانية القرآنية.

 خلاف بين الشيخين.. أبي بكر وعمر رضي الله عنهما:

ومن ذلك ما كان بَينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما من مُحَاوَرَةٍ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ” قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الخَبَرَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَالله يَا رَسُولَ الله لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ”[4].

ولكن ما نريد هنا التأكيد عليه هو تجريم الصحابيَّين لأنفسهما وإعلائهما كلمة الحقّ على ما سواها، فإذا لزم الأمر أن يجتمعا حتى في النار لدخلوها وكأنها الجنة.

—————–

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 217-219.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] مصنف ابن أبي شيبة، 7/545.

[2] الطبراني: المعجم الأوسط، 7/130.

[3] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 18/412-423.

[4] صحيح البخاري، تفسير القرآن، 142.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts