أصدقاءنا الأعزاء
بدأنا هذا الأسبوع رحلةً طويلةً في رحاب الأحاديث النبوية الشريفة بمدارسةَ “صحيح مسلم” ومقارنته بنيف وعشرين كتابا من كتب الأحاديث، مما حدا بنا إلى التركيز على بيان النبي صلى الله عليه وسلم وأن تكون الجرة المشروخة هذا الأسبوع بعنوان “سلطان البلغاء صلى الله عليه وسلم”؛ وهي عبارة عن أجزاء مقتطعة من المقالة التي كتبها فضيلة الأستاذ محمد فتح الله كولن بعنوان: “… وخاتم المُنْبِئين عن الغيب”، والتي نشرتها مجلة “يني أوميت (الأمل الجديد)” في عدديها التاسع والخمسين والستين الصادرين في (يناير- ابريل عام 2003م).
***
سلطان البلغاء صلى الله عليه وسلم
لقد أُرسل حضرة سيد الأنام (عليه ألفُ ألفِ صلاة وسلام) برسالة تتعلق بكل أحد وكل شيء، وكان يوفي وظيفته حقها ويؤديها بعمق فتمتلئ بحبه الأفئدةُ وتنجذب إليه القلوب، فهو يُشع تكاملا شاسعا في خلقته، وصدقا منقطعَ النظير في تصرفاته، وربانية تتجاوز جوانبه المادية دائما في سلوكياته، وهو -فوق هذه الجماليات الظاهرية الباهرة- صاحب أخلاق رفيعةٍ لم يطلها أحد، سماها القرآن الكريم بـ”الخُلق العظيم”، حتى إن مَن يدخل رحابه لمرة واحدة من غير أحكام مسبقة، لا بد أن يدخل تحت تأثيره ويتعلقَ به إلى الأبد، وعنده -مع هذه المحاسن والمعالي- بيانٌ يأخذ بالألباب؛ فإذا تكلم أبكمَ أمهرَ حُذّاق اللسان، فيغوصون في مراقبة السكوت، وينجرفون في تيارِ جذبات أقواله.
…
كان صلى الله عليه وسلم سلطانَ عالم البيان، ولقد بلغ جوهرُ القول قيمتَه الحقيقية على لسانه، لم يمسك بيده قلما ولا قرطاسا، ولم تطالع عيناه كتابا، ولم يجلس في حلقة درس، ولم يحتج قط إلى أن يقول لأحد: “أستاذ”؛ بل كان أستاذ الكل في الكل، وما من شيء يستطيع أن يمس أستاذيتَه الكليةَ، وفي هذا صيانة من الله لأوامره الإلهية أولاً، وصيانةٌ لِمَلَكات النبي الفطريةِ ثانيا وتاليا، من التأثيرات والتصورات الخارجية، حتى لا تُكَدِّر المكتسباتُ الذهنية والمعلوماتُ الأَجنبية تفسيرَ الأوامر الإلهية، ولا تتلوَّن بلون غيرِ لونها، أو تصبَّ في قالب غير قالبها، فكان أُمِّيًّا بهذا المعنى -ونفوسنا فداء لذاك الأمي-، ولكن له أقوال وأحكام وقرارات في شتى الشؤون من أمور الدنيا والعقبى -باعتباره أستاذ الكل- حيَّرت وأدهشت الكلَّ؛ بدءًا مِن المتبحرِين في العلوم وامتدادا إلى فحول العباقرة، وإلى العقول الضليعة في الفلسفة، وإلى النفوس الصافية والأرواح المستنيرة، والتاريخُ يشهد أن أحداً لم ينل من رصانة بيانه، أو يقدحْ في حكم له، أو يتجاسرْ على أن ينتقص من إجراء له.
كان خزينة للمعرفة وحوضا للعلم نقيا متلألئا، لم يعترض أحد على إِخباره عن الأحداث الغابرة، ولا إخبارِه عن شؤون الديانات والمذاهب والثقافات والتقاليد والأعراف العائدة إلى أمم بائدة في التاريخ، وما كان لأحد أن يعترض، لأنه رسول الله، ومصدرُ علمه السديد الذي يصب في ذلك الحوض وتلك الخزينةِ هو الله تعالى، فكان في البيان سلطانَ البيان وصاحب القول الفصل، وكان في المنطق صرحَ محاكمةٍ، وفي الفكر بحراً محيطاً كفؤا لضخامة مهمته ورحابة رسالته العالمية، إن عباراتِه من السلاسة والانسياب، وبيانَه من الوضوح والفصاحة، وأسلوبَه من الغزارة والتلون والبهاء، بحيث يستطيع أن يعبِّر عن حقائقَ ملء الأرض في جملة أو جملتين، ويضمِّنَ شؤونا تَسَعُ المجلدات في كلمات، وينطق بجواهر -وأيما جواهر- ليودعها عند أساطين التفسير والتأويل، وفي حديثه: “أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ“[1] إشارة منه إلى هذه الرحاب الفسيحة.
وكان الناس يُمطرونه بوابلِ أسئلتهم في كل شأن من كل جهة، فيردُّ عليهم من فوره بغير أدنى تلكؤ، كلامُه سهل يفهمه السواد الأعظم، ويعبر عن مقصوده بعيداً عن التشوش أو التشويش في إيجاز صاف وسيّال، وحين يتكلم يراعي مستوى المخاطبين لكي يفيدهم، من عالم وجاهل، وذكي وغبي، وقليلِ خبرة وخبير، وشاب وكهل، ورجل وامرأة، فيَبعث الاطمئنان في قلوبهم.
وإن أقواله وخطبه كثيرة، حيث خاض في شؤون مختلفة، وحلَّل موضوعاتٍ متنوعةً، لكنه لم يجانب الحقيقة والواقع في أي من أقواله وأفكاره، فلم يستطع أحد أن يلحظ على بياناته وأقواله ما يخالف الواقع، حتى إن ألدّ خصومه الذين يترقبون زَلة منه ليوقعوا به، لم يجرؤوا على إسناد الكذب إليه، بل عجزوا عن ذلك.
والحق أن من صان لسانه وكل تصرفاته عن مخالفة الواقع صونًا أدق من الشعرة، من طفولته إلى شبابه، ثم إلى سن تَشَرُّفِه بالنبوة في الأربعين، لا يُتصور أن يقوم بادعاء النبوة زوراً، وإنَّ تصوُّرًا كهذا شيءٌ يتجاوز الإثم إلى تعصب كُفريٍّ أعمى، واستهانةٍ بالعقل والمنطق.
هذا، وإن تبليغاته وموضوعاتِ أحكامه رحيبةٌ وَسِعَت الماضيَ والحاضر والمستقبل، ومحتوياتها متنوعة تتعدى عقول البشر: فهو يتكلم في العقائد، ويضع الأحكام في العبادات، ويتحدث في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والإدارية، وينفّذ ما يقول، ويَجني ثمراتِ ما ينفذ، ويتخذ من التاريخ شاهدا على صواب الأسس التي وضعها فيودع هذه الشهادة أمانة في الضمائر المنصفة البعيدة عن الأحكام المسبقة، وبعد ذلك يوقِّع عليه بختم التصديق آلافُ المفسرين والمفكرين والخبراء المتفننين في فنون كثيرة، ومئاتُ الفلاسفة، على ما قال، وعلى الأسس الاجتماعية والاقتصادية والنُّظُم العسكرية والإدارية، والقواعدِ التربوية التي وضعها، وزد عليهم جميعاً أن ملايين الأولياء والأصفياء يؤيدونه تصديقاً في كل حكم وفي كل بيان لهم، ويهتفون بأنهم بلغوا المراتب والمقامات بهدايته، لذلك فإن من يقول له: “لا”، فهو إما مخبول لا يدري ما يقول، وإما بائس بسوء الحظ مغسول الدماغ، فما شهد الماضي والحاضر أحدا مثله استطاع أن يقول شيئاً أو يضعَ أحكاما ثابتة في مسائلَ كثيرةٍ مختلفة، ولا سيما في موضوعاتٍ تتطلب حنكة واختصاصا ومهارة، فيدومَ طرياً وندياً أبداً مع الدهر، وكما نبَّه بديع الزمان النورسي رحمه الله: “إن الإنسان قد يستطيع أن يقول شيئاً ذا بال في بضعة فنون أو علوم، لكن حضرة ذاته صلى الله عليه وسلم أدلى بدلوه في شؤون دقيقة تتعلق بالوجود والأحداث كلها، وقال أقوالا نافذةً في كل زمان ومكان، وبأسلوب بديع في المهارة والحكمة، وباطمئنان من غير تردد وتلكّؤ، لا يملك حياله مَن رآه وعرفه، ومن سمعه فأنصت إليه من غير حكم مسبق إلا أن يقول: “آمنتُ وصدّقتُ”.
…
هو الذي رسالته القرآن، وهو الذي أُفقُه العرفانُ، وهو الذي بيانه برهان، وهو وسيلة سعادة الدارين، هو الذي نال تلطيف الحق تعالى بألف وسامٍ معجزة، وهو الذي سيظل اسمه وذكراه الطيبة على الألسنة إلى يوم القيامة مرتبطا بتزكية القرآن.
هو مدار شرف الإنسانية، ونقطةُ مركزِ حقائقِ النبوة، هو قائد عسكر جيش الأنبياء وهادي الإنس والجن، الصادقُ الذي لا يضل معه أحد، بيانُه “أمير اللواء لعسكر الأنبياء” كما عبر عنه الشاعر “فضولي”، وكتابه أعظم هدية من الحق تعالى، ولمِا أنه محلّ التجلي “للروح الأعظم” -وهو كذلك بدون شك-، فتبليغه إكسير الحياة لأرواحنا، وبه استيقظت الإنسانية على القيم الإنسانية الحقة، وبه اصطبغت بالصبغة التي يرتضيها الله تعالى، ففي غيابه الحسرة الخالصة والهجران المحض، وفي الانفلات منه الضلالةُ الصريحة والخذلان المبين…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]صحيح البخاري، الجهاد، 122؛ صحيح مسلم، المساجد، 6.