Reader Mode

سؤال: ما الرسائل الموجّهة لحكام عصرنا من الآيات الكريمة التي ذُكر فيها طغاة مثل: فرعون والنمرود؟ وهل يمكن القول إن شيئًا من صفات الفرعنة موجودٌ لدى القادة المستبدّين الذين لا يقدرون شعوبهم؟

الجواب: من أكبر مشاكل عصرنا على الساحة السياسية اليوم هو التناقض والاختلاف الكبير بين أقوال السياسيين وأفعالهم؛ فالقادة في العديد من دول العالم يقدمون وعودًا كبيرة لشعوبهم؛ فلا يفتؤون يتحدثون عن الديمقراطية وحرية التعبير والمساواة.. لكن المؤسف أن أفعال الكثيرين منهم تُكذِّب ما يخرج من أفواههم، وغالبًا ما يكون من الخطإ الحكم على أحد القادة من خلال كلامه عما إذا كان ديمقراطيًّا أو جمهوريًّا أو يحترم حرية الفكر والضمير الإنساني؛ إذ من الواجب النظر إلى ممارساتهم وتطبيقاتهم حتى يُفهم مدى صدقهم ووفائهم بما يقولون؛ فيا تُرى هل يستطيع الناس في البلاد والمجتمعات التي يحكمها هؤلاء أن يفكروا ويعبروا بحرية عن أفكارهم؟ هل يمكنهم أن يمارسوا -بحرّيّة- القيمَ التي يؤمنون بها دون أن يواجهوا أية ضغوط أو قيود؟! لا بدّ من تحرّي هذا.

لن يتسنى تأسيس عالمٍ أكثر سلامًا وازدهارًا وحرية إلا من خلال القضاء على الاستبداد والظلم ومحوِه من على وجه الأرض.

هناك اهتمامٌ بالغٌ ودفاعٌ كبيرٌ في عصرنا هذا عن أهمية الحقوق والحريات الأساسية في العديد من دول العالم؛ فالحرية مهمة حقًّا؛ إذ يجب أن يكون الإنسان حرًّا في كل الأمور؛ فيجب أن يكون قادرًا على التفكير كما يريد، والبوح بما يفكر فيه، وعَيْشِ حياته بالطريقة التي يريدها، طالما أنه لا يؤذي أحدًا، ويحترم خصوصيات الآخرين، ولا ينتهك حدود حرّيّة غيره.. بيد أنه لا ينبغي أن تبقى الحرّيّة مجرّدَ قولٍ، بل يجب أن تجري في ربوع الحياة بطرق مختلفة بحسب الزمان والمكان؛ فعلى الرغم من وجود خطابات متقدّمة للغاية حول حقوق الإنسان والحريات في عالمنا المعاصر؛ إلا أنه من الواضح أن عديدًا من الدول المتقدّمة نفسها لم تصل بعدُ إلى المستوى المطلوب من الحريات؛ إذ يُلاحظ أن كثيرًا من القادة يمارسون الاستبداد تحت ستار الديمقراطية، ومع أن هؤلاء الأشخاص يتحدّثون عن الحرية في كلّ مناسبة تقريبًا، إلا أنهم -في الواقع- يعتبرون الحرية حكرًا عليهم فقط، بينما الحرمان والتسلّط جديرٌ بالآخرين، ولعل أخطر أنواع الاستبداد هو هذا النوع من الاستبداد المتواري تحت درع الديمقراطية.

الطغاةُ الذين لا يعترفون بالقانون والعدالة إنما هم بلاءٌ متسلّطٌ على الإنسانية جمعاء.

ليس من الصواب قصرُ الاستبداد على فترات معينة، وعلى بلدان معينة؛ فلقد وُجِدَ منذ أن وُجِدَت البشرية، وسيظلّ موجودًا دائمًا، حتى وإن غيّر من شكلِه ونمطِه.. ومن المؤسف أنه يوجد في عصرنا العديد من الطغاة في بلدان مختلفة من العالم يتخذون القرارات ويُصدرون الأحكام بأنفسهم، ويضطهدون الآخرين بطريقة لا يقبلها أيّ نظامٍ قانوني، ويدمّرون القيم الإنسانية، لكن كثيرًا من الناس لا يدركون استبداد هؤلاء؛ لأننا بشكل عام دائمًا ما نبحث عن الطغاة والمتفرعنين في الماضي وفي الأوقات والبيئات التي لم تُذكر فيها الديمقراطية قط، كما أنّ عدمَ وجود معايير واضحة وملزمة لمن ينبغي أن يطلق عليه طاغية وديكتاتور يفتح السبيل أيضًا أمام الفراعنة المعاصرين، ولهذا السبب فإن عمليات الفساد البشرية هذه -التي يقودها الشيطان- تستمرّ في الإضرار بالإنسانية.

وكما ورد في السؤال، فإن آيات مختلفة من القرآن تركّز على الطغاة والمستبدّين أمثال فرعون والنمرود -حتى وإن لم يذكر الاسم بوضوح- وعلى إنكارهم وتكذيبهم للأنبياء، وتمرّدهم وعنادهم، والضغوط التي مارسوها ضدّ شعوبهم، ومختلف المظالم التي ارتكبوها.. وعند تلاوة هذه الآيات، يمكن أن يُرى بوضوح شديد موقفُهم غير الأخلاقي تجاه حرية العقيدة، وفرضُهم لرغباتهم الخاصة، وعنادُهم في ذلك.

إننا نضخّم -في كثير من الأحيان- من حجم الفراعنة والنماردة والمستبدين والطغاة بمختلف أنواعهم ممن عاشوا في الماضي؛ حتى إننا نرى طغاة عصرنا أخف أذًى منهم، لذلك لا نشعر تجاه المعاصرين بالغضب الذي نشعر به تجاه الغابرين.. دعْكَ من الغضب، فقد صار من المعتاد أن يرى البعضُ هؤلاء الطغاة كالملائكة أو مخلوقات مقدّسة غُسِلت بماء زمزم.. ألا ليتَ مقارنة تفصيلية تُعقَدُ بين الطغاة المذكورين في القرآن وطغاة اليوم من حيث كلامهم وأفعالهم! فإن أمكن إجراء مثل هذه المقارنة، فقد يظهر أن طغاة الماضي كانوا في بعض النواحي أكثر ديمقراطيةً من طغاة اليوم.

يجب على الإنسانية أن تكافح كلّ الطغاة الديكتاتوريين الذين يتنمرون علانية، والمنافقين الذين يخفون طغيانهم بالقيم الإنسانية العالمية.

نعم، يحكي القرآن في آياتٍ كثيرةٍ قصصَ الأنبياء مثل: نوح وصالح وهود وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام، ويُفسح المجال أيضًا للحوارات التي تدور بين الأنبياء والأقلية الأوليغارشية التي تهيمن على مصير المجتمع، وهناك نقطة لافتة للانتباه في هذه الحوارات؛ ألا وهي: أنه على الرغم من أن العديد من هؤلاء الطغاة سخروا من الأنبياء، ووجهوا لهم تهديدات مختلفة، ووجهوا إليهم اتهامات وشتائم شديدة، إلا أنهم لم يترددوا في الدخولِ في حوار معهم ومنحِهم الحقّ في الكلام، وعندما صرّح الأنبياء بأفكارهم ودعوا قبائلهم إلى الدين والإيمان وإلى الله؛ لم يُباغتوهم، ولم يعتقلوهم ويسجنوهم من فورهم، بل منحوهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم بطريقة أو بأخرى، وقد ورد في العديد من الآيات، تحذيرات الأنبياء ونصائحهم لشعوبهم، وردودهم على ذلك.

ولكم إن شئتم، أن تخرجوا أمام الطغاة الذين ملكوا موقع الحكم، وسنّ القوانين وإنفاذها، والوصاية على المجتمعات، وحَاوِلوا التعبير عن أنفسكم، تُرى إلى أي مدى سيمنحونكم هذه الفرصة؟! فبهذه الطريقة ستتاح لكم الفرصة لمقارنة الحاضر بالماضي، إنني أرى أن أفعال طغاة الماضي تبقى هينة وبسيطة جدًّا في مواجهة الفظائع التي تُرتكب في أماكن كثيرة من العالم في عصرنا.

إن مشركي قريش -الذين مارسوا كلّ أنواع الاضطهاد والإيذاء ضدّ نبينا صلى الله عليه وسلم- كانوا أكثر ديمقراطية من طغاة عصرنا.

إن الحوارات التي دارت بين موسى عليه السلام وفرعون لافتةٌ للانتباه، فعلى سبيل المثال: خرج موسى عليه السلام أمام فرعون الذي يدّعي أنه إلهٌ، فقال له: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/105)، وفي مواجهة مثل هذا المطلب التفت فرعون والأقلية الأوليغارشية المحيطة به إلى قومهم، يسألونهم عن رأيهم؛ فيُقترَح جمعُ أمهر السحرة من مختلف مناطق المدينة، ويُوصَى بتحدّي موسى عليه السلام؛ إذ يخيّل إليهم أن المعجزات التي أظهرها موسى كانت مجرّد سحرٍ، ويبدأ فرعون التحدّي مقترِحًا عقدَ مناظَرَةٍ عمليّة هكذا بقوله: ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ (سورة طَهَ: 20/58)، ومن الجدير بالملاحظة أنه يترك لموسى عليه السلام أمرَ تحديد الزمان والمكان، ويتيح له مثل هذه الفرصة ليتنافس مع السحرة في حضور الشعب.. علاوة على ذلك، فقد كان لموسى عليه السلام الحرية في أن يقول لهم علانيةً: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ (سورة طَهَ: 20/61).

لا أعتقد أن طغاة اليوم سيكونون متسامحين مع الأفكار والكيانات والتغييرات التي يعارضونها.

فهل يمكن أن يُقال: إن طغاةَ عصرِنا منفتحون على الحوار إلى هذا الحدّ، ويمكنهم أن يكونوا متسامحين أمام الناس والأحداث التي قد تضرّ بحكمهم؟ تفضلوا.. قفوا في حضرة أحدهم.. وحاولوا التعبير عن آرائكم باسم القيم الإنسانية والعالمية؛ فهل يمكنكم بسهولةٍ أن تقدموا الرسائل التي لديكم باسم الإنسانية؟! أم أنكم لن تستطيعوا ذلك؟!

نعم، لا ينبغي البحث عن الطغاة في الماضي فحسب؛ إذ يمكن العثور على العديد من المؤهلين للاستبداد في جميع الأوقات والمناطق، بدءًا من آلية النفس التي في داخلنا وصولًا إلى عبيد الغطرسة والمصالح الذين يحبون استعباد الآخرين، وستدركون هذا الخطر الكبير قطعًا عندما تدققون في الأمر بحساسية وفقًا لمعايير القرآن والسنة.

صار من المعتاد أن يرى البعضُ هؤلاء الطغاة كالملائكة أو مخلوقات مقدّسة غُسِلت بماء زمزم..

ويمكن القول: إن مشركي قريش -الذين مارسوا كلّ أنواع الاضطهاد والإيذاء ضدّ نبينا صلى الله عليه وسلم- كانوا أكثر ديمقراطية من طغاة عصرنا؛ لأنهم بحثوا لفترة طويلة عن طرق للحوار مع مفخرة الإنسانية بعد أن بدأ في نشر رسالته، وجاؤوه بعروضٍ مختلفة واستغلوا فُرصًا وبدائلَ مختلِفةً من أجل ثنيه عن دعوته.. وعلى الرغم من أن الرسالة التي جاء بها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم قد وجهت ضربة قوية لأفكار الشرك في ذلك اليوم ومهدت الطريق لتغييرٍ جذريٍّ في عالم الشرك في ذلك العصر، إلا أنهم لم يهاجموها على الفور، بل حاولوا أولًا حلَّ القضية عبر الحوار؛ فذهبوا أكثر من مرة إلى “أبي طالب”، وقدموا له عروضًا مختلفة.. إنني لا أعتقد أن طغاة اليوم سيكونون متسامحين مع الأفكار والكيانات والتغييرات التي يعارضونها، حتى ولو بقدر ما كان أبو جهل وعتبة وشيبة وأبو سفيان الذي كان مشركًا في ذلك الوقت، إن مجرد ذكر مثل هذه التغييرات الجذرية يكفي لأن يدفع طغاة اليوم إلى الجنون.

لا ينبغي أن تبقى الحرّيّة مجرّدَ قولٍ، بل يجب أن تجري في ربوع الحياة بطرق مختلفة بحسب الزمان والمكان.

قد لا يكون من الضروري أن تخرجوا أمام طغاة عصرنا وتقولوا شيئًا ما، أو حتى تفعلوا شيئًا ما، من أجل إثارة غضبهم.. فإذا كانوا يرونكم خصومًا محتمَلين أو أعداءً، فإنهم يعلنون الحرب عليكم فورًا، ويبحثون عن طرقٍ للتعدّي عليكم بأية وسيلة.. وعلى الرغم أنَّه من أهم قواعد القانون الثابتة ألا تستند العقوبات إلى الشبهات والاحتمالات بل إلى أحداث ثابتة بالدليل، وأن الأفعالَ التي لا تُوصَف بالجرم في القانون لا يُعاقَب عليها؛ إلا أن هذه القواعد لا تُلزِم الطغاة أبدًا، فإن عدم تبنّي فلسفتِهم يكفي لنيل عقابهم، في حين أنه إذا ما سُعي إلى معاقبة الناس وفقًا لأفكارهم، فلن يبقى على وجه الأرض إنسان إلا وسيُعاقب، وسيبدأُ أيُّ شخصٍ يستحوذ على القوة في مهاجمة أيِّ شخصٍ لا يقف في صفّه، ويبحث مظلومو اليوم وضحاياه عن فرصةٍ ليُذيقوا الطرف الآخر نفس المعاملة غير العادلة التي كان أذاقهم إياها.. لذلك لا تتوقف الفوضى في العالم، فالطغاةُ الذين لا يعترفون بالقانون والعدالة إنما هم بلاءٌ متسلّطٌ على الإنسانية جمعاء.

من أكبر مشاكل عصرنا على الساحة السياسية اليوم هو التناقض والاختلاف الكبير بين أقوال السياسيين وأفعالهم.

ولهذا السبب يجب على الإنسانية أن تكافح كلّ الطغاة وجميع الديكتاتوريين الذين يتنمرون علانية، والمنافقين الذين يخفون طغيانهم بالقيم الإنسانية العالمية، والفسادَ الاستبدادي المتدني العاجز حتى عن حماية شرف الاستبداد نفسه… لأنه لا ولن يتسنى تأسيس عالمٍ أكثر سلامًا وازدهارًا وحرية إلا من خلال القضاء على الاستبداد والظلم ومحوِه من على وجه الأرض.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts