لقد سمعنا الكثير ورأينا الكثير، واقتحمنا خِضمَّ أحداث جمَّة وتَقلَّبنا في غمارها، ولكننا -في نهاية المطاف- ما استطعنا التخلص من لجج الأحزان أو الوصول إلى برّ الاطمئنان. فقد كنا -كأمة- نحتاج إلى أمور معيّنة لقضاء حاجياتنا، لكن ما قُدِّم إلينا كان شيئًا آخر.
لقد كنا ننتظر حَواريًّا يهبط إلينا لِيُنقذ مقترفي الذنوب، ويئنَّ مع منكسري القلوب.. حَواريًّا مؤثِّرًا بكلامه، دافئًا بروحه، وجادًّا في عباراته.
ظَلَلْنا أعوامًا طوالاً ننتظر “أبطال حقيقة” ذوي إيمان وعرفان راسخَين رسوخ الجبال، أبطالًا نرتشف بكل أمان ما يقدمونه لنا من كؤوس التسلية، ونفتح لهم بكل إخلاص ما يدور في أعماق قلوبنا. وفي الوقت الذي كانت فيه المجاعات والأمراض والمخاوف المتوالية تبطش بنا، وكانت أشكال البؤس المخجل تنهش أرواحنا وتضعف إراداتِنا، كنا -بآمالنا المشعة- نسمع بمقربة من آذاننا أنفاسَه التي تبعث فينا الروح تحيي فينا الأمل.
فلو كنا وجدنا بالفعل ما أحسسنا وشعرنا به حتى اليوم، ولو كنا آمنَّا بما وجدناه منه، لانْسدَّ أَمامنا كثير من الثغرات، ولتخطينا العديد من العقبات. ولكننا اجتمعنا آلاف المرات، وفاضت قلوبنا بالأمل آلاف المرات، وتأهبنا لاقتحام هذا المضمار آلاف المرات.. إلا أننا -وا أسفاه- نقضنا العهد ونكثنا الأيمان آلاف المرات، لأننا لم نجد ما نبحث عنه، أو لم نر فيما نجده ما كنا ننشده.
كان لنا قلوب عطشى للرحمة والمحبة، تبحث عن الإنسانية والمروءة.. ولكن هيهات، كانت أرواحنا تُسقَى كؤوس البؤس والرداءة، وقلوبنا تُدَرَّب على ألف نوع ونوع من القسوة والفظاظة. كنا مظلومين مضطهَدين أذلاء، نُدفع مرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال، وهو ما كان يفجِّر في قلوبنا براكين لا تفتر من الأسى والحسرة، ويذيب أحشاءنا من الداخل يومًا بعد يوم. ومع حالنا البائس الذي يُرثى له، ومعاناتنا تحت الأسر والغلبة والتحكم وشتى أشكال الأمراض والعلل، كنا نتعرض دائمًا لاستغلال الآخرين، ونُستخدم كأدوات لإشباع حرصهم الدائم وجشعهم اللامتناهي.
ولذلك ما عدنا نثق بكل مَن هبَّ ودبَّ، ولا تتعلق قلوبنا بكل أحد.. وعلى حد قول الشاعر: “فحينما نريد حبيبًا يقطف لنا الورود، نود أن يكون مع ذلك ذا وجنة وردية. وعندما نطلب “فاتح خيبر” نتوق أن نرى بجانبه قنبر”(١). فلسنا ندري هل إلى ذلك من سبيل؟ بيد أننا -مَنْ بلغت القلوب منهم الحناجر- لا نرضى إلا بمُخْلِصين من أهل الصفاء والنقاء، ولا نبحث في طريق “متيِّمي القلوب” إلا عن المحتسبين أجرهم عند الله.
وبعد ذلك القدر من الإهمال -بل الخيانة- الذي لقيناه، صرنا نَعتبِر التساهل مع شكوكنا، والنظرَ إلى ما نلاقيه بعين التسامح نوعًا من السذاجة. أجل، إننا -رغم ما نحمله من حسن النوايا وما نتحلى به من روح التسامح- بتنا لا نستطيع التغلب على شكوكنا أو التفلت من أجواء “عدم الثقة”.
إنَّ بعث الثقة في قلوبنا من جديد وإزاحةَ الشكوك منها، منوط بديمومة تصرفات أبطالنا التي تنبض بالإخلاص. أجل، فبفضل تصرفاتهم الباعثة للثقة، قد نتخلص من وبال سوء الظن وعدم الاعتماد الذي نحمله على كاهلنا منذ سنين وسنين.
لقد سئمنا من الخطابات الفارغة، ومَلَلْنا من التصرفات السمجة، والتسلي ببطولات كاذبة تطفّلاً على انتصارات سابقة، مَلَلْنا من الرغبة المفرطة في الحياة والحرص على مستقبل زاهر، واللهث وراء المنصب والمقام. إننا ننتظر من “هرقليطنا” أن يكون ذا إرادة صلبة يجلب بها لنا ماء من وراء جبل قاف، وذا عزيمة تبعث فينا الثقة، وأن تكون انتصاراته حصيلة كدّه وعَرَق جبينه، وأن يضحي بتطلعاته المادية والمعنوية من أجل أن يحيا الآخرون، متحليًا بروح الإيثار والغيرية والاحتساب عند الله تعالى. نتطلع إلى أن تكون أفكاره في منتهى الصفاء لا شائبة فيها، وسبيله مستقيمة لا اعوجاج بها.. ينتج فكرًا ويطبقه ثم يشرح للناس ما طبقه فعلاً. ليس ذا وجهين، ولا يخدعنا أبدًا.
بطلنا هذا، تنظر إليه فترى في وجهه آلافًا من خطوط المعاناة والألم.. عيناه تذرف دمعًا، وصدره ينزف دمًا، ووجدانه ينبض يقظة.. من أنفاسه تتجلى روح التكية في محاسبة النفس ونبلِ المحتد، ويبرز عقل المدرسة العلمية في المنطق والمحاكمة العقلية، ويؤكد على قوة الثكنة العسكرية في الانضباط والطاعة. أجل، بهذا السلوك القويم يعبر بطلنا عن كماله.
بطلٌ يُنقذ إنساننا الذي فُصِم قلبُه عن عقله، وعزبت روحُه عن وجدانه ودُعي إلى الزفاف ببعض نوازعه الجسدية فقط، يخلّصه من أزمته التي دامت قرونًا، ويُدْمجه مع فطرته الأصلية.
بطل يراعي جانب الحق ويقدمه على سائر الاعتبارات، لا يحتكر الفكر ولا الدعوة، بل لا ينسى -ولو لحظةً- أن الطرق الموصِلةَ إلى الله جل جلاله بعدد أنفاس الخلائق.
بطلٌ إذا سمع نداء السعي والبذل لبّى وكان في مقدمة الصفوف، وإذا حانت ساعة توزيع الأجر والمكافآت كان في آخر آخر الصفوف.
بطلٌ لا يقلُّ تجردًّا عن “كاتون”(٢)، ذلك القائد الروماني الذي لم يكد ينهي واجبه تجاه أمته ويتوِّج مهمته بالنصر، حتى سارع إلى التخلي عن منصبه قائدًا مظفَّرًا للجيش، وتنحَّى جانبًا في انتظار مهمة أخرى يخدم بها أمته.
إن أبطال الحق الأوائلُ من عالم المبارَكين هذا، كانوا يتهربون من الإمارة عندما كانت تُعرض عليهم. وإذا اضطروا لحمل تلك الأمانة فإنهم كانوا يقيلون أنفسهم مرات ومرات، يطلبون أن يتقلدها غيرهم من ذوي الكفاءة والموهبة.
لذا، فعلى أولئك الذين أَخذوا على عاتقهم مشروعًا إحيائيًّا جديدًا اليوم، أن يسلكوا الخط نفسه، وإلا فلا حيلولة دون عراكٍ عنيف بين عدد لا يُحصى من العيون الجشعة على عدد محصور من المناصب والمواقع، وبالأخص إذا تعدى الأمر إلى شباب أغرار ومتحمسين.
لست أدري هل سنرى هؤلاء الأبطال أصحاب الأنفاس المخلصة، ممن توسمنا فيهم سمات الحواريين؟!
إننا نؤكد مرة أخرى، أننا في أمس الحاجة إلى تلك الأنفاس التي تبشر بماء الحياة، نضرع إلى الخالق العظيم ضراعة الأسماك في البحار، والظباء في القفار، ألا يطول انتظارنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:١٧ (يونيو ١٩٨٠)، تحت عنوان “Susadığımız Soluklar”. الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.
الهامش
(1) فاتح خيبر هو سيدنا علي بن أبي طاب رضي الله عنه، أما “قنبر” فخادمه الذي كان يحبه ويجلُّه كثيرًا.
(٢) قائد روماني معروف بتواضعه، قاد جيشه إلى الانتصار في الحرب، ولما حان وقت السلم رجع إلى أرضه ليشتغل فيها بالحراثة.