أيًّا كان الزمان أو المكان الذي نعيش فيه؛ فإن همَّنا الرئيس هو الارتقاء بالإنسان إلى أفق الإنسانية الحقَّة، فهذه الإنسانية التي أضاعت البوصلة؛ فتاهت منذ قرون في الأزقّة المختلفة، ولم تستطع أن تعود إلى رشدها؛ لا يمكن لأحدٍ أن يساعدها ويرشدها إلى مرتبة الكمال سوى الشخصيات المفعمة بشعور الإحسان، الطامحة إلى مرتبة الكمال.. أولئك سفراء القيم الإنسانية أينما حلّوا، قلوبُهم تنبض من أجل الإنسانية، ويُسهمون في انتشار مشاعر الخير والجمال.. وبفضل جهودهم ومساعيهم يمكن للصحوة العامة أن تحدث؛ فيبدأ الجميع في الحديث بلغة إنسانية مشتركة، والسعيِ نحو هدفٍ واحد.. وإذا ما تشكَّلت بيئةٌ على هذا المنوال؛ فإن الأشخاص الذين يجدون صعوبة في الوقوف بمفردهم سينضمون إلى نفس الجوقة بشعور جمعي، ويُنقَذون من الضياع.
غير أن إيمان المرء وحماسه قد لا يكونان كافيَين للحفاظ على صموده دائمًا، فقد تنهزم إرادته بين الفَينة والأخرى أمام أهواء النفْس وشهواتها، فإن كان هذا الشخص موجودًا ضمن جماعة يركض جميع أفرادها في إثر البِرِّ والخير؛ فمن الممكن أن يصمد هو أيضًا بفضل حماسهم هذا، ويحمي نفسه من فتنة النفس والشيطان.. تمامًا مثل الأشخاص الذين يتواجدون في الأماكن التي تؤدَّى فيها مناسك الحج كالمطاف ومنى ومزدلفة وعرفات، ويتشاركون نفس الحماس، فيؤثّرون في بعضهم، ويغذّون بعضهم معنويًّا، وحتى لو فقد المرء كلَّ عشقه وشوقه، فإن موجات الحماس التي تتشكل في هذه البقاع المقدسة، تحملكم أمامها، وتأخذكم إلى جوٍّ معنوي علوي لا مثيل له.
أجل، إن التزام الاستقامة في الحياة أمرٌ مرتبطٌ إلى حدٍّ ما بالتواجد في مجتمعٍ صالح وبيئةٍ مستقيمة، ومن هذا المنطلق، فإنه ينبغي لنا من جهة ما أن نعمل على بلوغ أفق الإنسان الكامل، ومن جهة أخرى أن نبذل أقصى ما في وسعنا حتى يتسنّى للآخرين بلوغ هذا الأفق.
والحق أنه لا يتيسر على الجميع دائمًا أن يقاوموا الفراغ ونقاط الضعف الكامنة في ماهيتهم وأن يقيموا صرح روحهم.. فكما أن صلاح المجتمع يرتبط بالأفراد الذين نشؤوا فيه نشأة سليمة، فإن ثبات الأفراد أيضًا يرتبط بدعم وتحفيز المجتمع الصالح لهم، فالإنسان الذي يقف بمفرده، من السهل أن تزلّ قدمه ويقع، ولا يقدر على مقاومة تيارات الضلالة المخيفة، ولا أمواج الذنوب العاتية، أمَّا إذا وجدَ من حوله جماعة تمسك بيده، وتمدّه بالقوة والطاقة؛ فإن فرصةَ محافظته على الثبات، وبقائه واقفًا على قدميه أكبر.
إن أحجار القبة عندما تترابط وتتراصّ فيما بينها، تتمكّن من الصمود أمام قوةٍ كالجاذبية الأرضية، وتحافظ على صمود وثبات الصرح الكبير الذي تُظلّله، وكذلك بنو الإنسان أيضًا، إذا ساند بعضُهم بعضًا فإنهم يصمدون، ويكونون أيضًا سببًا في صمود المجتمع.. وبناء عليه فإن تأمين مستقبلنا، يعتمد على تهيئة وسطٍ يمكّننا من أن يمنح بعضُنا بعضًا القوّة والطاقة بشكلٍ ما، وعلى جعل هذا الوسط مواتيًا للتزوّد بالطاقة ومواصلة السير، حتى إذا نفدت طاقةُ وقوة أحدهم في الطريق أثناء الركض لسببٍ ما؛ أمكنه أن يستمد الطاقة والقوة من أصدقائه ورفاق دربه؛ أي إنه سيواصل طريقه بدعمهم ووقوفهم بجانبه.. كذلك عندما تعجز ركبتاه عن الاستمرار في تسلّق جبال الطريق واجتياز عقباته؛ فإنّ الرياح الإيجابية التي يثيرها مَن حوله هي الكفيلةُ بحمله وتمكينه من الاستمرار في الصعود.
قد نفكر أحيانًا في أن الآخرين يحتاجون إلى أفكارنا وقيمنا، ربما يكون هذا صحيحًا، ولكننا بحاجة إلى إعداد أرضيّة صلبةٍ وبيئةٍ صالحة ووسط ثقافي؛ يتسنّى لنا من خلاله أن نعيش مشاعرنا وأفكارنا بأريحية، وهذا بلا شكٍّ أمرٌ ليس باليسير، فإن لم تكن قوّتنا كافيةً لتحقيق ذلك على نطاقٍ واسعٍ، فإنه يمكننا أن نحقّق ذلك في محيط مدينتنا أو قريتنا أو الحي الذي نقطن فيه.
إنّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم عندما شرَّف المدينة المنورة أسّس مجتمعًا مثاليًّا بفراسته وفطنته الكبيرة، ورغم كثرةِ وجود اليهود والمشركين والمنافقين في المدينة؛ فقد أصبح هو صاحبَ الكلمة العليا هناك خلال فترة وجيزة.. لقد كان هؤلاء يعملون في خلايا سريَّة لاستئصال شأفة المسلمين، ويتآمرون للقضاء عليهم، ويسلكون مختلَف السبل لإضعاف قوتهم المعنوية، ولم يتوانوا قط في إلحاق الأذى بهم إذا ما واتتهم الفرصة، وكانوا يفعلون كل ما في وسعهم ليطفئوا نور الإسلام في المدينة المنورة، ويقضوا على المسلمين.. ورغم كل هذه السلبيات فإن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، قد شكَّل وسطًا مثاليًّا في المدينة المنورة بنصرٍ من الله وعنايته، ومن ثم حُلَّت كثيرٌ من المشكلات بمرور الوقت، وجَفَّ مستنقع الشرّ شيئًا فشيئًا، حتى إن المنافقين قد انصهروا في هذا الوسط الصالح وانخرطوا فيه.
إن بنية أيِّ مجتمعٍ تتشكّل تبعًا لمفاهيم الأفراد الذين يعيشون فيه.. على سبيل المثال، إذا كنا في بقعةٍ يتحلّى الناس فيها بالقيم الإنسانية والإسلامية، فإننا أينما تجوّلنا في أزقّة هذه البقعة وحاراتها ومؤسّساتها وكلَّ ما نشاهده ونمرّ فيها يضيف حماسًا إلى حماسنا، وأذكرُ عندما ذهبت إلى إسطنبول في الخمسينات، زرت مساجد بعض السلاطين وأضرحتهم مثل “بايزيد، والفاتح، والسليمانية، والسلطان سليم”، لقد كنتُ أحبّ هذه الأماكن التاريخية كثيرًا، حتى إنني كنت أشعر كما لو أنني أتجوّل في المدينة المنورة تقريبًا، على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولا ريب في أن الإنسان الذي يعيش في عالم مثل هذا يكون بعيدًا بقدر كبير عن المعاصي والذنوب.
فالمدن التي أُسست في الوقت الذي ازدهر فيه الإسلام، تبعث في الإنسان نشوةَ المدينة المنورة، كانت هذه المدن بعمارتها، ومعابدها، ومدارسها، وتكاياها، وزواياها، ونظافتها، وجمالها مدنَنا، أينما توجّهت أو تجوّلتَ في ثناياها وأزقّتها العريقة تقابل أناسًا يتناثر من أفواههم اللؤلؤ والمرجان، وتختلط بأناسٍ إذا ذُكر “الله” امتلكهم حالٌ وكأنهم سيطيرون في الهواء من شدَّة الحماس والانفعال، وعندما يعيش أناس فُضلاء على هذا النحو في مدينة ما، تصبح هذه المدينة التي يعيشون فيها بمثابة المدينة الفاضلة.
لقد أكّدنا من قبل على أن الأرض لم تتعرَّفْ على المشاكل إلا مع وجود الإنسان على متنها، فلقد جاء الإنسان إلى الدنيا مهيَّأً لجميع ألوان الخير والشرّ، وذلك نتيجةً لقوّتين عظيمتين مُنحتا له، وهما العقل والإرادة، ففي طبيعته وجيناته قابلية للشرّ، فقد جاء إلى الدنيا ببعض النقص وجوانب الضعف؛ مثل الطمع والشهوة والعداوة والبغضاء.. فلا يمكن حلُّ أيِّ مشكلةٍ اجتماعية حتى تُحل المشكلة في الإنسان نفسه، وطالما لم يرتق الإنسان إلى الإنسانية الحقًّة، فإن هذه البيئة، تصير بمثابة بيئةٍ معطَّلة، وتسري هذه الحالة العامة للمجتمع إلى الأفراد الذين يعيشون فيه، ومن ثم فإنه سيكون من الصعب حقًّا أن ينشأ أو يعيش في هذا المجتمع أناسٌ كاملون.
إن الذين وُفقوا في الوصول إلى الإنسانية الحقَّة، يُكِنّون الاحترام للآخرين؛ فلا يحقرون أحدًا، ولا يتدخلون في اعتقاد أحدٍ، ولا مقدساته، ولا حياته؛ وبالتالي يسود بين أفراد المجتمع التسامح والتعايش السلمي، فلقد عاشت الأقليات جنبًا إلى جنب مع المسلمين لعصور مديدة، ومارسَتْ معتقداتها بحرّية تامة.
وفي الختام، فإنه من الوظائف الرئيسة لمن نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام، هو تذكير الناس بإنسانيتهم وبالقيم الإنسانية المشتركة، وإرشادهم إلى أن الإيمان بالله واليوم الآخر هو حقيقة عظيمة لا يمكن إنكارها، وقيمةٌ كبيرةٌ لا يمكن تجاهلها، وحاجةٌ إنسانيّة ماسّة، فتُحيون بذلك حياتهم القلبية والروحية، فإن وُفِّقتم إلى ذلك، شعرتم بحماسٍ وانفعالٍ كبيرٍ أينما كنتم، فأينما نظرتم رأيتم ألوانًا ونسوجًا وصورًا من عالمكم.. لكن العمرَ قصيرٌ، والطريقَ طويلٌ، والأمر يستحق الاهتمام وعدم التأخير، فكلما تحركنا بشكلٍ سريع، وحافظنا على إعلاء شأن الخدمة؛ زادت أهمية الأشياء التي سنقدمها للإنسانية بإذن الله وعنايته..
نحن لا نركض في إثر اليوتوبيا والخيالات، فإننا نعرف الحقائق الإنسانية جيّدًا، ويمكننا حساب الأمور وتقديرها بقدرها، ونحن على وعيٍ بثقل وحجم الوظيفة التي على كاهلنا، فإن استطعنا أن نؤدّي مهمتنا حقّ الأداء، وذلّل الله عز وجل لنا الصعاب بإذنه وعنايته، فلن يكون تأسيس المدينة الفاضلة ضربًا من الخيال.