خلق اللهُ الكونَ في نظامٍ مثاليٍّ متكامِلٍ، وكلُّ مَن يحسن قراءة كتاب الكون يدرك على الفور ذلك النظام والتناغم الذي يسود الوجود، فمثلًا لكلّ نوعٍ من المأكولات والمشروبات التي تسدّ احتياجاتنا وظيفةٌ معيّنة خاصة، وعند استهلاكها بشكلٍ صحّي ومتوازِنٍ يُلاحظ أنها قد خُلِقت بشكلٍ يتناسب تمامًا مع بنية الإنسان.
كلام الله لا يؤثر فيه زمان لأنه يتجاوز حدود الزمان.
وكل جزءٍ في عالم الوجود يتناغم مع الآخر في إطار معايير الخلق، فينبغي للإنسان الذي هو جزءٌ من هذا العالم أن يتّبع هذا النظام أثناء عملية التعلّم، فالقراءة والتعلّم، ثم تقييم ما تمّ تعلّمُه، وتحويلُه إلى منتَج؛ ليس بالأمر الذي يمكن تحقّقه بلا نظام، وإلا تحوّلت المعلومات إلى حشوٍ لا طائل منه في ذهن الإنسان، وأدّت إلى تشوّش في الذهن، وجعلت الإنسانَ ينحرف عن الجادة، كما هو الحال لو أنك أضفتَ موادَّ كيميائية غيرَ منسجمة مع بعضِها البعض في المختبر فسيلحق بك الأذى والضرر في حين أنك كنتَ ترجو المنفعة.
من الناس من يقرأ أيّ شيءٍ يأتي أمامه دون ترتيبٍ أو انتقاءٍ أو مراعاةٍ لاحتياجاته، ونظرًا لأنهم يحشون أذهانهم بمعلومات متفرِّقةٍ غير منظّمة، تراهم يتلفّظون بأشياء غير متوقّعة في أماكن غير مناسبة؛ لأنهم لا يتمتّعون بذهنٍ منظّم، ولا يُخضِعون ما يقرؤونه لنظامٍ معين، ولذلك فهم يتحدّثون اليوم بشكلٍ مختلِفٍ عما تحدّثوا به أمس، وما قالوا عنه صحيحًا أمس يقولون عنه خطأً اليوم، وأحيانا يأتون بأربعة آراءٍ مختلفةٍ في يومٍ واحدٍ، ويا ليت اثنين منهما يتّفقان على الأقل، لكن كل واحدٍ من هذه الآراء الأربعة ينقض الآخر، والعجيب في الأمر أنهم يرون صحّة هذه الآراء جميعها، ويدافعون عن هذا النمط، ويصرّون عليه.
لقد كان المجتهدون العظام يراعون عنصر الزمان في فتاويهم.
إن أسلم طريقة للتفكير المنظم وصون النفس من الانحرافات الفكرية هو معرفة الحقائق المسلّم بها والضوابط الأساسية التي لا بدّ من معرفتها، ثم اختبار المعلومات المكتسبة بناء عليها، فإذا ما نظرنا إلى المسألة من منظور العلوم الدينية وجدنا أنه من الضروري معرفة المبادئ الأساسية للقرآن والسنة أولًا، ثم مراعاة فهم الصحابة والسلف الصالح، والاطلاع على التراث المعرفي الكبير الذي شكلته آراءُ وتفسيراتُ المجتهدين العظام والفقهاء الكرام والعلماء الفخام؛ وهم جميعًا العقول النابغة في الأجيال اللاحقة.. بهذه البنية التحتية فقط يمكن طرح وجهة نظرٍ صحيحةٍ حول هذه القضايا المتعلقة بالعلوم الإسلامية؛ بمعنى التأكّد من معالجة الأفكار المطروحة بطريقةٍ منهجيّة صحيحةٍ.
الأحكام التي بيّنتها السنة النبوية الشريفة لا تتأثّر بعوامل الزمان، ولكن قد يتدخّل الزمان في المواضع القابلة للتفسير والتأويل.
عند قراءة أيِّ كتابٍ تنتقل كثيرٌ من المعلومات مشفّرةً إلى الخلايا العصبية، ومنها تُرسَل العديد من الملفات إلى القشرة الدماغية، فإن لم يتم الالتزامُ بنظامٍ منهجيّ عند فعل ذلك، واختبارُ هذه المعلومات بالضوابط الأساسية للفرع العلمي ذي الصلة؛ فلن يسفر ذلك إلا عن متاهةٍ من المعلومات المشوّشة، وبالتالي يكون الناتج الحاصل عن ذلك هو مجموعة من الأفكار غير المنتظمة وغير المنضبطة التي لا يمكن التنبؤّ بما ستؤدّي إليه.
من ناحية أخرى، من المهم أيضًا تطوير وتنظيم التراث المعرفي الذي ورثناه عن أسلافنا، وجعل النقاط الغامضة فيه أكثر فهمًا ووضوحًا، والاستجابة لاحتياجات العصر وفقًا لمتطلبات الزمان، فقد قاموا -رضي الله عنهم- بأعمالٍ لا بدَّ منها في زمانهم، وتركوا لنا أعمالًا لا بدّ من القيام بها في زماننا”، ولا ننس أن الإنسان هو ابن وقته، فهو ليس كائنًا مختلفًا عن زمانه، ولذلك فإن أفكاره تحافظ على وجودها لوقتٍ محدّدٍ من الزمن، وبعد ذلك تتعرّض للتغير بفعل تفسير الزمان، فالزمان يغير الأفكار أحيانًا بالتأثير في نمطها، وأحيانًا بالتأثير في شكلها، وأحيانًا بالتأثير في نقشها، وأحيانًا بالتأثير في لونها.
أما كلام الله فلا يؤثر فيه زمان لأنه يتجاوز حدود الزمان، وكذلك الأحكام التي بيّنتها السنة النبوية الشريفة لا تتأثّر بعوامل الزمان، ولكن قد يتدخّل الزمان في المواضع القابلة للتفسير والتأويل، ولقد كان المجتهدون العظام يراعون عنصر الزمان في فتاويهم، فيجب التحرّك بناء على هذا النهج، ويُراعى تفسير الزمان في الأعمال التي يجب القيام بها في الوقت الحالي.
إن أسلم طريقة للتفكير المنظم وصون النفس من الانحرافات الفكرية هو معرفة الحقائق المسلّم بها والضوابط الأساسية التي لا بدّ من معرفتها.
إننا نعيش الآن تحت سقفٍ واحدٍ مع الآخرين في هذا العالم الذي يشبه القرية الصغيرة، فلا ينبغي أن نتجاهل ذلك، ففي هذا الوقت تزايدت مشاغل الإنسان، فتشتتت الأذهان، وتشعّبت القضايا التي كانت تُدرس ضمن تخصُّصٍ علميٍّ واحدٍ إلى فروع مختلفة، حتى بات من المتعذَّر أن يدلي إنسانٌ واحدٌ اليوم بدلوه في كلِّ قضيّة كما كان الحال في الماضي، فيجب ألا نتجاهل ذلك ونحن نبحث عن حلول لمشاكلنا اليوم؛ وسبيل ذلك هو تكوين لجان علمية مشتركة بدلًا من العمل الفردي، وبذلك يمكن النظر إلى المسائل بشكلٍ أكثر شموليّة وتحديدًا، ويمكن احتواء القضية من جميع جوانبها.
فينبغي للجان المشكَّلة أن تعيد النظر في المسائل المتعلقة بالعلوم الشرعية مثل: التفسير، والحديث، والفقه، وعلم الكلام، وأن تجدّد الخطاب الدينيّ وتُراعِي الدقة البالغة عند تناول القضايا في ضوء القرآن والسنة، وتسعى إلى بلوغ الحقيقة اعتمادًا على تفسير الزمان، وتُخضِع القضايا لتصنيف وترتيبٍ جديدين، عند ذلك سيكون بإمكان إنسان اليوم الوصول إلى تلك المعارف التي أبرزتها التخصّصات العلمية بشكلٍ أيسر، وسيكون قادرًا على تعلّمها بسهولةٍ أكثر، وبالتالي سيستفيد منها بشكلٍ أكبر.