ينظر العديد من الناس إلى الموت وكأنه نوع من العدم و الانقراض وتفتت وتحول إلى تراب، لذا لا يحاول هؤلاء مواجهة الموت أبدا. وكلما ظهر سـبب من أسباب الموت كالمرض والشـيخوخة والحرب وحوادث السيارات والزلازل نراهم يرتجفون خوفا وهلعا من المنظر الذي يرتسم أمام مخيلتهم حـول وحشة القبر، مما يقلب حياتهم إلى عذاب لا يطاق. أجل، يحسب هؤلاء أن الإنسان عندما يموت ينتهي كل شيء بالنسبة له، حيث يرقد جسده في اللحد ليتحول إلى تراب، ويضيع كل شيء في ظلام العدم. وبعبارة أحد الشعراء:
إذا كان الموت هـو الجسر الوحيد الـذي يوصل إلى النعم والألطاف، فإن الموت -حسبما أرى- يكون ألطف أمل للإنسـان وأحبه وأحلاه.
لن تسطع الشمس بعد الآن،
أما أنت فنم بسكون وراحة،
فالموت نوم ما له من نهاية…
من الواضح كم يقاسي الإنسان ويتألم من مثل هذه الفكرة، وهو المخلوق المرشح لحياة أبدية. وكل من يستمع لصوت وجدانه يسمع هذا الصوت وهو يهتف به ببيت من أحد الشعراء:
لو ملكت الدنيا كلها بقي سؤالي،
لماذا لا ينتهي حزني وغمّي؟
الموت بالنسبة لنا دوما مكانا ذا أبعاد عديدة، وزمانا ذا أعماق يتجول فيها الروح، ويحمل معنى التسريـح من وظيفة العبودية، والأوان الذي يقول فيه الحـق تعالى لعبده: “لقد آن لك أن ترجع لي بكليتك”.
وهو أمر مهم يجب الوقوف عنده وعدم إهماله. بينما الموت ليس عدما أو انقراضا ولا تفتتا وتحللا، ولا فناء، ولا نهاية. كما أن القبر ليس حفرة يتم فيها التحول إلى تراب، ولا مكان وحشة ووحدة. والحقيقة أن الموت عندما خُلق وأوجد لهذا الإنسان المخلوق لحكمة وفي ظل خطة وبرنامج معين، إنما خُلق لنقله من بُعد معيَّن إلى بعد آخر ضمن هذا البرنامج وهذه الخطة. وتغيُّرُ الإنسان من حـال إلى حال ودخوله -حسب ثمرات أعماله- إلى مرحلة مختلفة ورجوعه إلى وطنه الحقيقي ودار إقامته الأبديـة، ولقاؤه الأرواح الصالحة -طبعا حسب عقيدته وعمله- في ممرات الوصال المتداخلة، ومثولُه أمام خالقه دون كم أو كيف، ونيلُه رضوان الله… لا يتم كل هذا إلا بالموت. كذلك لا يعدّ القبر بئرا مظلمة ولا حفرة محاطة بالعدم كما يُحسب ولا غرفة سجن وعزل، بل هو باب مفتوح لعالم مضيء، وممر ينقل الإنسان إلى عوالم نورانية، وموضع انطلاق لارتفاع الروح إلى عوالم أخرى سامية وعالية. والذين أنهوا مهمتهم أمام الشاهد الأزلي الحق تعالى، أو الذين أنهوا خدمتهم في هذه الحياة الدنيا مثل جندي تسرَّح من الخدمة، والذين أتموا -في ظل شـعور عميق بواجب الدعوة والخدمة الإيمانية- إيمانهم بالعبادة، ووصلوا بعبادتهم إلى درجة الإحسان، وتهيأوا لاستقبال الحياة الأبدية يمرون من هذا الممر -ممر الموت- ليصلوا إلى سعادة لم تشاهد مثلها عين ولا سمعت بها أذن ولا خطرت على قلب بشر.
إن الرغبة في الموت وتمنيه وطلبه ليس من حقنا. ولكن عندما يدعونا الله تعالى نسرع إليه بكل حب وشوق.
أجل!.. إن الموت يعني بالنسبة لنا دوما مكانا ذا أبعاد عديدة، وزمانا ذا أعماق يتجول فيها الروح، ويحمل معنى التسريـح من وظيفة العبودية، والأوان الذي يقول فيه الحـق تعالى لعبده: “لقد آن لك أن ترجع لي بكليتك”. والذين يعرفون الحق تعالى حـق المعرفة، ويحبونه حق الحب يدركون أن في نداء طلب العودة هذا فضلا كبيرا: ﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ % ارْجِعِي إِلَى رَبِّـكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً % فَادْخُلِي فِي عِبَـادِي % وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27-30). والروح الذي يتلقى هـذه الدعوة لا يستطيع الانتظار دقيقة واحدة في الدنيا لأن معنى هذه الدعوة هو:
تعال أيها الروح… تعال… آن لك أن تغادر هـذه الدنيا الضيقة… تخلص من جوها الكئيب الخانق… ارجع إلى الجنة التي فقدتها… ارجع إلى الوطن الحقيقي لك.
والذين يفهمون الموت بهذا المعنى، يدركون أنه فضل ونعمة، وأن المجئ إلى الدنيا كان لأداء مهمة معينة وأداء خدمة فيها كالخدمة العسكرية، وأن فراقها يعني التسريح من هذه الخدمة، وأنه ولادة ثانية ليستيقظوا في حياة أبدية لا تزول ولا تنتهي، لذا يمشون نحو الموت برباطة جأش ودون وجل. وسيان عند هؤلاء صداقة عزرائيل وصداقة إسرافيل. وفي كل لحظة من لحظات رجوعهم إلى الله تعالى والخطو نحوه تحت ريادة جبرائيل يلتذون بهذه الرحلة وكأنهم يعلون ويرتفعون في رحلة معراج ويسمون. والحقيقة أن المؤمن ينظر إلى الموت والدفن في القبر نظرته إلى بذرة بذرت في الأرض لتتحول إلى سنبلة، أو إلى حيمن يندفع لكي يتحول إلى إنسان كامل.
أيّ بذرة صالحة بذرت في رحم الأرض ولم تتحول إلى سنبلة؟ إن الله تعالى شرف الإنسان عندما نفث فيه من روحه وجعله مخلوقا مرشحا للحياة الأبدية. ومع أن الجسد سيفنى ويتحلل فالروح يبقى حيا إلى الأبد. وللموت لذة وسعادة عند الذين يدركون أن صاحب الروح هو الذي يقبض هذا الروح. فالموت والقبر عند هؤلاء عبارة عن مجرد ستار وفاصل توجد خلفه مباشرة وعلى بعد خطوة واحدة فقط بهجة وسعادة لا توصفان ولا تخطران على أي بال. وتراهم حتى وهم في هذه الحياة الدنيا وكأنهم في عالم القلب متكئين على الأرائك المزينة بالجواهر متقابلين وكأنهم في جنات النعيم. وذلك بدرجة غنى إيمانهم وأفق المعرفة التي يملكونها، ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ % بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ % لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنـزفُونَ % وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ % وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْـتَهُونَ % وَحُـورٌ عِينٌ % كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾(الواقعة: 17-23)، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ % فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ % كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ % مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾(الطور: 17-20)، ﴿وَأَمْدَدْنَـاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ % يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ % وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾(الطور: 22-24)، ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ % فِيهَا سُـرُرٌ مَرْفُوعَةٌ % وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ % وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ % وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ (الغاشية: 12-16).
للموت لذة وسعادة عند الذين يدركون أن صاحب الروح هو الذي يقبض هذا الروح.
فإذا كان هذا هو الوجه الحقيقي للموت، فخليق بنا -حتى من الناحية المادية والجسدية- ألا نبكي ونحزن، بل نفرح للموت الذي يُعَدّ تمزيقا لهذا القفص الجسدي، وتحريرا لنا من سجن ضيق، إلى جنات واسعة وبساتين خضراء شاسعة. نفرح لأن الموت هو الجسر الوحيد لهذا العالم السحري الذي يدير العقول والذي يطل علينا بوجه ضحوك وطليق في أحلامنا كل ليلة. هذا الموت الذي يأتي بأمره هو تعالى وبإذنه. وأصحاب القلوب المملوءة بالإيمان والمدركة لحقيقة الموت، وأبطال المحبة يقبلون على الموت بكل وجد وعشق لكي يحققوا الوصال مع الحبيب الأزلي. وعندما يتم هذا الوصال يذوب كل منهم كما يذوب السكّر في الماء ويتحول إلى شراب، ويتغير ويتحول إلى رقة ولطافة أهل الآخرة، ويسبح ويغتسل بذكر الله الذي يتردد في أفواه الروحانيين وعلى أصوات رفرفة أجنحة الملائكة. وبخلاف الذين يلوثون ما حواليهم بنجاسات معنوية من أهواء وشهوات، ويثيرون شعور الاشمئزاز والقرف، في زمن يسيل دون انقطاع أو تغير، قد عجن بالأكدار والهموم، لا طلوع فيه للشمس ولا غروب… نرى روح المؤمن ينتقل مثل وردة من يد إلى يد، ويُشَمّ في كل مكان يحل فيه كالمسك والعنبر. أما حاكم الأرواح والأنفس وسلطانها، فيَهَبُ له ملكا وسلطنة تدير الرؤوس وتخطف الأبصار، ويفيض عليه بخِلَع وأفضال خاصة وجديدة على الدوام لا تنقطع ولا تنتهي، وينير أفقه وما حواليه بأنوار جماله، ويسمعه قصائد وأنغام الرضى عنه، ويذيق روحه ألوانا لا تعد ولا تحصى من الجمال. ولكونه بطل معرفة حكمة الوجود في الحياة وسرّها، يرى في كل منـزل من منازل الآخرة -بنسبة إيمانه ودرجة عشقه وشوقه- ما تراه الجواهر واللآلئ من قيمة وتقدير. وبخلاف من يمشي بخوف ورعب -من الذين أساءوا التصرف في حياتهم- في ظلمات حالكة، نرى أن كل بطل من أبطال الحقيقة هؤلاء يخطو في النور على الدوام في الصباح أو في المساء، ويغرف من النور، ويتجول بين الأنوار.
الموت ليس عدما أو انقراضا ولا تفتتا، ولا فناء، ولا نهاية. كما أن القبر ليس حفرة يتم فيها التحول إلى تراب، ولا مكان وحشة ووحدة.
لا يستطيع الظلام الاقتراب منه، ولا يستطيع الغروب إسدال ستار الظلام عليه. ومثل هؤلاء المحظوظين ينصبون خيامهم في أفق بحيث يستطيعون التجول في الشواهق التي تشكل الغاية من خلق المشاعر الإنسانية، ويرتفعون من أفق الإرادة إلى ذروة الشعور، ومن ذروة الشعور إلى قلب العرش. وفي كل ارتقاء وعروج يجدون أنفسهم في وليمة مختلفة من ولائم المواهب، ويصلون إلى أنواع مختلفة من وجـوه لذائذ المشاهدة ووجد التأمل، ويعيشونه. وهذه نعم من الأنعام التي تتجاوز الإدراك البشري. ومع أن بعض أبطال القلب ذاقوا جزءً من لذة هذه الألطاف في الدنيا، إلا أن التذوق الكامل لها وعيشها كاملا خاص بدار الآخرة فقط.
ينظر العديد من الناس إلى الموت وكأنه نوع من العدم و الانقراض وتفتت وتحول إلى تراب، لذا لا يحاول هؤلاء مواجهة الموت أبدا.
إن المؤمن الذي يصل إلى هذا اللطف الإلهي وإلى هذه المرتبة سيجد في فمه لذة الشهد الذي لا يجده في أي قرص عسل، والزبد الذي لا يجده في أي مكان آخر. وفي ذلك العالم السحري الذي تبدلت فيه هذه السماوات والأرض، واختلفت وتغيرت، تلتف وتطوف أنواع من الجمال والفيوضات حول منبعها صباح مساء… تشاهده “هو”… وتعرفه “هو”… وتسمعه “هو” فحسب… وترتفع بجاذبيته وحبه والشوق إليه فوق مستوى ماهيتها، وترتبط بنور وجوده، وتبدأ باللمعان، وتكون كما قال الشاعر غالب:
لمعة من النور الإلهي،
لا يسعها فانوس السماوات…
فإذا كان الموت هـو الجسر الوحيد الـذي يوصل إلى هـذه النعم والألطاف، فإن الموت -حسبما أرى- يكون ألطف أمل للإنسـان وأحبه وأحلاه. ولكن كما أن مسألة الدعوة للحياة الدنيا لا تعود إلينا، كذلك فإن الرغبة في الموت وتمنيه وطلبه ليس من حقنا. ولكن عندما يدعونا الله تعالى نسرع إليه بكل حب وشوق. ولكن إن قال: “رويدكم!.. ابقوا قليلا” فلا يسعنا سوى الصبر المرير انتظارا ليوم الوصال واللقاء.
المصدر: فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.