لقد تبدل تقويم الأشياء والنظر إلى الحوادث في وقتنا الحاضر تبدلاً كلياً، فالمنطق والعقلانية في مقدمة الأمور، وقد حازتا أهمية كبرى في التقويم، حيث إن الكفر والإلحاد يتكلمان باسم العلم والفلسفة. ومن هنا يضطر المسلم إلى مقابلتهم بالأسلوب نفسها، وهذا وثيق الصلة بمعرفة ثقافة عصره، وما العلم والعرفان اللذان لا ينفكان عن المسلم إلاّ هذا الأمر.
الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أخذوا ظروف واقعهم ومستوى مخاطبيهم بنظر الاعتبار لدى تبليغهم ودعوتهم.
إن من لا يعرف مجريات عصره كمن يعيش في دهليز مظلم، عبثاً يحاول أن يبلّغ شيئاً عن الدين والإيمان إلى الآخرين، فعجلات الزمن والحوادث ستفقده التأثير إن عاجلاً أو آجلاً. ومن هنا فعلى المؤمن أن يفهّم ويبلّغ ما ينبغي أن يُفهّم بأسلوب ملائم ومنسجم مع المستوى الفكري والعلمي والثقافي لعصره، ولعلي أجزم أن مرشداً وداعية -في يومنا هذا- إذا ما تمكن من تطبيق هذه النقطة المذكورة يسبق الأولياء والأقطاب في الآخرة، إذ يقف خلف الأنبياء عليهم السلام. نعم إن هذه النقطة سامية وجليلة إلى هذا الحد. علماً أن التمسك بها وتنفيذها صعب أيضاً مثلما أنها ضرورية جداً.
على المؤمن أن يفهّم ويبلّغ ما ينبغي أن يُفهّم بأسلوب ملائم ومنسجم مع المستوى الفكري والعلمي والثقافي لعصره.
إن من لا يعرف عصره لا يختلف عمن يعيش تحت الارض، بينما المبلّغ أو الداعية يجوب في الفضاءات. وعندما يجول بين النجوم بعقله، يعاين بقلبه وبلطائفه الأخرى رياض الجنان، أي عندما يحجزه عقله في المختبر جنب (باستور)، ويسيّره برفقة (انشتاين) في أعماق الوجود، تراه واقفاً بروحه بكل إجلال وتوقير أمام الله سبحانه وأمام رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فينصبغ بصبغة الله مراتٍ ومراتٍ في اليوم الواحد.. وأعتقد أن المرشد الحقيقي هو هذا. تأملوا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا لقي قبولاً وتأثيراً لدى مخاطبيه؟ لأنه تعامل مع عصره بمثل ما يتعاملون به بينهم. ولا شك أن جميع الأوامر الآتية من الرب الجليل لا تخالف الحوادث الجارية في الكائنات، ويكفي للإنسان أن يدرك حكمة الوجود وروحه، فينسّق ما يريد أن يبلّغه وفق ذلك.
إن من لا يعرف مجريات عصره كمن يعيش في دهليز مظلم، عبثاً يحاول أن يبلّغ شيئاً عن الدين والإيمان إلى الآخرين.
وكذا الأمر لدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أخذوا ظروف واقعهم ومستوى مخاطبيهم بنظر الاعتبار لدى تبليغهم ودعوتهم، وذلك ما تعلّموه من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولذا سَمَوا إلى مستوى رفيع في قوة التأثير مما جعل الدنيا تجثو أمامهم في أقصر وقت. وكذلك فعل جميع العظماء الذين أتوا بعدهم من الوارثين الحقيقيين للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، سلكوا الأسلوب نفسه في التبليغ وإن تخالفت مسالكهم، حيث أدركوا مدارك عصرهم، فدام تأثيرهم إلى يومنا هذا، كالإمام الغزالي والإمام الرباني ومولانا جلال الدين الرومي وأمثالهم من الدعاة الأثبات.
ولكن لما آل الأمر إلينا.. فأسفاً.. أدرنا ظهرنا إلى العلم، كوارثين غير صالحين لأولئك الأبرار. حيث دمّرنا ما يجعل المسلم مسلماً حقاً من آداب وأركان. فنحن ضحايا جهلنا.
المصدر: فتح الله كولن، طرق الإرشاد في الفكر والحياة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.