لا يروق لي القولُ بأن هذه اللفظة أعجمية نُقِلَتْ إلى العربية، ولا يطيب لي البحث عن أصلٍ لها حسبَ علمِ الاشتقاقِ كأنْ يُقال: إنها مأخوذةٌ من هذا الجذر أو مشتقة من ذاك… صحيح أن من العلماء من أرجعها إلى بعض الكلمات وحاوَلَ أن يجد لها أصلًا، ولكني -وأنا العاجز الفقير- أقول حسبَ رأيي المتواضع: “كما أن ذاتَ الباري أزليّةٌ؛ فكذلك اسمه من الأزل هو “الله”، وليس من المناسب البحثُ عن أصلٍ لكلمةِ: “الله”، ولكن هناك كلمات تدور في فَلَك هذه اللفظة الجليلة، وكأنها تقول: أنا لي وجهُ شَبَهٍ بهذه الكلمة، ونحن بدورِنا سنقوم بعرضِها وسردِها:
الإنسان بين يدي ذلك السلطان وأمام سلطنته العظيمة ينسى جوعه وعطشَهُ، وينسى كلَّ أنواع أبَّهَتِهِ وبهرَجَتِهِ وهناك يقول: “هو”.
إن كلَّ شيءٍ منوطٌ بالله، وكلُّ شيءٍ قائمٌ بالله، ونورُ وجهِ الكائنات وضياؤُه هي لفظةُ: “الله”، وكلُّ مكانٍ لا توجد فيه كلمة “الله” فسيكون ما فيه من العلوم والمعارف عبارةً عن خيالٍ وسرابٍ، وستُصْبِحُ ركامًا من أفكارٍ غيرِ مفهومةٍ، ومستعصيةً على الحلّ، فدخولُ كلِّ العلوم في القرن العشرين في مأزقٍ وطريقٍ مسدودٍ إنما هو بهذا السبب، وكلُّ العلوم والتقنيات والفنون التي لا تستند إلى كلمة: “الله” مسدودةٌ وغير نافذة، وتنطوي على عديد من التردّد والشبهات، ورجلُ العِلْمِ قد يسمّيها بأسماء مثل: “الفرضيّة” أو “النظريّة” أو أسماء أخرى، ويحاولُ أن يقدِّمها للناس وكأنها معلومةُ الماهيةِ؛ ولكن الحقيقة أنها لم تُعرَفْ بعدُ لا بمعناها ولا بماهيَّتِها.
إن كلَّ شيءٍ في الكون يستند إلى حقيقةٍ، ولا بدَّ أن يكون في أساسِ كلِّ شيءٍ حقيقةٌ، ويجب أن يكون في أساسِ هذا الكون الرائع أيضًا حقيقةٌ كبرى يستنِدُ إليها ويجدُ بها معناهُ، وإنَّ صرحًا فنّيًّا رائعًا مثل الإنسان الذي هو ثمرةٌ لشجرةِ الكون لا يمكن إسنادُهُ إلى بعضِ الفرضيّات، كأنْ يستند -مثلًا- إلى ما يسمَّى: “الأميبا” (AMİP) التي تعيشُ تحت البحار، ولا إلى الدِّيدان، ولا لرياح الصُّدفة، بل لا بد أن تكون وراء هذه التحفةِ الفنّيّة حقيقةٌ كبرى، وتلك هي ما تعبّر عنها كلماتُ: “الله”، “الرحمن”، “الرحيم”.
وأودُّ هنا أن أَلفتَ الأنظارَ إلى نقطةٍ؛ وهي أن هناك تياراتٍ علميةً نشأت في شرقيِّ العالم وغربـيِّه وشماله وجنوبه، وأن ثـمَّةَ دُوَلًا قَطعتْ أشواطا بعيدة في مجال العلوم والتكنولوجيا، ولكن عندما تنسدُّ كلُّ الطُّرُقِ فإن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله سيستنجدون بأولئك الذين تعلَّقت قلوبهم بالله والذين يحلِّقون بكلِّ مشاعرهم كالفراشة حول الإيمان به تعالى، ويؤمنون حقّ الإيمان.
وإذا كان هناك مَن يريد تنسيقَ العلومِ، فإن هذا إنما يتأتَّى بإسنادها إلى لفظةِ: “الله”، وحينَها ستكون العلوم والمعارف مستنِدَةً إلى حقيقةٍ، وستجدُ لونَها وصبغتَها الحقيقيّة.
إن “المؤمنين بالله” هم الذين سيوجِّهون العلوم والمعارف إلى مَجرًى جديدٍ، وسيؤسّسون العلومَ والمعارف على أسسٍ متينةٍ… فإن لم يتحقَّقْ ذلك ولم يُفهَمْ معنى الكون، فإن الله سبحانه وتعالى سيدمِّرُ الكونَ ويبعثرُهُ، بسبب أنه لم يعُدْ معناه مفهومًا ولم يعد يُستخدَمُ في السبيل التي خَطَّها الله له…
إن الله المعبود بالحق والمقصود بالاستحقاق، إنه الموجودُ الوحيد الذي يستحقُّ العبادة…
والله محبوبٌ بذاته…
والقلوب بذكره تطمئن، وكل القلوب المنكسرة إذا وصلتْ إلى أعتاب بابه صُبَّتْ فيها السكينة…
والله هو العلي الأعلى، فليس لشرك المشرك أن يصل إلى مقامِ عزِّه وعظمته…
إنه لا تدركه الأبصارُ، وهو متعالٍ علوًّا كبيرًا، وهو الذي يُدبِّرُ الكونَ كلَّهُ… إننا لا نراه بأبصارِنا ولكنّنا نشاهدُ ونُعاين في كلِّ شيء آثارَه التي هي أبرز من كلِّ عيان وأنصعُ من كل ناصعٍ أو برهان… فندركُ أنه تعالى “مُختَفٍ من شدة ظهوره”.
وهو ملجأُ المنكسِرة قلوبُهم أجمعين، وهو منبعُ حيرةٍ للمؤمنين؛ فكلُّ مَن زادت معرفَتُهُ بالله سيغوص في بِحارِ الحَيرةِ..
والله معبودُ كلِّ إنسان، إنه تعالى المعبود بحقٍّ لأنه هو: “الله”.
والآن لنستخرجْ هذه المعاني من تلك الكلمات القريبة من لفظة الجلالة: “الله”.
1- تحليل لبعض الألفاظ القريبة من لفظ الجلالة “الله”
أ. “أَلَهَ – يَأْلَهُ”:
“أَلَهَ”: بمعنى “عَبَدَ” لأنه تعالى هو المعبود، أي المتفرِّدُ باستحقاق العبوديّة، و”أَلَهْتُ إِلَى فُلَان” أي سكنتُ إليه، إن الإنسان يسعى دائمًا للوصولِ إلى الكمالِ، وفي سبيل ذلك يعمل دونما كللٍ أو مللٍ، فيقطع المسافات الشاسعة، وإن الذي لم يَفقد إنسانيَّتَهُ ويحملُ بين جوانحه القلبَ والوجدان سيكدُّ ويكدح من دون توقُّف حتى يصل في نهاية المطاف إلى الكمال الذي قُدِّرَ له، والله ذو الكمال المطلقِ هو الذي سيمنحُهُ ويدلُّه على الكمال… وهذا الإنسان سيرتقي إلى مقام الأسماء، ومن مقام الأسماء إلى مقام الصفات، ومن ذلك إلى مقام الشؤون الذاتية، وكلَّما ارتقى سيزداد حيرةً ودهشةً، وسيظلُّ مهرولًا حتى يَصِلَ إلى الكمال، وعندما يأذنُ اللهُ له بالنضجِ والكمال تنزِل السكينة في قلبه، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، فالمحطَّةُ الأخيرة التي يلجأ إليها الباحثون عن الكمال هي الله، وبالتالي فهناك مناسبة بين لفظةِ “الله” وكلمةِ “أَلَهَ”.
ب. “أَلِهَ – يَأْلَهُ”
منها فعلُ “أَلِهَ” بمعنى لجأ؛ يقال: “أَلِه الفصيلُ”؛ أي ولعَ بأمه، فكما أن هذا الفصيلَ يَجعلُ عجزَه وفقرَهُ شفيعًا فيلجأُ إلى أمِّهِ، حتى إن أمَّهُ تركله أحيانًا ولكنه لا يتلكَّأُ في اللجوء إليها مرارًا وتكرارًا؛ فكذلك الإنسان العاجزُ الفقير كسيرُ القلبِ مهيضُ الجناحِ المغلوبُ على أمرِهِ، يلجأُ إلى رحمةِ الله ورأفَتِهِ، والحقيقةُ أنه ليس هناك مَن يُستجارُ به فيعود بالنفعِ على المستجيرِ إلا الحقُّ سبحانه وتعالى، فمعنى الالتجاء هذا مكنونٌ في لفظ الجلالة.
جـ. “وَلَهَ – يَلِهُ”
“وَلَهَ” بمعنى تَحيَّر وذهبَ عقلُهُ، وهذه الكلمة تُعبِّر عن مقام الحيرةِ، والحقيقةُ أن كلَّ إنسانٍ إذا تجلَّى له نور التوحيد تأخذه الحيرة والاندهاش، إن بعض الناس لا يستطيع أن يتخطى جسمانيته، فيظلُّ سجينًا في قَفَصِ بَدَنِهِ ذي الجوِّ الخانِقِ الكئيبِ، ولا يدري ماذا عليه أن يفعل، وهذا نوعٌ من الحيرة، في حين أن البعضَ الآخر يتخطّى مقام “الأسماء” ويكون على مشارفِ مقامِ الصِّفات، ولكنه لا يتسنَّى له الكشفُ عمَّا وراءَ ذلك، وهذا يكون أيضًا في “حيرة” ولكن من نوعٍ آخر… وأيًّا مَّا كان نوعُ الحيرةِ فهذه الحيرةُ لونٌ من ألوانِ تجلِّي نورِ التوحيد… وهذا المعنى العظيم أيضًا مكنوزٌ في لفظ الجلالةِ “الله”.
د. “لَاهَ – يَلِيهُ”
ومن تلك الكلمات التي تَمُتُّ إلى لفظ الجلالة بصلةٍ فعلُ “لَاهَ” أي احْتجَبَ واختفى؛ إن الله لا يُرَى بالعين، والحال أنه أظهرُ من كلِّ ظاهرٍ؛ فعدَمُ رؤيَتِنا له إنما هو لكونه في ذروة الكمال أي لشدَّةِ ظهوره، بالإضافة إلى أن الله تعالى ليسَ له ضدٌّ ولا ندّ؛ والشيءُ إنما يُرى إذا كان له ضدّ ولم يكن مرتقيًا إلى درجة الكمال في مراتب الوجود، فالليل يُرى ويُدرَك لأن له ضدًّا وهو النهار، وكذلك الأمرُ بالنسبة للنهار لأنه ضدُّ الليل، والحرارةُ كذلك إنما يُحَس بها بالبرودة، والعكسُ صحيحٌ…
ذلك الله الذي إنما تتحقَّقُ كلّ الأمور من الرؤية والسمع، والحياة والموت، والإيمان والكفر، والعدل والظلم، وسائرُ الأضداد بتجلِّيه تعالى، والخير والشر منه، فهل يمكن رؤيةُ الله الذي منه كلُّ شيء وليسَ له ضدٌّ ولا ندّ! ولذلك نقول: “إنه مختفٍ مِن شِدَّةِ ظهورِهِ”، يدعوه أرباب القلوب في مناجاتهم قائلين: “يا من احتجبَ لشدَّةِ ظهورِهِ وخفيَ عن الأبصار لعظيمِ نورِهِ”.
و”لَاهَ” يأتي بمعنى “ارتفع” أيضًا… فالـمُشرِكُ مهما اتَّخَذَ على وجهِ الأرضِ شركاء لله، وجاوزَ حدَّهُ فقال: “إني سبحتُ في أجواء الفضاء فلم أعثر -حاشَ لله- على الله”[1]؛ فالله الذي تَنزَّه عن الزمان والمكان، والذي يحكُمُ الكونَ كلَّه، والذي يقلبُ كلَّ شيءٍ في قبضةِ تصَرُّفِهِ كيف يشاءُ؛ لهوَ مرتفعٌ ومتعالٍ عن كلِّ أنواعِ الشِّرْكِ والشركاء…
2- خصوصيّة لفظ الجلالة
ومن خصائص لفظ الجلالة “الله” من التميُّزِ ما لا نَجِدُهُ في الأسماءِ الأُخرى؛ فإنك إذا حذفتَ منهُ الهمزةَ يكونُ الباقي “لله”، وإذا حذفتَ اللامَ الأولى يبقى “له” ويمكن أن يُحمل على معنى “لأجلِهِ تعالى”، وإذا حذفت اللامين مع الألف يبقى “هُـ” أي: “هُو”، وهذا الضمير يمكن أن نشيرَ به إلى الله تعالى.
فلفظ الجلالةِ لفظ معجز بهذه الدرجة، فلنقف باختصار على هذا الحرف الأخير منه (هُ)، ثم لنعرِّجْ مرة أخرى على معناه بشكل عام.
إن “هُـ” (هُوَ) بحدِّ ذاتِهِ معجزٌ، والإنسان حينما يقول: “هُـ” (هُو) يستذكر المعنى التالي أو إن استحضار المعنى التالي يجعله يقول: “هُـ” (هو)، حيث إن العبد يقول: يا إلهي! أين أنا منك، فأنا المخلوقُ من ماءٍ مهين، وأنت المعبود بحقٍّ سلطانُ الأزل والأبد، فأنا لا أستطيع أن أخاطبك بـ”أنت”، بل إنما أناجيك بـضمير الغيبة “هُـ” (هو) في سياق التعبير عن معاني جميع أسمائك التي مَلَأَت الكونَ، وإنما أشفي غليلَ صدري بأن أقول: “هُـ” (هو).
والإنسان في كثير من الأحيان حينما يذكر اسمًا من أسماء الله تعالى، يستحضرُ علاقة ذلك الاسم بالموجودات ويأخذ بعين الاعتبار علاقةَ ذلك الاسم بنفسِهِ، فمثلًا: حينما يقول: “يا كريم” قد يستحضر إكرام الله له ويقوله طالبًا إكرامَه، وحينما يقول: “يا مُحسِن” طالبًا إحسانَ الله تعالى، وحينما يقول: “يا جميل” يستحضر تجليات الله الجمالية، وهكذا قد تشوب الإخلاصَ هَناتٌ ولو إلى حدٍّ ما، في حين أنه حينما يقول: “هو” فإنه يكون قد تَخطَّى كلَّ الأماني والمطالِبِ، وأَعلَن أن الله تعالى هو المعبودُ الـمُطلَقُ لا لشيءٍ بل لأنه هو “الله”، وهذا سيشفي غليلَ صدرِه بحيث لا يدرك مدى الذوق الرفيع الذي يَشعر به هذا القائل إلا مَن سَبق له أنْ قال من أعماق أعماق ضميرِهِ: “هوووو”، فهذا اللفظُ له تأثيرٌ كبيرٌ على التربية الروحيّة.
وأيضا فإن الله يعرِّفنا بذاته من خلال أفعاله وآثاره، ونحن بِدَورِنا نَعْرفُهُ بِقَدْرِ تجلِّياتِهِ وآثارِهِ الموجودةِ لدينا، ولكن هذه المعرفة نسبية، وتُعدُّ معرفةً ناقصةً إذا قارنَّاها بالمعرفة الحقيقيّة، لأن الإنسان لن يتأتَّى له أن يُدْرِكَ ويستوعبَ كلَّ هذه الأفعال الجارية في الكون، ويحيطَ علمًا بفاعِلِها، من خلالِ عدسةِ ما أُسدي إليه من الألطاف والإحسانات، بل إنه سيُقَيِّم القضيَّةَ في إطارِ موازينِهِ الشخصيَّةِ، فالعبدُ حينما يستشْعِرُ بأنه ماثلٌ بين يدي الله، الذي يُعرِّفنا بذاته من خلال آياته الآفاقيّة والأنفسيّة، فإنه يستحيي أو يُكسَفُ من التوجه إليه تعالى بلفظةِ الخطابِ: “أنت”، فيقولُ في مقام الغَيبة: “هو”، والواقعُ أنَّ كلَّ زفيرٍ وشهيقٍ منَّا عبارةٌ عن “هو”، أي إنَّ “هو” منبعُ حياةٍ لنا، ولا يمكن لنا مواصلة حياتِنا إلا بِهِ.
إن كلَّ شيءٍ منوطٌ بالله، وكلُّ شيءٍ قائمٌ بالله، ونورُ وجهِ الكائنات وضياؤُه هي لفظةُ: “الله”.
وهناك أمر آخر وهو: أن الإنسان بين يدي ذلك السلطان وأمام سلطنته العظيمة ينسى جوعه وعطشَهُ، وينسى كذلك كلَّ أنواع أبَّهَتِهِ وبهرَجَتِهِ، بل إنه ينسى كيانه ووجودَه، فيَصرِف نظرَه عن كلِّ شيءٍ آخر، فيوجهه إليه فقط، وهناك يقول: “هو”، فكلُّ شيءٍ ينمحي وينعَدِمُ مِن أمامِ نظراتِهِ مع كيانِهِ وذاتِهِ.
فنحن إذ نقول: “بسم الله”، نكون قد تَصوَّرنا وشاهدنا هذه المعاني…
المصدر: فتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.