سؤال: ما الحكمة من حديث القرآن عن أمثال أبي لهب ؟ هل هذا يوافق فصاحة القرآن وبلاغته؟
أولًا: كان أبو لهب -واسمه عبد العزّى- رجلًا عنيدًا شقيًّا حُرِم النور النبويّ رغم نشأته بجواره، ونزلت فيه سورةٌ، يقول الحق: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ (سُورَةُ الْمَسَدِ: 111/1-5).
أجل، لطالما وظَّف أبو لهب الإرادة التي منحها الله له في الشر، فألقى الأشواك في طريق رسول الله، وأضرم النار في طريقه إلى الكعبة، والجزاء من جنس العمل، ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾، وهذه إشارة لطيفة، فالقرآن الكريم يذكر هذا المكابر بلقبه ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾ أي “أبي النار”.
لقد وقف هذا الرجل في وجه الدعوة الإسلامية وحاول صدها عن إعلاء كلمة التوحيد ونشرها، وحاك المكائد والمؤامرات طول حياته ضد الإسلام والمسلمين، فخاب سعيه، وباءت محاولاته كلها بالفشل، ما أغنى عنه ماله الذي آل إليه من ثروة بني أمية ولا ثراء زوجته أم جميل ولا ما اكتسبه هو، وما كان لأولاده الذين يفخر بهم يدٌ في نجاته.
تخلّف عن المشركين في معركة بدر لعُذْر، ولما بلغه نبأ انتصار المسلمين انهارت أعصابه، وجاء النذير ليحدِّث أهل مكة بحدَثٍ لم يتوقّعوه، يحدثهم عن جنود بعمائم صفراء يحاربون مع المسلمين، وكان بينهم صحابي يُدعَى أبا رافع يخفي إسلامه، فلما سمع هذا الكلام لم يتمالك نفسه وقال: “هؤلاء والله هم الملائكة”، فجُنّ جنون أبي لهب وانقضّ عليه ليطأه بقدمه.
كان أبو رافع مملوكا للعباس بن عبد المطلب t، فهرولت إليه زوجة العباس السيدة أم الفضل، وانهالت على رأس أبي لهب بعصًا في يدها قائلة: “أتضرب عبدًا غاب عنه سيده؟” فلم يردّ أبو لهب على زوجة أخيه، واتَّجه إلى بيته ويداه ملطختان بالدماء، وما خرج منه بعدئذ، وبهذه الضربة أو بشيء آخر أصيب أبو لهب بمرضٍ عُضال يُسمَّى “عدسة”، ويُعد هذا المرض حينئذ أخطر من مرض الطاعون، فلم ينفعه ماله ولا ولده، وظل يتلوى ويشتكي سبعة أيام، ثم هلك وليس بجواره أحد، لم يجرؤ أحد على الدخول عليه لحمل جثته ودفنها، وأخيرًا استحيوا فاستأجروا مِن أعراب الصحراء مَن يحملون جثته المتعفنة إلى حفرة، ثم أهالوا عليها التراب.
ما أشدَّ قرابته من سيدنا رسول الله! ومع ذلك لم يوفَّق ليستنير بنوره، بل أصبح ألدَّ أعدائه؛ فوجب له العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وها هو ذا قد نال عقابه في الدنيا، وهو على موعد مع عقاب الآخرة.
كانت أم جميل زوجة أبي لهب ثرية نسيبة من بني أمية، شديدة العداء لرسول الله، وكأن عداوتها له تروي ظمأها وتُمتِّعها، ولسوف تلقى في الآخرة جزاء ما فعلت في الدنيا.
كان أبو لهب رجلًا عنيدًا، قال عنه أبو جهل: “إياكم أن تغضبوه، فإنه إذا مضى لأمر لا يستطيع أحدٌ ثَنْيَه عنه”، وهو محقّ في هذا. استخدم عناده لمواجهة رسول الله، وأسرف في عداوته له، فتكاتف مع زوجته وعظّما الأصنام التي في الكعبة، ولم يجتهدا ولو مرة واحدة في التعرف على شخصية رسول الله الذي تربَّى بينهما، وهو إنسانٌ فهرستٌ عنده مفتاح حقائق الكون كله، بل ما شعرا بالحاجة إلى الاستفادة من تلك الشخصية العظيمة، رحمةِ الله للعالمين صلوات ربي وسلامه عليه.
كان أبو لهب عِلاوة على ذلك يسيء إلى رسول الله، ولو طال عمره فعاش إلى يوم القيامة لما تغيرت طويّته ولفعل ما كان يفعله؛ فهو ممن ناصر أبا جهل وأمثاله في الحصار الاقتصادي على المسلمين، حصار دام نحو ثلاث سنوات، قضاها الرسول والمسلمون في صراع مع الموت، وأودت بحياة كثير من الأطفال والشيوخ، كلّ ذلك ولم تتحرك ذرة من الشفقة أو الرحمة في قلب أبي لهب؛ فهو إنسان بلا قلب أو ضمير.
في الواقع شفّ الهمُّ والحزن أمَّنا خديجة رضي الله عنها يومئذ، فلم تحتمل ما نزل بالمؤمنين من الظلم، فتوفيت حينها وكأنَّها أرادت أن تخلّد ذكرى عام الحزن، ثم توفي أبو طالب في العام نفسه، لكن وا أسفاه لم يستطع أن يدرك ركب الهداية، لكنه لحبه لرسول الله r تحمّل مثل ما نزل بالمسلمين من الأذى والظلم.
وعندما أذكر أبا طالب أشعر بألم يسري في أعماق قلبي، وتفيض عيناي في معظم الأحيان وأبكي، يا لَه من حدَثٍ مؤسف أن يرحل مَن نصر النبي ورعاه دون أن يدرك ركب الهداية! وسيدنا أبو بكر أيضًا بكى من أجل ذلك:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ t بِأَبِي قُحَافَة يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ r شَيْخًا أَعْمَى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: “أَلَا تَرَكْتَ الشَّيْخَ حَتَّى نَأْتِيَهُ؟” قَالَ: “أَرَدْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَأْجُرَهُ اللهُ”. فَلَمَّا مَدَّ أَبُو قُحَافَة يَدَهُ يُبَايِعُ رَسُولَ اللهِ r بَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: “مَا يُبْكِيكَ؟” قَالَ: “لَأَنْ تَكُونَ يَدُ عَمِّكَ مَكَانَ يَدِهِ ويُسْلِمَ ويُقِرَّ اللهُ عَيْنَكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ”[1].
ولا ينبغي أن نسيء الأدب وندّعي أننا أرحم من الرحمة الإلهية، لكنني لا أستطيع أن أتمالك قلبي، ولَكَم وددتُ أن تكون تسعة أعشار حسناتي لأبي طالب ولا يبقى لي منها إلا واحدة وينجو هو، ربما أكون قد تجاوزت حدي في هذا ولكن كما ذكرت من قبل إنني لا أتمالك قلبي؛ فهذا الرجل حمى سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه سنين عددًا، ونصره ورعاه، وتحمل الأذى والمعاناة من أجله؛ إلا أننا لا نستطيع أن نقول شيئًا أكثر من ذلك، وليس لأحد أن يقول شيئًا؛ فأبو طالب لم يعتنق الإسلام، فبات هذا مانعًا يحول دون شفاعة الرسول r له في الآخرة.
وبينما كان عمه أبو طالب يذود عنه ويدفع عنه أذى المشركين، كان عمه الآخر أبو لهب يرى أنه يستحق أن تنزل به -حاشا وكلا- صنوف الأذى والعنت كلها.
كان رسول الله يتردد على القبائل واحدة تلو الأخرى يحدثهم عن الدين الحق ويدعوهم إلى الإسلام، وكان وراءه من يتعقبه كما الظل، أحمر الشعر والوجه، يكذّبه على الدوام، ومن هو هذا الرجل سوى أبي لهب.
وبينما الأباعد من القبائل والعشائر يأتونه r من أقصى الأرض ليبايعوه ويسعون لعقد قرابات وصِلات معه كان أبو لهب يفعل العكس، يبتعد عنه، وكأن الجَفاء مهمته ووظيفته، كيف كان هذا المكابر أعمى، لقد بلغ به العمى أنه لم ير الشمس ومنبع النور الذي تفجر بين عينيه وبلغ عنان السماء.
إذًا أما كان هذا الرجل المعاند حقيقًا وجديرًا بوصف القرآن له: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ (سُورَةُ الْمَسَدِ: 111/1)، أليس ترك القرآن لبيان صفته تضييعًا لحقوق مليارات المؤمنين؟ نعم لولا ذلك لما أمكننا أن نوفق بينه وبين الأسلوب القرآني المفعم بالحكمة والمصلحة؟
ثانيًا: أنزل الله تعالى على رسوله r آيات بينات تتحدث عن كثيرين أساؤوا للإسلام والمسلمين، ومنهم الوليد بن المغيرة، قال عنه القرآن: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ (سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ: 74/18-19). والوليد هو والد سيدنا خالد بن الوليد t، وهو من ألدّ أعداء رسول الله r، كان ديدنه إلصاق التُّهَم والافتراءات برسول الله ، فوصفه بالشاعر مرّة، وبالكاهن مرة، وبالساحر مرة أخرى، ثم قرر بعد عِراك وحراك أن القرآن ما هو إلا سحر يؤثر، ووصف رسول الله بالساحر، فوبّخه القرآن على قراره هذا وأنكر عليه فعلته وقراره فقال: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ (سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ: 74/18-19).
ومضى القرآن في زجره ووعيده لكُفّار آخرين، فلو ترك ذكر أبي لهب فهل يا ترى يتناسب هذا ومنهج القرآن الكريم في الإحاطة بالقضية بكل جوانبها؟ فلو كان ذلك لخرج علينا من يقول: “إن القرآن الكريم ستر أبا لهب -وهو الذي عادى رسول الله أشد العداء- وترك الحديث عنه لقرابته من رسول الله r”. فلم يفسح القرآن الكريم المجال لذلك، وألحق أبا لهب بقائمة أمثاله من المشركين.
ثالثًا: نزلت هذه السورة في مكة، وهلك أبو لهب في العهد المدني بعد غزوة بدر، فهذا يعني أن هذا إخبار بالغيب أن أبا لهب وامرأته سيموتان كافرين، وقد وقع ما ذكره القرآن عنهما حقًّا. كما أشار النبي r لأصحابه إلى مصارع رؤساء المشركين في بدر، فتردّى كل واحد منهم في المكان الذي أشار إليه رسول الله ، فقوّى هذا الخبر الغيبيّ عزيمةَ المؤمنين وشحذ طاقتهم المعنوية. وفي هذه الأخبار إنذار وتنبيه للمؤمنين، وإعلامهم بوقوع كل ما وعد به القرآن، وهذا يعني أن وعد الله للمؤمنين بالنصر سيتحقق لا محالة، ومثل هذه التأييدات أمور لا يُستهان بها في عهد كان الجميع فيه ينابذهم العداء، بل على العكس لقد كانت ضروريةً ولازمةً بالنظر إلى النتيجة التي تمخضت عنها.
أحيانًا تكون مصيبة صغيرة سببًا في تيقظ الإنسان وأوبته إلى رشده فيفوز بأشياء في حياته المعنوية لو انكشف الحجاب عنها لتمنى الناس جميعًا من صميم قلوبهم أن تنزل بهم تلك المصيبة، وما يناله المرء بعدُ يخفّف من حدة المصيبة ويهوّن من شأنها. فلو لم يحدثنا القرآن عن عاقبة مثل هؤلاء وخسارتهم المحققة فهذا لن يؤثر في النتيجة شيئًا. وها قد حدث ما حدث، وسينال هؤلاء عاقبتهم المقدرة لهم.
نعم تحدث القرآن الكريم عن شخصين وما ينتظرهما من عاقبة وخيمة، فهذا وإن كان يبدو للوهلة الأولى كأنه أسلوب مُهين، غير أن له بلا ريب حِكمًا أخرى تحل محل هذا الإحساس الذي يرد إلينا بدايةً، منها إثارة مشاعر ملايين من الناس للتعرُّف على ذاتيتهم، وأقلها أن يعتبر الناس ويحذروا في تصرفاتهم حتى لا يصيبهم ما أصاب المذكورين. وبهذا ندرك كم هو مهمّ أن يتحدث القرآن الكريم عن أبي لهب وأمثاله، فهذا يرجع بفائدة كبيرة على المؤمنين نفسيًّا وتربويًّا.
رابعًا: علاوة على ما ذكرناه نقول أخيرًا: كما كان هذا التأثير النفسي سببًا في يقظة طائفة المؤمنين كان كذلك سببًا في سريان الريبة والشك إلى قلوب المشركين تجاه عقيدتهم. فهم لما تحوّل كفرهم المطلق إلى شك وريبة تيسر أمر سلوكهم طريق النور، فبتضييق الشكوك والشُّبَه وجد تصديقُهم المضمر في جوانحهم منافذَ يلج منها إلى العقل والقلب، وما مضت مدة حتى بدأت تظهر النتائج الإيجابية لهذا الأمر.
ثم خلع كثيرون عباءة الكفر ولبسوا حلة الإيمان، وانطلقوا في سبيل الدعوة والإرشاد، وهذا المكسب ليس بهيِّن للإيمان والإنسانية.
وإحراز مثل هذه النتائج العظيمة بالحديث عن عواقب بعض الأشخاص أسلوب معجز لا يكون إلا للقرآن، فهو مظهر من مظاهر بيانه الحكيم، بل إنه لم يتسنّ لأي كلام آخر أن يحقق مثل هذه النتائج المبهرة.
وهذا مثال لعمقٍ وتنوعٍ منقطعِ النظير للأسلوب القرآني، فمثله كمثل آلاف الدوائر تنداح بضرب الماء بحجر صغير. أجل، إن هذه التموجات ما زالت تخفق لها قلوب آلاف بل ملايين من الناس حتى اليوم؛ لقد نزل القرآن الكريم بأسلوب معجز اهتدى به الملايين من خلال إخباره بموت فلان من الناس على الكفر منتهجًا تشويق الترغيب وزجر الترهيب، وهذا أيضًا موافق تمامًا لبيان القرآن وفصاحته وبلاغته، وهذا من صميم حكمته وصلاحه لحياة العباد.
[1] المعجم الكبير للطبراني: 9/40؛ الإصابة لابن حجر: 7/199.
المصدر: فتح الله كولن، سلسلة أسئلة العصر المحيرة، الرد على شبهات العصر، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.