لا بُدَّ لإحراز الإنسان مرتبةَ الطاعة التامّة من أن يَطرُدَ الشيطانَ المتربعَ على عرش قلبه، ويهيِّئَه لله تعالى، والإنسانُ إذا لم يَطرُد الشيطانَ مِن قلبه، ولم ينظِّف ضميرَه، ولم يزيِّن عالَـمَه الداخليَّ؛ يكون ما يقرؤه من القرآن خارجًا من قلبٍ وَسِخٍ ولسانٍ دَرِن، فمن كان كذلك فلا بدَّ له من القيامِ بعملية التخلية والتزكية، وهذا ما يتحقَّق بالاستعاذة، فنحن حينما نقول: “أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” نفكِّر في هذا المعنى العُلويّ، وبذلك ننظِّفُ القلبَ ونُنَقِّي اللسان، ونقول هذه الكلمةَ المباركةَ ونحن نؤمنُ بقوةِ تأثيرِها.
إن القلب بيتُ الله، والسلطانُ يَنزِل إلى قصره في جنح الليالي، والرسولُ يوصينا إذا أوى أحدنا إلى فراشه بأن يتوضَّأ، ويقرأَ الدعاء المعروف، ويتوجَّهَ إلى الله، ويتعوَّذَ بالله من شرِّ الشيطان، ويقرأَ “المعوِّذتين”، ذلك لأنه من المحتمَل أن ينزل سلطانُ قلوبنا في تلك الليلة إلى بيته، فإذا كان القلب منغلِقًا وسخًا ولم يُنَظَّفْ لله، فذلك مستحيل ألبتة، يقول العارف بالله إبراهيم حقي (شعر):
“القلب بيت الله، فنظِّفْه مما سواه..
حتى ينزل السلطان إلى قصره في جنح الليالي…”
وفي الحديث: “يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: “مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ”[5].
لا ندرك كنهَ هذا النزول، إلا أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يشرِّف قلوبنا بنزوله إلا إذا جهَّزْناها له وأعدَدْنا العدّة لذلك.
إن الله تعالى أعدّ لنا الجنةَ، وسمَّاها دار السلام، فكأنه تعالى يقول لنا: “إنني أعددتُ ذلك المكان وجهزْتُه للطاهرين والنظيفين، وبَرَأْتُ فيه حورًا مقصوراتٍ لم تقع عليهن عيونُ الإنس ولا الجان، ولي أيضًا قصرٌ منيفٌ هو قلبُكَ أيّها المؤمن، فهل تحافظ لي على نظافة قصري ونقائِهِ مثلما أحافظ لكَ على نظافةِ الجنة ونقائها؟!
هناك أثرٌ مشتهر على الألسنة، يُروَى على أنه حديث قدسي: “مَا وَسِعَتْنِي سَمَائِي وَلَا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ”[6].
إنَّ الله تعالى جعل القلبَ مَعْكِسًا ومرآةً لتجليّاته، واتخذه لنفسه عرشًا بكيفيَّةٍ لا ندرك كُنْهَها، إنه حَفِظ دارك ومأواك (الجنة) من الشرورِ والأشرارِ، فهلّا حافظتَ على نقاوةِ وطهارة قلبكِ الذي هو بمثابة بيتٍ له عزَّ وجلّ.
فالاستعاذة ستحقِّقُ هذا النقاءَ وستحافِظُ على هذه الطهارة، ولذلك كان رسول الله إذا أوى إلى فراشه ينفثُ في كفَّيه بـسورة الإخلاص والمعوِّذتين جميعًا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده”[7]، وهكذا كان يتعوَّذ من كلِّ شيءٍ بالله، وكأنه يقول: لا يمسَّنّ الشيطانُ جسمي، ولا يدخلنَّ قلبي.
يقول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ اٰدَمَ مَجْرَى الدَّمِ”[8]، وكأنه يتَّخِذُ الكريات الحمراء والبيضاء مَركبًا، فيَنْفُذُ عبرها إلى قلب الإنسان، ويبثُّ فيها الوسوسةَ، وبذلك يُعَكِّرُ صفوَ القلبِ الذي هو محطّ التجليات الإلهيّة، فبسبب ذلك ينظر الإنسان إلى كلِّ ما حوله مما يُذَكِّر بالله، بنظرٍ عكرٍ وضبابيٍّ، وفي النهاية يتراءى كلُّ شيء في ماهيّتِهِ عَكِرًا وضبابيًّا، فالله تعالى يأمرنا بالاستعاذة ويقول: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/200) (سورة النَّحْلِ: 16/98) (سورة غَافِرٍ: 40/56) (سورة فُصِّلَتْ: 41/36) ويذكر الاسم الشريف: “الله” الذي هو الاسم الخاص بالذات الإلهية ويتضمَّن سائرَ أسمائه الحسنى ويشملها، ولا يقول: “استعِذْ بالرحمن، أو استعِذْ بالرحيم، أو بالقدوس…”.
المصدر: فتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.