Reader Mode

أخرج مسلم والترمذي عن خولة بنت حكيم أنها سمعت رسولَ الله ﷺ يقول: “مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: “أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ”، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذلِكَ”[2].

هذا الحديث يلفت أنظارَنَا إلى النقطة التالية: هناك -من الملإ الأعلى إلى أسفل سافلين- صراع دائرٌ بين الأشرار والأخيار، وبين الأرواح الخبيثة والطيبة، وبين الشياطين والملائكة، فبينما الأشرارُ يَسْعَوْن للإضرار بالإنسانية يَكِدُّ الأخيارُ لخيرها، وفي حين أن الأشرار يُضِلّون الإنسانَ عن طريق الهدى؛ يدعوه الأخيار إلى الطريق المستقيم، فأينما ذهب المؤمن وحيثما حَلَّ فعليه أن يَلجأ إلى الله ويستجيرَ به من شرّ الجنّ والشيطان، ومن شرِّ الحشرات والهوام، لأن هذا يعني الابتهالَ إلى الله تعالى ليتكلَّل هذا الكفاح في نهاية المطاف بالتوفيق والنجاح.

يُروى أن أبا أمامة الباهلي كان جالسًا في المسجد مهمومًا حزينًا، مكدَّرًا كسيفَ البال منحني الرقبة، فسأله الرسول: “يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟” قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ U هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟” قَال: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: “قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ”، قَالَ أبو أمامة t: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ U هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي.[3]

إن كلَّ واحدٍ من هذه الأمور لَمِن الجواهر الفريدة التي تُعبّر عن حقائق عظيمة في غاية الأهمّية، فكأن الداعي بهذا الدعاء يريد أن يقول: اللهم إنَّ هناك كثيرًا من الناس لم يُضَحُّوا بحياتهم في مواطنَ يجب عليهم التضحية بها فيها، لكنهم اضطرُّوا في نهاية الأمر أن يُضَحُّوا بها وهم صاغرون، فأعوذُ بك اللهمَّ أن أضحِّي بحياتي هكذا بِذِلَّة… وكم من أناس كان بإمكانهم أن يُنفِقُوا أموالهم وهم أعزّة فيحافظوا على عزّتهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك فسُلِبَتْ منهم أموالُهم عنوةً، فأعوذ بك ربي من هذا أيضًا، وأعوذ بك من أن يغلبني أعدائي… فهذا معنى الدعاء الذي وصَّى به الرسول سيِّدَنا أبا أمامةَ الباهلي.

وفي القرآن الكريم مئات من الآيات تدل -دلالة واضحة أو خفية، على سبيل الصراحة أو الإشارة أو الرمز- على التعوذ بالله من شرِّ الشيطان والنفسِ ونوائب الدهر وكثيرٍ من الحوادث التي لا نعلم حِكمتها، ولن نسردَ كلَّ تلك الآيات حتى لا يؤدّي ذلك إلى التطويل بل سنجتزِئُ بما ألمَحْنا إليه، ونحاولُ بيانَ ما في الاستعاذة من الدقائق والنُّكَتِ.

المصدر: قتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.