سؤال: هلكت قديمًا بعضُ الأقوام جماعةً مثل قوم لوط وقوم نوح عليهما السلام، بسبب ما ارتكبوه من ذنوب معينة، فلم لا تهلك اليوم الأممُ جماعات رغم ما يُرتكب فيها من كل أنواع الذنوب؟
الجواب: إن سنة الله عز وجلّ جرت بتعذيبه العصاةَ والطغاةَ في الدنيا لتأديبهم علاوة على ما هو مقدَّرٌ من عذاب الآخرة. والحقُّ أن نوعية عقاب قوم لوط مرعبة وفيها عبرة، فَــ”سَدوم” و”عامورا” عند بحيرة لوط، أُرسل إليهما سيدنا لوط عليه السلام، ثم أخذتهم الصيحة، فهلكوا في صبيحة أحد الأيام، وفصّل القرآن الكريم خبر قوم لوط وخبائثهم وسوء عاقبتهم، وكذا خبر قوم نوح عليه السلام، فقد أرسل عليهم الطوفان؛ إذ أمطرت السماء، وتفجّرت الأرض عيونًا، فغمرت المياه جميع الأرض، وهلك العصاة ما عدا ثلة قليلة ركبت مع نوح عليه السلام السفينة، فنجَتْ بفضل الله ومنَّتِه؛ وفي روايات ضعيفة أنهم نحو 60-70 شخصًا؛ توالد وتكاثر منهم البشر من جديد؛ ولندَع علماء الآثار يبحثون في الأمارات: كيف وأين وقعت هذه الحادثة؟ ولنبحث نحن الأمر في هذه الأمة المباركة:
أجل، أمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (أعني أمة الدعوة بمن فيهم المسلمون وغيرهم) ترتكب اليوم كثيرًا من الذنوب، خصوصًا أن بعض بلدان العالم بلغ فيها الفسق والفجور ما لم يبلغه قوم سيدنا لوط أو سيدنا صالح أو سيدنا هود عليهم السلام.
وما يميزنا هو أننا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الخصوصية غدت لهذه الأمة كمانعة الصواعق؛ وقد يكون من المناسب أن نشير هنا إلى آية قرآنية وبشرى نبوية أيدتا هذه الخصوصية:
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/33).
وننوه هنا بمنزلة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم التي لا تدانيها منزلة؛ فهذا المسيح عليه السلام يناجي ربه في أمر من طغى وضلّ مِن قومه: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/118).
أمَّا نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول القرآن عنه وعن أمته: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/33)؛ أيْ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حجابان مهمان أو مانعان للصواعق؛ فالعذاب لا يعدوهما، والبلاء ينعدم تأثيرُه أمامهما:
أولهما: وجود النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بشخصيته الحسيّة أو المعنوية، أدام الله علينا هذه النعمة إلى يوم القيامة.
ثانيهما: وجود زمرة من القائمين بالدين والمستغفرين في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يحمون الحقّ والحقيقة؛ فمِن رحمة الله نرجو أن لا يعذبنا جماعةً.
أما بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ففي الصحاح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا ربه كثيرًا أن لا يُهلك أمته، وأهمُّ ما دعا به كان في حجة الوداع في عرفة والمزدلفة، ففي هذين المكانين المباركين دعا الله بما نُفِث في روعه، حتى إنه توسل إلى ربه وتضرع أن يتجاوز عن حقوق العباد[1]، هل استُجيب له أم لا، الله أعلم، ولا أملك أن أقول شيئًا في هذه المسألة.
أجل، لطالما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن لا يهلك أمته، ويروي ذلك للصحابة الكرام قائلًا: “سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَلَمْ يُعْطِنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ أُمَّتِي بِسَنَةِ جُوعٍ فَيَهْلِكُوا فَأَعْطَانِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِي”[2].
أجل، لم يُستجب له صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، لأنّ حلّها رهنٌ بإرادة أمته؛ نعم، كلّما ارتكبت الأمم الأخرى الجرائمَ والآثام نزلت بها الكوارث الأرضية والسماويّة، أمّا هذه الأمة فكلما كان منها ذلك جعل الله بأسهم بينهم، وتمزقت وحدتهم وكلمتهم، وأكلتهم النزاعات؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يرفع هذا عن أمته، فلم يُستجب له لحكمة يعلمها هو سبحانه.
وإليكم هذه المسألة في ضوء ما تشير إليه الآية الكريمة، وما ذكره أهل الكشف والتحقيق:
لو تحققت الخدمة الصادقة للدين وللقرآن المعجز البيان في مكان ما ولو يسيرًا، ولم يُخشَ على أهل الحق من الهزيمة، فلسوف يرفع الله بهؤلاء البلايا والمصائبَ كما تُدفع الصواعق بالموانع. أجل، إن وُجِد عشرة رجال مخلصين يخدمون الدين على هذه الشاكلة فسيرفع الله بهم البلايا، أما إذا كان أهل الحق مغلوبين فسيهزّهم الله تعالى.
والله أعلم بالصواب.
[2] المسند لأحمد بن حنبل، 36/422.