سؤال: ما معنى هذه الآية ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/256)؟
الجواب: جوهر الدين وروحه يردّان الإكراه؛ فالإكراه يناقض روح الدين، والإرادة والاختيار في الإسلام أساسٌ تقوم عليه معاملاته؛ فلا اعتبار أو قبول لأي عمل أو فعلٍ جرى بالإكراه سواء كان ذلك في العقائد أم العبادات أم المعاملات؛ فمثل هذا يخالف قاعدة “إنما الأعمال بالنيات”([1]) ويناقض مقتضاها.
الإسلام وإن لم يُكره أحدًا على الدخول في الإسلام إلا أنه لم يطلق العنان لمن أسلم مختارًا ولم يكن ليترك له الحبل على غاربه.
وكما لا يجوّز الإسلام الإكراه في معاملاته، لا يجوّز أيضًا إكراه الآخرين على الدخول في الإسلام؛ فلكل فرد مطلق الحرية، فالذميون مثلًا إذا دفعوا الجزية والخراج ضمن لهم الإسلام سلامة حياتهم؛ فأفق المسامحة في الإسلام واسعٌ ورحبٌ إلى هذا الحدّ.
والدين ليس نظامًا يمكن فرضه بالقوة والإكراه؛ فأهمُّ شيء فيه هو الإيمان، والإيمان أمر قلبي وجداني صرف، وليس هناك قوة لها تأثير على القلب والوجدان؛ فلا يمكن أن يُقبِل الإنسان على الإيمان إلا بميلٍ قلبيّ ودافعٍ وجدانيّ، إذًا لا وجود للإكراه في الدين بهذا المعنى.
لم يسعَ الدين منذ عهد أبينا آدم عليه السلام حتى اليوم لإكراه أحدٍ على الدخول فيه؛ فالإكراه هو ديدن جبهة الكفر التي حاولت إخراج الناس من دينهم بالقوة والإكراه، ولكن لم يقم أي مسلم بإكراه أيِّ كافر على الدخول في الإسلام؛ نعم، قد يُقال: في القرآن الكريم آيات كثيرة تحضّ على الجهاد، أليس هذا نوعًا من الإكراه؟
الجهاد ما شُرع إلا لمجابهة الإكراه الواقع من الجبهة المعادية.
كلا، ليس في هذا أي إكراه؛ فالجهاد ما شُرع إلا لمجابهة الإكراه الواقع من الجبهة المعادية، إذًا لا أحد يدخل في الإسلام إلا بكامل حريَّتِهِ وإرادته؛ والجهاد الذي فرضَهُ الإسلامُ إنَّما شُرِع لحماية هذه الحرية وتيسير سبلها، وما تحققت هذه الحرية إلا بالجهاد.
ولتقويم هذه المسألة مِنْ منظور آخر نقول: حكمُ بعضِ الآيات مقصورٌ على مراحل معينة، وقد تأتي هذه المراحل بين عهود النهوض والكمال وبين عهود الانحطاط والتخلف، ولكن يبقى الحكم مقصورًا على تلك المرحلة؛ مثال ذلك سورة “الكافرون”: ﴿قُلْ يَا اَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ اَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ فحكم هذه الآيات مقصور على مرحلة وفترة معينة.
الإكراه هو ديدن جبهة الكفر التي حاولت إخراج الناس من دينهم بالقوة والإكراه.
وهذه المرحلة هي مرحلة بيان المسائل وابتكار الحلول، فسيكون تقديم هذه المسائل بالنصح والإرشاد دون إكراه المخاطبين على قبولها؛ وهذه المرحلة تقتضي عدم الاشتغال بضلالات الآخرين وانحرافاتهم وتجنب إثارتهم، مع الثبات على الاستقامة وتطبيق الدين في الحياة الشخصيّة، فأحكام أمثال تلك المرحلة لا تعمّ بمعناها الفتراتِ جميعَها، لكن من الخطأ القول بأن هذه الأحكام لا سبيل إلى تطبيقها لاحقًا في أي عهد من عهود الإسلام، بل وُجدت مثل هذه المرحلة في العهود السابقة كلها، ونحن اليوم نمرّ بها أيضًا.
وفي الآية حكم آخر عامّ في كلّ زمان وعهد، سارٍ على الدوام، وهو حكم الأقليات الدينية في الديار الإسلامية، فليس لأحد إكراههم على الدخول في الإسلام، بل يجب أن يكونوا أحرارًا في عقائدهم الدينية.
الدين ليس نظامًا يمكن فرضه بالقوة والإكراه؛ فأهمُّ شيء فيه هو الإيمان.
عندما نتأمل التاريخ يبدو جليًّا أنه عاش معنا وبيننا على الدوام زمرة من المسيحيين واليهود؛ واعترف الغرب أن اليهود والنصارى لم يكونوا في أمن وسلام وإنْ كانوا في بلادهم مثلَما عاشوا بيننا؛ رضوا بدفع الجزية، ودخلوا في ذمتنا، فوجبت حمايتهم، لكن لم يقم أحد بإكراههم على الدخول في الإسلام، وكانت لهم مدارسهم الخاصة حتى وقتٍ قريب، بل إنهم يمارسون شعائرهم الخاصَّة ويحافظون على طقوسهم وأعيادهم الدينية، ومن يدخل منّا إلى أحيائهم في بلد إسلامي وإن كان في أزهر عهودنا يحسب نفسه في أوروبا؛ أي بلغت حرياتهم من السعة كلّ هذا المبلغ، ولا قيد سوى منعهم من المكر بنا أو استجرار شبابنا ونسائنا إلى الانحراف؛ وكان هذا شرطًا وضرورة للمحافظة على سلامة مجتمعنا.
وإن وجود مثل هذه الأحكام للحيلولة دون الانحراف في الدين لا يعني وجود الإكراه فيه، فهي خاصة بمن دخلوا في الإسلام باختيارهم وإرادتهم، واعتنقوه ورضوا بهذه الأحكام؛ لذا إن ارتدّ أحدهم عن الإسلام مثلًا يُستتاب فترة للعودة إلى الإسلام، وإلا قُتل؛ وهذا عقاب على نقض عهد سبق عقده، وتقتضيه المحافظة على نظام المجتمع؛ فالدولة تدار بنظام معين، ولو اتخذت أهواء كل فرد أساسًا لخلت إدارة الدولة من النظام؛ لذا أهدر الإسلام حرمة المرتد وحياته حفاظًا على حقوق المسلمين جميعًا.
لا اعتبار أو قبول لأي عمل أو فعلٍ جرى بالإكراه سواء كان ذلك في العقائد أم العبادات أم المعاملات.
فمن يدخل في الإسلام يُكلَّف بفعل أمورٍ وتركِ أخرى، ولا علاقة لهذا بالإكراه؛ فمثلًا: لو ضحك المكلف في الصلاة قهقهة لانتقض وضوؤه وفسدت صلاته عقوبةً له عند الأحناف، ولو لبس المُحرِمُ ملابس مخيطة أو قتل حشرة كانت على بدنه لزمته كفارة عقوبةً له؛ لكن لو ضحك خارج الصلاة، أو قتل حيوانًا في غير الإحرام فلا بأس ولا جزاء، وهكذا ما نحن فيه؛ فالإسلام وإن لم يُكره أحدًا على الدخول في الإسلام إلا أنه لم يطلق العنان لمن أسلم مختارًا ولم يكن ليترك له الحبل على غاربه، ففي الإسلام أوامر ونواهٍ، يجب على أتباعه الانقيادُ لها؛ فهو يأمرهم بالصلاة والصيام والزكاة والحج، وينهاهم عن الخمر والقمار والزنا والسرقة، ويعاقب مرتكب هذه المنهيات بعقوبات متنوعة تبعًا لنوع المحظور، وهذا لا يدخل في الإكراه ولا صلة له به.
الإكراه يناقض روح الدين، والإرادة والاختيار في الإسلام أساسٌ تقوم عليه معاملاته.
ولو تدبّرنا قليلًا لعلمنا أن مثل هذه التدابير الرادعة تستهدف مصلحة الناس؛ فبهذه التدابير يحافظ الفرد والمجتمع على سعادته في دنياه وأخراه؛ فإن شئت فقل: هناك إكراه في الدين بهذا المعنى؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا بقوله: “عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلاَسِلِ”[2].
[1] صحيح البخاري، بدء الوحي، 1؛ صحيح مسلم، الإمارة، 155.
[2] صحيح البخاري، الجهاد، 144.
المصدر: فتح الله كولن، نحو عقيدة صحيحة، سلسلة الجرة المشروخة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.