Reader Mode

إننا نجد في كل دين جماعات تنحرف عن الخط الوسطي العام وتتبنى تفاسير راديكالية للدين. ولعله من الصعب القول إن أتباع مذهب معين، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، أكثر عرضة لمثل هذه الانحرافات. أعتقد أن المشكلة نابعة إلى حد كبير من تقصيرنا في فهم جوهر “الدين” وهويته الحقيقية.

الاستعمار والتفسيرات المتطرفة

 إن التعامل مع الإسلام على أنه أيديولوجية سياسية لهو أكبر خيانة تمارس في حقه، لأن ذلك اختزال له في مجموعة من المبادئ البسيطة وتضييق لمساحته الرحبة. وأعتقد أن هذا أثر من آثار الاستعمار الذي امتدّ على مدى عقود في المنطقة. وحقا، إن اختزال الدين في أيديولوجية سياسية واللجوء إلى العنف تجده أكثر انتشارا في البلدان التي عانت من الاستعمار في ماضيها. والمثير للرعب أن عنف الجماعات المتطرّفة يحظى بتغطية إعلامية واسعة تحجب أصوات الغالبية العظمى من المسلمين التي ترفض ممارسة العنف مطلقا. وأحيانا تتعمد بعض الأطراف إبراز هذه الجماعات المتطرفة ودفعها إلى الواجهة بنوايا وأغراض سيئة ترمي إلى تشويه صورة الإسلام الناصعة.

الإسلام وصالح لكل زمان ومكان ومنفتح على اجتهادات شتى، بشرط أن لا تتعارض تلك الاجتهادات مع جوهره وأصوله الثابتة. وهذه الميزة تحفظ الإسلام من محاولات ربطه بجغرافية أو عقلية معيّنة. وفي هذا الإطار للأسف، سُوّقت -عبر فترات مختلفة من التاريخ- نماذج تفسيرية مختلفة للإسلام -أبوية وقومية وسلطوية-، ورُوّجت على أنها هي الإسلام الصحيح.

إن التعامل مع الإسلام على أنه أيديولوجية سياسية لهو أكبر خيانة تمارس في حقه، لأن ذلك اختزال له في مجموعة من المبادئ البسيطة وتضييق لمساحته الرحبة.

الاستيلاء على الدولة

وإذا كان التفسير الراديكالي للإسلام يعني العنف، فإن ظاهرة وجود مسلمين من السنة والشيعة يستخدمون العنف والإكراه وسيلة لتبليغ الإسلام ليست بجديدة. لقد وجد من نحا هذا النحو بين المسلمين طوال التاريخ، ولئن برز بعض هؤلاء في عالم السنة خلال الفترة الأخيرة فإن هذا لا يغيّر هذه الحقيقة التاريخية. أضف إلى ذلك أن الإعلام يميل إلى التركيز على مثل هؤلاء الجماعات مقابل تهميش 99.5 في المائة من المسلمين الذين يرفضون هذه الجماعات المتطرّفة، الأمر الذي يشوه الصورة العامة للإسلام.

إن الجماعات التي تتعامل مع الإسلام كأيديولوجية وتتبنّى تفاسير راديكالية، تتحمّس لفكرة الاستيلاء على الدولة وإعادة تشكيل المجتمع من أعلى إلى أسفل بأسلوب استبدادي. وإن دولة إيران كانت -ولا تزال- رسميا وبفعالية توظّف مثل هذا النموذج في الحكم منذ 1979م. العجيب أن أنصار هذا النهج الشيعي في أصله، هم من عالم “السنة”، ولكنهم يجدون في الثورة الإيرانية الشيعية تجسيدا لمثلهم العليا. إن مثل هذه المظاهر المتطرفة قد تتطوّر وتشغل حيزا كبيرا في كل مكان، ولا سيما إبان الاستعمار والاحتلال.

إن رؤية “الخدمة” لا تهدف إلى تغيير المجتمع من أعلى إلى أسفل، بل تسعى إلى بناء الأفراد.

طاقة الإسلام في التغيير

أعتقد أنه إذا أتيح للتيارات الإصلاحية الكبرى إمكانية العمل بطريقة فطرية انسيابية -في جو من الحرّية- في القاعدة الشعبية دون أن تقع في شباك التسييس، فسوف تشكل محيطًا واسعًا تذوب فيه تلك المطالب الراديكالية مع مرور الوقت.

إن الإسلام يحتوي على طاقة في التغيير أقوى من أي طاقة أخرى سلطوية أو سياسية. إن أثر الإسلام في تغيير السلوك الفردي أو الاجتماعي أكثر عمقا واتساعا وبقاء من أثر الممارسات السياسية والسلطوية. وعندما لا يتم الاستفادة من طاقة الإسلام في إخراجه ديناميات فاعلة في التغيير الاجتماعي تنحرف جماعات نحو تبني مواقف سياسية متطرفة.

إن مشروع “الخدمة” لا يهدف إلى تغيير المجتمع من أعلى إلى أسفل، بل يسعى إلى بناء الأفراد. إن التغيير يجب أن يبدأ من الفرد، فإذا نجحنا في إنشاء أفراد ومواطنين صالحين يتحلون بقيم المحبة والإيثار والفضيلة فإنهم سينقلون المجتمع إلى مستقبل أكثر سلما واستقرارا وازدهارا.

ومع هذا، فإننا لا نعلّق قلوبنا بالنتيجة ولا بقطف الثمرة بالدرجة الأولى. فـ”الخدمة” تعمل على إنشاء حدائق وبساتين تنتج أفضل أنواع الثمار، ويأتي الناس بعد ذلك ليجنوا هذه الثمار ويعدّون منها الوجبة التي يحبّونها أو الحلوى التي يشتهونها أو المائدة التي يفضّلونها بمحض اختيارهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: كلمات شاهدة، حوارات مع فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts