سؤال: للنفس و الضمير دور مهمّ في ترقّي الإنسان وتدنّيه؛ فكيف نفهم ماهيّتهما؟
الجواب: إن للإنسان جانبين هما: الملك والملكوت؛ ويمكن تسميتهما بأسماء أخرى، وقد أطلق بعضهم عليهما الملائكي والشيطاني أو الجسدي والروحاني أو المادي والمعنوي أو النفسي والوجداني، وسعوا لشرح الحقيقة نفسها بعبارات مختلفة.
والأفضل تناول الجانب المعنوي والماديّ من الإنسان في صورة آليّتين مختلفتين، وتقييمهما في ضوء ذلك؛ ولنُطلق على المعنويّ اسم “آليّة الوجدان”، وعلى الآخر “آليةَ النفس”.
إن الوجدان صوت إلهي سماوي يصدع ويجهر وحده دائمًا بالحقّ والحقيقة.
فبينما يُشكِّلُ آليةَ الوجدانِ القلبُ والروح والسر والخفي والأخفى واللطائف الربانية المتعلقة بعالم الأمر والإرادة والإدراك والشعور والحسّ والمشاعر؛ تُشكّلُ آليةَ النفس الغرائزُ والنزوات والأهواء والحقد والبغض والغضب والعناد… هذه المشاعر التي وُهِبت للإنسان لغاياتٍ وحِكمٍ معيّنة… وهاتان الآليتان تعملان غالبًا على النقيض، غير أنَّ آليّة النفس تغدو إيجابيّةً إنْ تغلّبت عليها آليّةُ الوجدان، ثم تتحوّل إلى آليّةٍ تعمل على رفعة الإنسان ورقيّه.
نعم، يمكن أن تصير آليةُ النفس نافعةً للإنسان حينما يجتاز مرتبة النفس الأمّارة -وفقًا لتصنيف الصوفية- إلى مرتبة النفس اللَّوَّامة فالـمُلهَمة فالمطمئنّة فالراضية فالمرضية فالصافية، ولأجل هذا فإنه من النقص والخلل تناول الإنسانِ من جانبه المعنويّ فحسب، واعتباره مجرّدَ آليّة للوجدان فحسب؛ إن الولاية الحقيقية هي ولاية الصحابة؛ وقد صبغ الصحابة آلية النفس بـ”صبغة الله”، ووضعوا خاتمًا من أختام الولاية حتى على المشاعر السلبيّة لدى الإنسان.
في الوجدان نقطة استناد ونقطة استمداد: بهما يُدرِكُ الإنسان عجزه وفقره، ويعتمد بهذا الإدراك على الله.
ولنتناول الشهوة مثلًا: إن هذا الشعور يغدو منبعًا محضًا للشرّ إن تمّ تفعيله من الناحية المتعلقة بنفسه فقط؛ لكن هذا الشعور أُضفيَت عليه في نهج الصحابة كيفيةٌ تجعله بعدًا من أبعاد الولاية؛ أي إن الشهوة حينما توضَع في الحلال يُثاب الإنسان حتى على علاقته مع أهله؛ وقد عجب الصحابة حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ذلك، فتساءلوا: “يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟”، فأجابهم الرسول إجابةً منطقيّةً، وفطريّةً بقدر منطقيّتها قائلًا: “أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ”[1]؛ إذًا تركُ الحرام يُكسب الإنسان ثوابَ القيام بأمرٍ واجب؛ وهذا يعني أن الإنسان في استطاعته أن يفوز بالجنة بهذا الشعور الخاصّ بآلية النفس.
ولنا أن نعد جميع المشاعر الخاصة بآلية النفس وسيلةً للشعور بأحوال الجنة؛ أي كما يستطيع الإنسان بالأحاسيس والمشاعر الخاصة بآلية الوجدان أن يشاهد بعض الأبعاد الخاصة بالجنة ويعايشها، فبإمكانه كذلك أن يُحسّ ويدرك بعض الأحوال الخاصة بالجنة بواسطة بعض الأحاسيس الخاصة بآلية النفس المزكّاة، ويبدو أن هذا أحدُ أسرار وحكم إبهاج الجنة للروح والجسد معًا؛ وفي حديث القرآن عن خلق آدم عليه السلام من تراب وطين وصلصال وغير ذلك إشارة إلى بعض المواد التي تكشف ماهية الإنسان؛ وإلا فمن القصور حصر تفسير هذه المواد على أنها التراب والطين والصلصال التي نعرفها.
يمكن للإنسان بلوغ مستوى الملائكة في أيّ وقت شاء ولو بخصائصه الترابيّة.
وهاك شعور الغضب لدى الإنسان، إنه شعور يُفسد الإنسان إن بقي على حاله، وربما يحوّله إلى فرعون جانٍ ملطّخ الفكر والمشاعر واليدين والعينين بالدماء، غير أن الإنسان إن استخدمه في غايةٍ نبيلةٍ، أي إن دخل مثلًا في نزاع من أجل الدفاع عن دينه وعِرضه وشرفه ووطنه بالشعور نفسه وقَتلَ مَن أمامَه فهو غازٍ، فإن قُتِل فهو شهيد؛ فغضبٌ على هذا النحو مقبول عند الله مثل “الحلم” أو أكثر… وإذا كانت الجوانب الترابية ترفعُ الإنسان إلى هذه الدرجات إن عولجت جيّدًا، فلكم أن تتخيّلوا ماذا يُمكن أن يحدث إن أحسنَّا استخدام آليّة الوجدان.
أجل، يمكن للإنسان بلوغ مستوى الملائكة في أيّ وقت شاء ولو بخصائصه الترابيّة، بل إنه قد يفوق الملائكةَ عندما تبدأ آلية الوجدان عملها؛ ذلك أنه لا شيءَ يدفع الملائكة إلى الشر، فإرادتهم تتجلى في اختيارهم عملًا من الأعمال المعروضة المرضيّة عند الله، أمّا إرادة الإنسان فهي مكلفة بالاختيار بين الحسن والرّديء، ونظرًا لأن “الغُنْم بالغُرم” فإن اجتيازَ الإنسان تلك المعضلات التي تواجهه يُعدّ وسيلةً وطريقًا ليكون أفضل من الملائكة.
إن الشهوة حينما توضَع في الحلال يُثاب الإنسان حتى على علاقته مع أهله.
بالوجدان يجد الإنسان ذاتَه وربّه؛ ولأجل هذا فإن مئات الناس بدءًا من عظماء الإسلام كالإمام الرباني والإمام الغزالي ومولانا جلال الدين الرومي وبديع الزمان سعيد النورسي، وصولًا إلى كثير من المفكّرين الغربيّين تناولوا الوجدان إما بالكشف وإما بالحدس، وتوقّفوا كثيرًا عند تلك الخاصيّة؛ وإنني لأستخدم بصفة خاصة عبارة “الكشف والحدس” هنا؛ فالأولياء يعلمون خصائص الوجدان كشفًا، أما الفلاسفة فيعرفونها حدسًا، وقد اتّفق الفريقان على أن الوجدان لا يكذب.
ويُدرج الأستاذ بديعُ الزمان الوجدانَ في مؤلفاته الأولى بين البراهين الرئيسة والأساسية التي تدلّلُ على وجود الحق تعالى[2]؛ غير أنه لا يرى الوجدان دليلًا موضوعيًّا واضحًا بالقدرِ الذي يفهمه الجميع؛ لذا تجده في كتابه “الكلمات” اقتصر من هذه البراهين على ثلاثة: الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن، وكتاب الكون[3].
أجل، لا يستطيع كل إنسان أن يفهم لغة الوجدان الخفية؛ ولأجل هذا لا يُعَدّ دليلًا موضوعيًّا، غير أنه أعظمُ دليلٍ وأقوى برهانٍ عند من يفهم لغتَه؛ فلا قِبَلَ لأية معلومات أو مكتسبات على الإطلاق أن تُشعِر الإنسان بما يُشعِره به وجدانه.
إن من النقص والخلل تناول الإنسانِ من جانبه المعنويّ فحسب، واعتباره مجرّدَ آليّة للوجدان فحسب.
ففي الوجدان نقطة استناد ونقطة استمداد: بهما يُدرِكُ الإنسان عجزه وفقره، ويعتمد بهذا الإدراك على الله، فيطلب ما يطلب منه تعالى؛ وما دام لدى الإنسان حسّ “طلب المدد”؛ فهذا يعني أنّ هناك من سيَمُدُّه، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان منحُ الإنسان هذا الحسَّ نوعًا من العبث، ولا عبث في الكون ألبتة، فلا شك أن هناك مقابلًا لكلّ شعور لدينا، إذًا إنّ ثمّة مقابلًا لكل من نقطتي الاستناد والاستمداد الكامنتين في الوجدان، بيد أن من لم يصغ إلى وجدانه ولو مرّةً واحدةً في حياته، يتعذّر أن يشعر أو يحسّ بهذا؛ وإن الشعور قسم تابع لآلية الوجدان، غير أنه لا يُعنَى بقيمته الشخصية قيمةً قائمةً برأسها؛ وحين ينضمّ إلى الإرادة والحسِّ والقلبِ يصبحُ وكأنه وجدانٌ مستقلٌ بذاته.
إن الولاية الحقيقية هي ولاية الصحابة؛ وقد صبغ الصحابة آلية النفس بـ”صبغة الله”.
إن الوجدان صوت إلهي سماوي يصدع ويجهر وحده دائمًا بالحقّ والحقيقة؛ مثله في ذلك مثلُ كل شواهد وجود الحق التي لا تصمت في أي وقت أبدًا؛ بيد أن هذا منوط بالوجدان الذي يدخل في إطار تعريفنا نحن للوجدان، وإلا فإنه من المستحيل ألبتة انتظار النتائج نفسها من وجدان خضع لآلية النفس، وانسحق تحت وطأتها.
أجل، تصوّروا إنسانًا تحوّل برمَّتِه إلى عاشقٍ للشهوة والحقد والغضب والمنصب والمقام؛ إنّه بذلك يخضع في كلّ شؤونه لتأثير تلك المشاعر السلبية التي أحاطت بروحه، فالوجدان لدى مثله مكتوفُ الأيدي عاجزٌ عن التأثير، وأمثال هؤلاء ليست لديهم أية معلومات عن آلية الوجدان؛ لذا فإن إدراكهم معنى الوجدان وغايتَه الأسمى من كل الغايات أمرٌ غير ممكن.
إن آليّة النفس تغدو إيجابيّةً إنْ تغلّبت عليها آليّةُ الوجدان، ثم تتحوّل إلى آليّةٍ تعمل على رفعة الإنسان ورقيّه.
وثمة أمرٌ آخرٌ مهمٌ نشير إليه هنا:
يقول “كانط” في كتابه المسمى “نقد العقل المحض”: إن الله يُعرف بالعقل العملي، لا بالعقل النظري، فإن التصرفاتِ الحسنةَ، والأعمالَ الحسنةَ سرعان ما تتحوّل إلى طبيعة في الإنسان، وتبلغ به نقطة لا تُبلغ بالعلم المجرّد. أجل، إن المعرفة والمعلومات المجردة لا ترفع الإنسان إلى هذا المستوى ألبتة، فمن حُرم التطبيق والعمل يعجز قطعًا عن الإحساس بما يجب عليه الإحساس به في ضميره مهما قرأ من كتبٍ وأسفارٍ.
أما ما يجب على الإنسان عملُه فهو الأعمال التي استحسنها الدين ووصفها بـ”الصالحات”؛ وإعمالُ آلية الوجدان واستثمارها ذو قرابة قريبة جدًّا من تطبيق مفهوم “الصالحات” في الحياة.
[1]صحيح مسلم، الزكاة، 53؛ مسند الإمام أحمد، 35/376، 382.
[2] انظر: بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: المثنوي العربي النوري، نقطة من نور معرفة الله، ص 423-427.
[3] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: الكلمات، الكلمة التاسعة عشرة، الرشحة الأولى، ص 253-254.
المصدر: فتح الله كولن، الموشور، الفصل الثاني البعد الفكري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.