تبتدِئ السورةُ التي سمّيت باسم “مريم” بالحديث عن البلايا والمصائب وبعضِ الابتلاءات التي ابتُليتْ بها سيدتنا مريم.. “فمن أمهات المواضيع التي تتناولها هذه السورة هي قصة حمل سيدتنا مريم بسيدنا عيسى بكيفيةٍ يمكن أن نعتبرها من قَبيل الأمور الخارقة للأسباب، في حين أنها كانت قد تربت في الإقليم الروحاني للمعبد، وكانت امرأةً حريصة أشد الحرص على صون عرضها وعفتها.
ومن أسباب ذكر هذه القصة في القرآن وحِكَمِها -والله أعلم- تسلية الرسول الذي كان يتعرض لشتى ألوان المصائب والبلايا، فكأن الله يقول له: أيها الحبيب! إنك لست وحدك في هذه المصائب التي تعاني منها، فلقد ابتُليَ مَن قبلك بالكثير من هذه المحن والبلايا وأضرابِها فصبروا، ومنهم المصونة مريم العذراء.. وهناك الكثير من الحِكم والأسباب التي يمكن سردها في ذكر هذه القصة.
قررتْ مريمُ أن تتنحى إلى مكان بعيد عن قومها.. وما كان يجذبها إلى العزلة إلا عفّتها وطهارتها.
وغاية القول: إنه لا يمكن فهم حقيقة سيدنا عيسى وسيدتنا مريم إلا من خلال الآيات التي تتعرض لهما.. كما أنه من خلالها يُمْكنُ دحض قضيةِ: “الأقانيم الثلاثة” التي لا تزال موجودة في النصرانية إلى أيامنا هذه.. فالنصارى مدينون من هذه الناحية للقرآن الكريم إلى حد كبير؛ حيث إن انتقال النجاشي مَلِك الحبشة من النصرانية إلى الإسلام إنما تَحقَّق في الجوِّ النوراني لهذه الآيات.
وعلى كل حال، نتجاوز الحديث عن الأسباب والحِكَم حول تناول القرآن الكريم لقصة سيدتنا مريم، لننتقل إلى تحليل الشخصية في إطار الآيات المتعلقة بتلك المرأة العظيمة:
إن سيدتنا مريم حسب الآيات القرآنية والمعلومات التاريخية كانت امرأة مباركة نذرها أبواها لخدمة المعبَدِ قبل أن تُولَد، والقرآن يَذكر أن قومها خاطبوها بقولهم:
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/28). وليس المقصود بـ”هارون” هنا هو ذلك النبي أخو موسى، فبينهما قرون طويلة، إلا أن هارون هذا -كما هو معلوم لدى الكثيرين- كان قيِّمًا على المعبد وخادمًا فيه.. فمن هذه الناحية كان قومُها يشبِّهونها بهارون في تبتُّلها فيقولون لها: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾، وتَذكُر بعض الروايات أنها كان لها -بالفعل- أخٌ يسمّى هارون.
ومن حيث إن سيدتنا مريم كانت موهوبة للمعبد فقد قضت جُلَّ أيام طفولتها وشبابها في المعبد، فهذه المرأة العظيمة التي وَجدت نفسها -بإرادتها أو خارجَ إرادتها- في هذا المكان الذي تتنسَّم فيه نسماتٍ لاهوتية صباحَ مساءَ، قد اكتَسبت بمرور الوقت عمقًا روحانيًّا وصفاءً نفسيًّا؛ فكانت تهبّ عليها صباح مساء نسماتٌ من العالم الغيبي، فقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/37) يعبِّر عن هذه الأمور الخارقة.. وبعضُ العلماء يرى أن هذا الرزق طعامُ الصيف في موسم الشتاء، وطعام الشتاء في موسم الصيف .
فهذه المرأة التي أصبحت رمزًا للعفة وصونِ العرض، وقضت عمرها في هذا الجو المعنوي، وتنعمت بالنعم المادية والمعنوية التي تأتي من العالم الغيبي؛ إذا بِها تصبح حاملًا بطريقةٍ خارقة للأسباب.
ويروي القرآنُ الكريم ذلك الحديثَ الذي دار بين سيدتنا مريم وبين الملَك الذي جاء يبلِّغها الأمرَ الإلهي بالحمل.. ويُروى أن هذا الملك هو سيدنا جبريل ؛ وقد نزل في هذا الحين على صورة إنسان، فحينما قابلَتْه سيدتنا مريم قَالَتْ: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/18) فرد عليها الملك قائلًا: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/19) فردت عليه مريمُ قائلةً: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/20)، وفي نهاية الأمر حملت سيدتنا مريم بمشيئة الله.. ولكن كيف كانت ستشرح هذا الأمر لقومها؟! نعم، إنها ستصبر صبرًا بالغًا أمام أمر تَعْلمُ بأنه من عند الله، ولكنه مِن شبه المستحيل عليها أن تُفهّمَه قومها.
ولنتخيل تلك الحالة الحرجة التي كانت سيدتنا مريم تعاني منها.
وانطلاقًا من هذه الحالة قررتْ مريمُ أن تتنحى إلى مكان بعيد عن قومها.. وما كان يجذبها إلى العزلة إلا عفّتها وطهارتها، ولا ندري كم من الوقت قضت في العزلة، ولا يصرح القرآن في هذا الأمر بشيء، بل ينتقل مباشرة إلى ما قبل المخاض.. ففي الوقت الذي كانت تتلوّى فيه مريم من آلام المخاض، استندت بسَوْقٍ إلهيٍّ إلى جذع النخلة، وبدأتْ تَسْبَح في لجج الأفكار العميقة البعيدة تجاه ما لاقته من صنوف الابتلاءات، فإذا بلسانها يلهج بالقول: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/23).. ولكن السيدة العذراء التي لم تزل منذ بداية أمرها تنظر من منظور إيمانها العميق إلى ما يدبّره لها القَدرُ الإلهي، فلا بد أن يُحمل قولُها هذا على أنها قالته بتأثير الأحاسيس التي فارت منها تحت وطأة مشاعر العفّة وضغطاتِها.
ويَلفت أنظارَنا أمران آخران هنا:
1- الألم النفسي
2- ألمُ المخاض
ففي هذا الموقف الذي تتلوّى فيه مريم عليها السلام من آلام المخاض، ويكاد قلبُها ينفطر وأطرافها تُشَلُّ عن الحركة، وقد أنهكتها الأوجاع من جانب، هناك من جانب آخر وخزٌ في ضميرها يَطغَى ألمُه على كل هذه الأوجاع.. فهي بحاجة ماسة لدواء يقضي على آلام المخاض وفي الوقت ذاته يُطفئ لهيب تلك النار التي شبّت في ضميرها.
ولم يمضِ عليها طويل وقتٍ حتى تداركتها رحمة من ربها برسالة جاء بها المَلَك:
﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/24-25).
وإثر هذا البيان الإلهي الإرشادي تتخلص السيدة مريم من حالتها النفسية الصعبة، فيتحقق بذلك الهدف الأول من وراء هذا التنبيه، وهو انتشال هذه السيدة رمز العفة والعفاف من هذا الجو الخانق الذي حطّم نفسيَّتها.
ما يهمّنا في هذه القصة هو أن نستنبط من القرآن كيفيّةَ تحليله لأحاسيسِ المرأة، وبيان حالتِها النفسية، ومشاعرِها وعواطفها، وموقعها في المجتمع.
حيث إن هذا التنبيه أو الصوت الإلهي قد أبعدَها عن عالمها الفكري الذي خاضت فيه، وسحَبَها إلى عوالمَ فكريةٍ أخرى.. فبعد أن فرَّت من قومها وحيدةً فريدةً إلى صحراء قاحلة إذا بها تجد نفسها أمام قدرة إلهيّة جعلتْ ما حولها بستانًا مخضرًّا محاطًا بالنخيل، فينشرح صدرُها ويرتاح فؤادُها.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين أمرٌ يلفت الأنظار ومن الضروري البحث فيه، وهو قضية العلاقة بين الحمل، -وعلى الخصوص الفترة التي تسبق الولادة- وبين الماء والرُّطب.. ومع أن هذا الأمر لا يدخل في نطاقِ تخصُّصي إلا أنني، اعتمادًا مني على القرآن، سأتطرق إليه على وجه الاستطراد؛ حيث أعتقد أن الماء والرطب بصوتهما وجوهما وتناولهما بالأكل والشرب، يعودان بالفائدة على المرأة أثناء الولادة سواء كانت تلك الفائدة بدنية كتأثيرهما على انفتاح الرحم، أو نفسيةً؛ كتأثيرهما على رفع معنويات المريض.. وانطلاقًا من هذه الفكرة يمكن التركيز على مشاريع الطب الحديث حول “الولادة في الماء”.
ويواصل الملَك في رسالته قائلًا: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/26).
فكأنه بهذه العبارات يُربّتُ على كتف امرأة تعاني من امتحانات روحية وأوجاعٍ جسدية جراء المخاض، فيهدأ عالَمُها الداخليُّ، وتملأُ السكينة والطمانينة قلبَها.. ولِعلم النفس الحديث في هذا المجال توصيات مشابهة لهذه، ولكن معظمها بعيدة كل البعد عن النفوذ إلى روح الإنسان، بل إنها تدفع الإنسان إلى جو المرض، وكلها تعكس العالَم الفكري لـ”رجال العلم”(!) الذين يُدْلون بهذه التوصيات.. وتُطرَح معظم هذه الأساليب على اعتبار أنها تُصلِح ما فَسد، إلا أنها -بدلًا من ذلك- تؤدي بالإنسان إلى أن ينفصم عن ذاته ويبتعدَ عن فطرته.. ففي حين أن الغاية منها جلب الشفاء لمرض إذا بها تَجلب معها عشراتِ الأمراض.
يُلاحَظ أن القرآن يحلِّق في الآفاق اللدنّية التي لم يصل إليها بعدُ علمُ النفس الحديث، ونرى أن رايته ترفرف خفَّاقة في أعلى الذرَى.
وأخيرًا، وُلد سيدنا عيسى، فأتت مريمُ به إلى قومها تحملُه في حضنها، فشخصت العيون مستغرِبة ونطقت الألسنة بالتهمة، فردَّ هذا الصبيُّ الذي في المهد على ما رماها به قومها من الاتهامات… ويمكن متابعة باقي القصة من سورة مريم؛ حيث إننا نريد أن نرجع إلى ما نحن بصدده، ونستخرجَ قواعد عامة في هذا الإطار.
وما يهمّنا في هذه القصة هو أن نستنبط من القرآن كيفيّةَ تحليله لأحاسيسِ المرأة، وبيان حالتِها النفسية، ومشاعرِها وعواطفها، وموقعها في المجتمع.
فيُلاحَظ أن القرآن يحلِّق في الآفاق اللدنّية التي لم يصل إليها بعدُ علمُ النفس الحديث، ونرى أن رايته ترفرف خفَّاقة في أعلى الذرَى.. فإذا نظرنا إلى القرآن من هذه الناحية، فسنرى أن التحليلات التي قدَّمها قبل قرون لهي مبهرة للعقول وفي غاية العمق.. ومن المعلوم أن تحليل مختلفِ الحالات النفسية مهمة جدًّا من ناحية علم النفس وعلمِ النفس الاجتماعي.
من حيث إن سيدتنا مريم كانت موهوبة للمعبد فقد قضت جُلَّ أيام طفولتها وشبابها في المعبد.
أجل، إننا نجد أن القرآن يتناول في أماكن عديدة ما يَعتري الإنسانَ بشكل عام من الانفعالات والتأثّرات، وما يصاحب ذلك من التغيرات والتحوّلات المادية والمعنوية، حيث نراه يتحدّث عن طبائع الشخصيات غير العادية، وأصحابِ الذكاء المفرِط، وأصحاب العقول الكبيرة من الدهاة والعباقرة، والذين كلّلوا حياتهم بالانتصارات، ويُشار إليهم بالبنان في النصر والغلبة، والذين أصبحوا أقطابًا في الطاعة والعبادة، وأصحابِ الذوق الذين يُشاهِدون لوحات من عالم المثال وهم في عالم الشهادة.. إلى غير ذلك من الشخصيات الكثيرة يحللها القرآن الكريم.
والآن، كيف يمكن أن يفسَّر ما لدى البعض من العزوف والاستغناء عن مثل هذا المَعين العميق الذي لا ينضب؟ فمن الواضح الجلي أنه ينبغي لعلماء النفس والاجتماع المسلِمين أن يبذلوا جهودًا كبيرة؛ فما سيقومون به من الدراسات في ضوء الأهداف والمقاصد القرآنية العامة، سيوجِّه إنسانَ اليومِ -الذي ابتَعد أو أُبْعِد عن ذاتيته وروحه- مرةً أخرى نحو القرآن وسيحلق به في آفاقه.
المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد لسان الغيب في عالم الغيب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.