إن ميلاد فخر الكائنات يعد ميلادا جديدا للإنسانية كلها. فحتى تشريفه للدنيا لم يكن هناك فرق بين الأسود والأبيض، ولا بين الليل والنهار، ولا بين الورد والشـوك. كانت الدنيا وكأنها في مأتم عام، والفوضى تسـود الوجود… وبفضل النور الذي أنـار بـه الوجود افترق الضياء عن الظلام، وانقلب الليل إلى نهار، وانقلب الكون إلى كتـاب يمكن قراءته كلمة كلمة وجملة جملة وفصلا فصلا… كأن كل شيء قد بعث من جديد، ووصل إلى قيمته الحقيقية.
أجل!.. إن تشريفه الدنيا يعد حادثة كونية، أي أهم حادثـة جرت في الأرض وفي السماء، وبعثا وحيـاة جديدة للإنسانية في الوقت نفسه. فهو بالرسالة النورانية التي حملها بيديه كان يقوم بتنظيم الدنيا من جديد حسب قيم السماوات، وبوظيفة الترجمان للحقائق الموجودة خلف أستار الوجود، وبتقديم تفسير جديد ونظرة جديدة للأشياء وللحوادث. فقد كان الوجود قبله دون معنى ودون روح، قد تمزقت الروابط فيه، وأصبح كل شيء غريبا عن الآخر. كأن الجمادات كانت من قبله رموزا لمسيرة العبث في مسرح الوجود، وتبدو الأحياء وكأنها في قبضة الانتخاب الطبيعي، وفي كل يوم بقبضة موت مختلف. وفي مثل هذه الوحشة المظلمة كان الإنسان يئن من الفراق كل آن كيتيم وكمظلوم. بالنور الذي نشره انـزاحت الأستار وزال سحر الظلام فجأة، وفرّت الشـياطين، وهُزمت الضلالات واستقرت في أعماق الجحيم، وتغيرت ماهيات الأشياء، فانقلب الهدم إلى بناء، والانقراض إلى التعافي. وبدأ المجيء إلى الدنيا والرحيـل عنها يأخذ شكل مراسيم عيد، المجيء إليها عيد ميلاد، وفراقها عرس رحيل.
المصدر: فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
ملحوظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.