﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾(البَقَرَة:165)
أحسب أن هذه الآية الكريمة تشير إلى الحقيقة الكلية الآتية:
يجب ألا يكون هناك عند المؤمن في الحب الإرادي أي حب يفوق حب الله تعالى. إن انقلاب الحب إلى طبيعة وشـعور يسري في كيان الإنسان ويجعله محباً ولهاً يحتاج إلى زمن، ويكون بنسبة نصيب ذلك الإنسان من المعرفة الإلهية. والحب الإرادي علاقة وترجيح حيث يشير الحديث الشريف “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس جميعاً”إلى هذه المرتبة. والحقيقة أن الحب الحقيقي يبدأ بهذه الخطوة الأولى. وإذا جئنا إلى مشاعر الحب الفطرية عنـد الإنسان كحب الإنسان لوالديه وزوجته وماله… الخ فيجب أن يكون هذا الحب ضمن الإطار الذي أمر به الله تعالى، وإلا ساق الله تعالى عبده إلى امتحانات في الحياة الدنيا بمختلف الوسائل ويؤاخذه عليه، أو يؤخر ذلك إلى يوم القيامة. والخلاصة أن المؤمن هو إنسان متوازن وعليه أن يحفظ هذا التوازن في كل آن ويصونه في وجه جميع رغباته الأخرى وشهواته.
أجل! هناك أناس يبالغون في تعظيم بعض الأفـراد إلى درجة الألوهية ويقولون “هو ربنا ومعبودنا وإلهنا”. ويتحدثون عن خلقه لهم ويطنبون في مدح إدارته ويضعونه موضع المعبود المطلق. ومع أن بعضهم لا يصرح بمثل هـذه الأفكار والمشاعر، إلا أنهم بآمالهم المعقودة عليه وتوجههم نحوه وإبدائهم العلاقة والاهتمام نفسه يرتكبون الشرك نفسه. فإن أطلقنا صفة “الشـرك الصريح”على الطائفة الأولى، كانت الطائفة الثانية في “شـرك ضمني”وفي شرك غير مباشـر. والآية الكريمة تزجر الطائفة الأولى زجراً شديداً، كما تنبه الطائفة الثانية وتحذرها.
ثم إن هذه الآية تقوم تنشئ جسراً بين الألوهيـة وبين المحبة، وتجذب الأنظار إلى شعور المحبة الموجود بين الإنسان وبين ما يعتقد أنه معبوده وإلهه فإن كانت القلوب تقبل الخضوع لهذه الآلهة وتطيعها، فإن على المؤمنين أن يفتحوا صدورهم على سعتها، وقلوبـهم على مصاريعها لحب الله تعالى، وأن يركزوا نظرهم على مرضاته وأن يعلموا أن القيمة الحقيقية لحياتهم متوقفة على الاستماع لأوامره وفعل ما يرضاه وما يحبه لنا، وأن تكون مرضاته هي الهدف.
والذين لا يحبونه سـيبقون على الدوام في قلق على مصيرهم وعلى عاقبتهم المجهولة وعلى خوف. أمـا المؤمنون الحقيقيون فهم على وعي بالمقياس الصحيح والمحسوب بدقة والذي وضعه للمؤمنين الأنبياء والأولياء والأصفياء -الذين كانوا السبب في إيمانـهم وفي زيادة معرفتهم بالله تعالى- وأن يكون التوحيد ميزان هـذا الحب ومحوره. فهم يحبون الله أولاً محبة تتجاوز العشق والوجد، ولهذا السبب فهم يحسون بعلاقة نسبية تجاه كل شيء آخر غيره. فهم لا يحبون أي شيء آخر مثل حبهم لله، بل بحب نسبي حسب قرب هذا الشيء من الله ومن رضاه. ومثل هذا الحب يكون حباً رصيناً وباقياً لا يزول ولا يهتز. لأنه حب نابع من العقل ومن القلب ومن المنطق.
المصدر: فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.