علينا ألا ننسى أن الاستغناء ليس سلوكًا مقصورًا على موقفنا من المال والملك والثروة الحقيرة، بل هو أيضًا الثبات والصمود في وجه المقام والمنصب والتقدير والتهليل وشتى أنواع الرغبات والأهواء النفسية؛ فلو عزم عليك الناس بإصرار أن تتقلّد منصبًا أو رتبة كأن تكون مديرًا أو مستشارًا أو نائبًا في مجلس الشعب، فحاسب نفسك وقل لها: “يا تُرى هل يمكنني أن أحافظ على روح الاستغناء وأنا في هذا المنصب؟!”.
أي حاسبها قائلًا: “ما الدافع للحصول على هذا المنصب، أهو الهوى أم السعي في خدمة الأمة لنيل رضا المولى عز وجل؟”؛ فإن تحكمت النفسانية بالنفس فعليك أن تقاوم ذلك الهوى.
ورُبَّ قائل: “لو تعين علينا جميعًا الاستغناء عن بعض الوظائف والمناصب فستظلّ شاغرة؟!”
وجوابه أنه لو وُجد كفء لهذا المنصب وقدَّمتَ نفسَك فهذا يثير الضغائن والحسد، ويفضي إلى النزاع والشقاق، فلو اجتمع عشرة أئمة أَكْفَاء في مسجد، ثم تقدمتَهم إلى المحراب، فهذا ضررُه أكبر من نفعه؛ لأنه لا بد أن أحدهم سيؤمّ الجماعة.
وأمرٌ آخر ذكره بديع الزمان سعيد النُّورسي: “على المرء أن يؤثر التبعية على المتبوعية التي تنذر بالخطر وتقتضي تحمّل المسؤولية”. أجل، إن الإمامة أمرُها جلَل؛ فالإمام يتحمل تبعة المأمومين جميعًا، فإذا أخطأ تحمّل تَبِعة الجماعة كلها، ومثل هذا لو أنّ محافِظًا قصّر لَتحمّل وِزر أبناء المحافظة جميعًا، وكذا لو أن الرئيس ارتكب خطأ يضرّ بالشعب، فسيرحل إلى الآخرة وهو محمَّلٌ بأوزار الشعب كلّه.
إذًا على المرء أن يُؤْثِر دور الناخب لا المنتخَب؛ لأن الخطأ ديدن كلِّ من يحرصون على الفوز بالانتخابات، أما من لم تهمّه نفسُه وسعى ليتقلّد الأكفأ أيًّا كان فقلّما يُخطِئ.
المصدر: فتح الله كولن، شد الرحال لغاية سامية، التعفف والاستغناء طوال العمر، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.