سؤال: بما أن الله لا يحتاج إلى عبادتنا فلماذا لا نقوم بعباداتنا كما يحلو لنا؟
الجواب: إن عبادة الله تعالى أمر مترتب على معرفته سبحانه وتعالى، أي إن الإنسان يشاهد لوحات الجمال في هذا الكون ودلائل النظام فيه، ثم ينتقل إلى واضع النظام؛ ومَن يتأمل هذا الكون بدقّة وإمعان يرى أنه ما من شيء فيه وضع عبثًا أو دون نظام أو دون غاية، لذا يرى أن عليه أيضًا أن يتحرك ضمن هذا النظام.
أفضل شكل للعبادة هو الذي بيَّنَه لنا ربّنا.
ومن نظر إلى الوجود من زاوية الجمال يرَ جمالًا مُذهلًا وخارقًا بحيث لا يستطيع تخيل جمال أعظم منه، فمن جمال وجه الإنسان إلى جمال الأرض فالسماء فالنجوم، وأمام مثل هذا الجمال الرائع الذي يأخذ بالألباب ويسحر القلوب، لا بدَّ أنَّ به يُعرف ومن ورائه يُرى مالك هذا الملك وصاحب ذاك الجمال.
وسواء أكان هذا تأملًا آفاقيًّا أم تأملًا أنفسيًّا فإنه يملأ نفس الإنسان وروحه بالنشوة والفرح والإثارة فيغدو كطفل صغير يريد أن يثب ويقفز، ويطلق صرخات الفرح كلما رأى أجمل الأسماء (الأسماء الحسنى) وهي تلمع مثل فراشات مضيئة فوق أجمل الأفعال والإجراءات والتقديرات، فلا يملك الإنسان نفسه من الإعجاب والتقدير والتبجيل لهذه الصفات التي هي منبع كل خير وجمال، ويكاد الإنسان يغيب عن وعيه من الذهول والإجلال وهو بين يدي مالك الكون أجمع.
العبادة هي الإيمان بالله والمعرفة بالذات الإلهية ثم القيام بالعبودية إزاء هذه المعرفة بمحبة وإجلال وفي ظلِّ الهدي الربّاني وتحت أوامره.
ويبدو كل شيء في الكون من زاوية أخرى وكأنه هُيِّئ وأُعِدَّ في مكان آخر ثم عُرض لخدمة الإنسان، فهناك نِعَم مقدمة له في عُلَب محفوظة أو على شكل ثمار وفواكه حتى بدت الأرض وكأنها مائدة عامرة بكل الأصناف، وعندما يمد الإنسان يده إلى هذه النعم يحس بمالكها الحقيقي ويزيده هذا الإحساس إعجابًا واندهاشًا ولذة أخرى، فلو عقل الطفل وهو يرضع من أمه -منبع الحنان- لأحس أن مثل هذا الغذاء المفيد جدًّا له كأنه مقدم لنجدته من عالم آخر، ولأحس أن هناك وراء مظاهر الأحداث جميعها مُنعمًا و رزّاقًا كريمًا، ولكان عليه آنذاك أن ينحني تعظيمًا وتبجيلًا له.
أجل، كل نعمة وكل إحسان يدل على المُنعِم المحسن، ويسوق إلى إجلاله وتوقيره، فأينما شاهدنا نعمة أو جمالًا أو نظامًا وجبت العبودية لصاحب هذه النعم والجمال والنظام، أي متى ما جعلنا الله تعالى نحس بوجوده، فعلينا أن نشكره بالعبودية فورًا، ومن هنا يقول المعتزلة وكذلك الماتريدية بشروط: لو لم يُرسل الأنبياء ولم يقم أحد بإرشاد الإنسانية إلى الله لكانت الآيات والأدلة التي يزخر بها الكون كافية لمعرفة الإنسان بالله، ولكان الإنسان مكلفًا آنذاك بمعرفة الله، وهذه المعرفة تدفع الإنسان إلى تحري ما يرضي اللهَ. ويمكن إيراد أمثلة عديدة على وجهة نظر الماتريدية، فمثلًا: نرى أن بعض المعاصرين للرسول رغم أنهم نشؤوا بجوار الكعبة المملوءة بالأصنام والأوثان وما كان ثَمَّ مَن يُعلِّمهم حقائق التوحيد، فإنهم كانوا يحسون إحساس ذلك البدوي وقد قيل له: بم عرفتَ ربك؟ فقال: “البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام تدل على المسير، فسَماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما تدل على العليم القدير؟!” هذا قول بدوي لم يكن يرى في الصحراء سوى الرمال الممتدة أمامه، فكيف بغيره إذًا؟
لقد وضع الله تعالى في فطرة الإنسان وفي قلبه شعورًا بالعبودية وإحساسًا بها.
جاء رسولنا بمفهوم سامٍ لإنقاذ البشرية، ولو جاز التعبير لقلنا: إنه كان إنسانًا فوق الإنسان، فقد وصل إلى إدراك المعنَى الحقيقي للكون قبل نبوته، وحدس وجود الله تعالى وبدأ بالبحث والتأمّل في غار “حراء” والتحنث أي التعبد فيه، ففي رواية للبخاري عن أمّنا خديجة رضي الله عنها “أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي غَارِ “حِرَاء” وَأَنَّهُ لمَ يَكُنْ يَنْـزِلُ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا لِلتَّزَوُّدِ بِالزَّادِ”([1])؛ وهذا يدل على أن الإنسان يستطيع بإدراكه اكتشاف بعض الأمور، ويسوقه هذا الاكتشاف إلى العبودية لله تعالى على نحوٍ ما.
وما قاله زيد بن عمرو بن نفيل وهو على فراش الموت يستحق التأمل، فقد كان زيدٌ عمَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقبيل وفاته استدعى جميع أفراد عائلته وجمَعهم حوله وأخبرهم بما يعلمه من صفات النبي المنتظر، ولم يقدَّر له أن يرى رسولنا صلى الله عليه وسلم، أي إنه بلغ بفرسه الشاطئ، ولم يتيسر له ركوب سفينة النبي، غير أن روحه بكلّ ذرّاتها تنسمت عبير رسولنا فحدس الحقيقة الأحمدية بكل جوارحه، ولكنه لم يستطع أن يطلق اسمًا على ما أحس به؛ فعن عامر بن ربيعة قال: “سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيًّا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أُومن به وأصدقه وأشهد أنه نبيّ، فإن طالتْ بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمتُ أخبرت رسول الله قول زيد بن عمرو وإقراءه منه السلام، فردّ عليه السَّلامَ وترحم عليه”([2])، وكان يقول: “اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم”([3]). وهكذا يظهر أن هذا الضمير النقي لو لم يكن في مجتمع وثني لاستطاع بتأمل هذا الكون ونظامه الوصولَ إلى عبودية الله تعالى.
فمعرفة الله تعالى تبدأ العبودية معها فورًا؛ أجل، فما دام هناك من ينعم علينا بكل هذه النعم فالعبودية موجودة أيضًا؛ لذا فقد وضع الله تعالى في فطرة الإنسان وفي قلبه شعورًا بالعبودية وإحساسًا بها، أي كما قال زيد: “اللهم إني لو أعلم أحبّ الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم!”، والوحي السماوي هو وحده الذي يحدد ويبين الشكل الصحيح للعبودية ويحول بذلك دون انحرافها لتبقى في حدود الأوامر الإلهية؛ كأن الله تعالى يقول: إنني أنا الله وأنت عبدي، عرفتني بالنعم التي أنعمت بها عليك، وأنا سأعلّمك آداب العبودية التي تمثل بها بين يدي:
جاء رسولنا بمفهوم سامٍ لإنقاذ البشرية، ولو جاز التعبير لقلنا: إنه كان إنسانًا فوق الإنسان.
تتوضأ أولًا ثم لكي تجاهد نفسك تذكر أن الله سبحانه وتعالى هو الأكبر، وأن كل ما سواه صغير ضعيف، ثم تعقد يديك أمامك إخباتًا لله، ثم تجتهد ما استطعت في الفهم لتظهر لهفتك لسمو روحك إلى حيث عرج سيد الأنبياء، ثم تركع شاكرًا، وكلما أخبتَّ في الركوع بلغتَ أعماقًا أخرى، ثم تسجد لتَبلغ الأعماقَ في التواضع، ثم ترفع لتستريح ثم تسجد السجدة الثانية وتكثر من الدعاء إذ “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ”([4])؛ وتتأمل الآية الكريمة: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/219) أي يرى مكانك بين الساجدين؛ وبقدر قابليتك وانسجامك وتفاعلك مع جوّ السجود تسمو في معراجك وهو الغاية من الصلاة.
إذًا فالعبادة هي الإيمان بالله والمعرفة بالذات الإلهية ثم القيام بالعبودية إزاء هذه المعرفة بمحبة وإجلال وفي ظلِّ الهدي الربّاني وتحت أوامره، وما تقدَّم هو أحد وجوه هذه المسألة.
إننا أمام معرفة ربنا لا ينبغي أن يصدر عنّا ما فيه طيش أو ما لا يليق، وعلينا أن نستنير بأنواره سبحانه وتعالى في ظل إرشاد الآيات البينات نبتغي بذلك ما يرضي الله عزَّ وجلّ.
من نظر إلى الوجود من زاوية الجمال يرَ جمالًا مُذهلًا وخارقًا بحيث لا يستطيع تخيل جمال أعظم منه.
وأمَّا المسألة الثانية فنقول: إن الإنسان بحاجة في الساحات كافَّة -تجاريةً كانت أم علميةً أم فنّيةً أم زراعيةً أم صناعيةً- إلى مرشد يتعلَّم منه، ولنفرض: أنَّ لكلٍّ منكم عملًا، فأحدكم عنده مصنع نسيج، وهذا عنده مصنع بلاستيك، وآخر له معرض تحف، ولنفرض أن هناك شخصًا يريد مصلحتنا لئلا نتعرض للخداع، ويعرف الأصول وأساليبها، فعهد إلينا أن ننجز أعمالنا بإتقان، ثم جمعنا ووقف أمامنا قائلًا: “بوسعكم أن تقوموا بهذا العمل، فهو ضرورة وحاجة، ولتنفذوه بإتقان عليكم بالعنصر البشَري ورأس المال فاستثمروهما جيدًا، وعليكم بتدابير الاقتصاد وعدم الإسراف والعناية بكذا وكذا من الأمور”؛ فذرة من الإنصاف تحملنا على الاهتمام بنصائحه لا سيما أنه لا يروم من وراء إرشاده منفعة، فنصغي إلى نصائحه ونتأمل توجيهاته بعناية، وننظم أمورنا وفقها؛ وهكذا الأمر في طاعاتنا وعباداتنا لله تعالى لا نفعل ما تمليه علينا أهواؤنا ورغباتنا بل نعمل وفق النظم والقوالب والهيئات الحاضرة في روح العروج التي يرشدنا إليها خالقنا ومعبودنا؛ وهكذا تحصل البركة في عباداتنا، وتكون كمثل سنبلة أنبتتْ سبْع سنابل، فمن يدري فلعلنا نلمس الزر الذي يفتح أمامنا أبواب الرحمة الإلهية عندما نقول “الله أكبر”، ولعل أبواب الإلهام تفتح أمام أرواحنا آنذاك، ومن يدري فلعلّنا عندما نقرأ سورة الفاتحة نستعمل مفتاحًا سرّيًّا لفتح قفْل ذي شفرات سرّية، ومن يدري أي أبواب سرية تنفتح أمامنا في كل ركن من أركان الصلاة التي نؤدّيها.
مَن يتأمل هذا الكون بدقّة وإمعان يرى أنه ما من شيء فيه وضع عبثًا أو دون نظام أو دون غاية.
أجل، بوسعنا أن نقول: إن الطرق جميعها ستنتظم وتستقيم وجميع الأبواب تنفتح حينما نسجد، وإن أَدْعِيتَنا سترتفع بين يدي ربّنا وسنحاط آنذاك بالملائكة الكرام؛ ومن يستطيع أن ينكر حدوث كل هذا؟ إن المبلّغ الصادق يخبرنا ببيانه البليغ النوراني عن هذا كلّه، إذًا فأفضل شكل للعبادة هو الذي بيَّنَه لنا ربّنا؛ ذلك أن الله الذي خلق ماكِنة الإنسان أَدرَى بكيفية تشغيلها، وبطرق استخراج أفضل ثمرة منها سواء في سبيل الحياة الدنيا أو الآخرة؛ إذًا فمن خلق وصنع هذه الماكنة وهذا المعمل عمل “كَتَلُوجًا” لها ووضعه في موضع منها، فليُؤخذ هذا الكَتَلُوج بعين الاعتبار إن كان المطلوب إدارة هذه الماكنة إدارة عقلية وصحيحة، إذًا فالعبادة لا تؤدَّى كيفما اتفق، بل في حدود إرشادات وتعليمات رسولنا ، وعندئذ تؤدَّى العبادة في أفضل صورها، وهذه نعمة من النعم التي أنعمها الله تعالى على أمة محمد ؛ لذا نقول: ذلك فضل الله، ونتضرع بدعاء رسولنا الكريم ألا يكِلَنا ربّنا إلى أنفسنا طرفة عين.
[1] البخاري: بدء الوحي، 1؛ مسلم: الإيمان، 252؛ الترمذي: المناقب، 13.
[2] البداية والنهاية لابن كثير: 2/240.
[3] البداية والنهاية لابن كثير: 2/237.
[4] مسلم: الصلاة، 42؛ أبو داود: الصلاة، 152.