سؤال: ما معنى قول الأستاذ النُورْسي رحمه الله: “لقد افتديت دنياي وآخرتي في سبيل إنقاذ إيمان المجتمع[1]“؟
الجواب: لقد سبق هذه القامةَ الشامخةَ سيدُنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والكثيرُ من أولياء الله مثل منصور الحلاج والإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي وغيرُهم، وقالوا مثل هذا الكلام، ولقد عاش هؤلاء في قلقٍ واضطرابٍ كالملائكة الحفظة الذين يقفون على أبواب جهنم؛ حتى لا يتردّى أحدٌ في النار، وفَرَدُوا أذرعهم وشبَكوها كالمقصّ، وقالوا كما قال نجيب فاضل: “هنا زقاقٌ مسدود”.
ضحى بدنياه أوّلًا!
ذكر بديع الزمان سعيد النورسي في مقولته أولًا أنه قد هجر الدنيا حتى يَسلم إيمانُ غيره، والحقيقة أنّ كلَّ مَنْ يُلقي نظرةً على حياة هذه القمّة الشامخة سيجد أن عمره من أوله إلى آخره يقرّر هذه المقولة؛ لأن نمط الحياة الذي اختاره لنفسه لا يمكن لإنسان عاديٍّ أن يتحمّله؛ فحياته حافلة بالنفي والسجن والاضطهاد والظلم، فلم يكتفوا بأن وضعوه في سجنٍ انفرادي، بل أودعوه -ولتسامحني هذه الروح الطاهرة- في مكانٍ يشبه مكان قضاء الحاجة بالنسبة لهم، فضلًا عن ذلك فتحوا نوافذ هذا السجن على مصراعيها؛ حتى يتجرّعَ برودة الشتاء القارس، ولم يكتفوا بهذا أيضًا بل سمّموه تسع عشرة مرة، دع عنك هذا الظلم والإيذاء الجسدي في السجن، فقد أفردوا له عناصر أمنٍ يتتبّعونه ويُلاحقونه في الخارج.
بيد أن الأستاذ النورسي لو شاء لكان بمقدوره أن يُصبح صاحب جاه ومنصبٍ، ويعيش كغيره حياةً ملؤها الراحة والرفاهية والنعيم، والتنعم بلذائذ الدنيا؛ لأنه كان ذا عقلية سليمة؛ وضع منذ اللحظة الأولى مشاريع وخططًا عظيمة؛ فأثرت أحاديثه وكتاباته في جموع الناس، كتب في عهد المشروطية كتابه المسمى “السنوحات”؛ والذي تحدّث فيه عن القلاقل والاضطرابات الواقعة في تلك الفترة، ووضع في هذا المؤلَّف أيضًا كثيرًا من القواعد التي يمكن الإفادة منها في حلّ المشكلات، كما أبدع في كتابته لمؤلفه “المحاكمات” حتى أبهرَ علماء عصره، وطوّف بالأناضول، وأقنع العشائر التي تتحيّن الفرصة للتمرّد بالعدول عن فكرتها، وألقى خطابات في الميادين تهدِّئ من روع الفرق المتمرّدة، كان صاحب شجاعة وجرأةٍ جعلته يصيح بأعلى صوته بعد أن حوكم في المحكمة العسكرية: “تحيا جهنمُ للظالمين”؛ معلنًا أنه لن يُعرِض مطلقًا عن أفكاره ومشاعره.
فلو كان يفكّر قليلًا في الدنيا ودارى مَن حوله لعاش حياته في بُلهنيةٍ ورفاهية، ولو حاز على مقعدٍ في البرلمان في السنوات التالية لحرب الاستقلال، فجلس في صمتٍ وسكونٍ غير متطلّع إلى شيءٍ لَلاقى مزيدًا من الشكر والتقدير، ولخُصّص له جزءٌ من المخصّصات السرّيّة، وعُرض عليه كغيره الحدائق والبساتين والشاليهات والفيلات، ولكان بإمكانه أن ينعم بحياةٍ ناعمةٍ مرفّهة، وأن يعيش حياته الدنيوية في رغدٍ وراحة بال، لكنه دفع كلّ هذا بظهر يده في سبيل دعواه، وابتغى حياةً لا تُطاق من أجل سلامة إيمان غيره.
ما معنى التضحية بالآخرة؟
من جانبٍ آخر ذكر الأستاذ النورسي أنه قد ضحى حتى بآخرته في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع، فلم يفكّر حتى في نفسه؛ بمعنى أنه لم يلجأ لتقوية صلته بربّه سبحانه وتعالى إلى حياة الانزواء والمجاهدة ورياضة النفس، ورقيّها معنويًّا، وانفتاحها على آفاق الذوق الروحاني؛ ومن ثم تظهر على يديه الكرامات، ويحظى بإجلال وتقدير من حوله، وكما لم يبتغ عرضًا من أعراض الدنيا لم يتشوّف إلى أيّ جزاءٍ أخرويّ؛ لأنّه جعل غايته المثلى الوحيدة هي سلامة إيمان الأمة.
ولكن ألم يكن له في الله أيّ مطمعٍ أخروي؟ كان له بالتأكيد، ولكنه كان يتشوّف إلى ذلك بفضلٍ من الله وكرمه ورحمته.
وهنا أريد أن أنبّه إلى أنّ الأستاذ النورسي رحمه الله وأمثاله من العظماء الذين كانوا يتبنّون المنهج الفكريّ نفسه قد تكاملوا مع أمّتهم حتى أصبحوا جزءًا من بنيتها الأساسيّة العامة، لقد صاروا وكأنهم خليّة من الخلايا العصبية القابعة في هذه البنية؛ ولذا كانوا يشعرون -بعمقٍ- بما يصيب هذه البنية من خيرٍ أو شرّ، ويتأثّرون بشكلٍ بالغ بهذا، وهناك قولٌ يُعزى إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فحواه “اللهم كبِّر جسدي لأملأ جهنّم بمفردي”، ولقد كان الأستاذ النورسي أيضًا يقول: “إن رأيتُ إيمان أمتنا في خيرٍ وسلامٍ فإنني أرضى أن أُحرق في لهيب جهنم دونها”.
لكن من المتعذّر أن يَفهم هذا الكلامَ بمعناه الحقيقي شخصٌ ليس له من رحابة الصدر كما للأستاذ النورسي. أجل، حتى يستوعب الإنسان هذا الأفق من التضحية عليه أن يشعر بما يصيب غيرَه الآن من عذابٍ محقّق وما سينزل به من عذابٍ مقدّرٍ أو محتمَلٍ فيما بعد وكأن نارًا تضطرم في داخله، وهذا منوطٌ بأن يكون الإنسان ذا صدرٍ رحبٍ يحتضن كلَّ البشرية، وإذا شئتم فأطلقوا على هذا “الضميرَ العالمي”، فمَن يحملون هذا الضمير يفرحون لسعادة غيرهم ويحزنون لأتراحهم، فأينما نزلت النارُ بأي بقعةٍ في العالم أحرقتهم؛ لأن صدورهم تكتوي بلهيب هذه النار.
ولذا فإنه ليس بوسعِ أشخاصٍ عاديّين أمثالنا -وإن لم نقل هذا بالنسبة للجميع- أن يفهموا هذه الآراء والملاحظات الواسعة تمام الفهم؛ فنحن وإن استطعنا أن نُحسَّ بقدرٍ معيّنٍ بآلام أطفالنا وأزواجنا وأصدقائنا -إن وجدت- إلا أننا لا نمتلك صدرًا واسعًا بمقدوره أن يحتضن الإنسانية جمعاء، ولأننا لم ننفتح على أفقٍ معرفيّ كهذا ولا سعةٍ وجدانيّةٍ كتلك فإننا نعاني كثيرًا في فهم مدى الهموم التي أَضْنَتْ وأرهقت أولئك الأشخاصَ العظامَ.
لقد أتوا ذات مرّة بشخص -كنت أعرفه من قبل- إلى أحد دروس الأستاذ “يَشَارْ طُونَاكُورْ (Tunagür Yaşar)”، وقد تحدث المرحوم في وعظه هذه المرة أيضًا -كعادته- بشوقٍ عميقٍ ودموعٍ مدرارة، وفي حين كنت أحسب أن هذا الضيفَ تأثّر بهذا؛ إذ سمعته يقول: “لماذا ينتحبُ هذا الرجل على نحوٍ سيّءٍ هكذا!” فأخذتني الحيرة وحزنتُ حزنًا شديدًا؛ إذ كنتُ أرى أمامي فكرًا فظًّا محرومًا من قدرة ومَلَكَةِ الفهم والحس في جانب، وفي جانبٍ آخر: وجدانًا وضميرًا رحبًا يمثّل نموذجًا للرقّة التي تنساب خارجه، وإنّ فهمَ ما يشعر ويحسّ به وجدانٌ رحبٌ فسيحٌ على هذا النحو مرهونٌ بمشاركته ذات الأفق الذي يُحلّق فيه.
ضرورة تقديم حقوق الله على كلّ شيء
لم تفكّر القمم -من أمثال الشيخ الجيلاني والإمام الغزالي والإمام الرباني وبديع الزمان- في نفسها فقط؛ نظرًا لأنهم اهتمّوا بدائرةٍ واسعةٍ جدًّا واعتنوا بمجال فسيح للغاية، أما من نالوا سعادة التعرُّف على مثل هذه الشخصيات البارزة فينبغي لهم أيضًا أن يركضوا ويسارعوا طلبًا للمشاركة في أفق التضحية عينه. أجل، إن الأرواح التي نذرت نفسها للحقّ ينبغي لها ألا تلهث وراء أفكار دنيوية من قبيل الصعود إلى قمم الجبال صيفًا، والنزول إلى السفوح والبيوت الساحلية شتاءً بغيَة التلذُّذ والتمتّع، عليهم أن يركلوا بأطراف أقدامهم مثل هذه الأفكار التي قد تخطر ببالهم، بل تجب عليهم -إلى جانب هذا- التضحية بالفيوضات المعنويّة التي منها إظهار الكرامات والكشف واستقراء بواطن الناس والتجوّل في الملاحظات والآراء الميتافيزيقية والتحليق سويًّا مع الروحانيّين، وعليهم أن ينذروا أنفسهم لإنقاذ إيمان الأمة فحسب، أما في مواجهة أحاسيس هذا النوع من الفيوضات الإلهية التي تتحقّق دون طلبها فينبغي أن ينتابهم القلق ولسان حالهم: “تُرَى أيمتحنني الله تعالى بهذا؟” ويجب أن يكون موقفهم على نحو: “اللهم إن كان كلّ واحدٍ من هذه الأمور ليس “استدراجًا”، بل لطفًا منك؛ فلك الحمد، إلا أنني لا أطلبها”، إنّ فهمًا قويًّا حذِرًا على هذا النحو يعني في الأساس تقديم حقوق الله على كلّ شيءٍ دائمًا.
وهنا قد يكون من النافع لفتُ الانتباه إلى نقطة ربما يُساءُ فهمُها: إن تضحية الإنسان بآخرته أو التضحية بالفيوضات المعنوية لا تعني إهمال العبادة والطاعة والأوراد والأذكار أو تركها، بل إن الأمر على العكس من ذلك؛ إذ إن المستهدفَ -إلى جانب ضرورة الوفاء بها على أكمل وجه وأتمه- ليس الكشف والكرامة، ولا المتع ولا الملذات الروحانيّة، وإنما وفاء الإنسان بوظيفة العبودية، وإشعاره الآخرين بطعم ولذّة ما ذاقه وأحسّ به، كما أنه يستحيل على الفرد الذي لا يحمي إيمانه ويصونه بالعبادة والطاعة والأوراد والأذكار أن يُنقذ إيمان غيره.
أما الأمر الأخير في هذا الشأن فيمكنني أن أقول: إن تجاهل الإنسان نفسه وعدم تفكيره فيها واهتمامه الدائم بمشاعر وأحاسيس إحياء الأنفس، وذكره الله تعالى دائمًا، وقضاءه ليله مفكّرًا في الإنسانيّة؛ كلّ هذه من أوصاف الأنبياء، وفي حين أن الناس يصنفون في الآخرة وفقًا لفئات معيّنة فإن من يعانون ويكابدون في سبيل الله والدين والإيمان والقرآن والإنسانية يُحشرون مع النبيّن بإذن الله تعالى، ولهذا فلا بدّ من إعلاء الهمم، ونبذ مشاعر العيش الأناني، والسعي دومًا في سبيل مثالية الإحياء والإعاشة.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: السيرة الذاتية، ص 491.