من المؤسف أننا كمجتمعٍ قد تأخّرْنا كثيرًا في الحياة العلمية والفكرية، ولهذا السبب نشعر بالحاجة إلى الحديث الدائم عن النجاحات التي تحقّقت في الماضي وإلى التسلّي بها.. ولأن عالمنا اليوم قد خلا من الجماليات التي يمكن الافتخار والتعبير بها عن أنفسنا فإننا نلجأ دائمًا إلى عالم الماضي الحالم، ونتحدّث عما قدَّمه أسلافنا من إسهامات إلى عالم العلم والمعرفة.
إذا أردنا أن تتوافق الانفتاحات العلمية والفكرية مع روح القرآن والسنة، فينبغي ألَّا تزلّ أقدامنا عن أرضية تراثنا الصلبة.
من الطبيعي أن نتحدّث عنها؛ فتجاهلها ليس صحيحًا، ولكن يجب ألا ننسى أننا “مستقبلٌ جذوره ضاربة في أعماق الماضي” على حد تعبير الأديب التركي يحيى كمال، يجب علينا أن نتحرّك ونعمل انطلاقًا من فكرة “بما أن هذا حدث في الماضي، فَلِمَ لا يحدث في المستقبل!” علينا ألا نسلي أنفسنا بأيام الماضي الباهرة، بل علينا أن نسعى كي نكون رجال المستقبل من خلال الاستفادة من الحاضر استفادةً جيدةً جدًّا.
من ينكر ماضيه ينكر جذورَ نفسه، وبذرتَه وأمّته، والمهم في الأمر إنما هو القدرة على جعل ثمرة الماضي نواة للمستقبل عبر الاستفادة من الحاضر استفادة جيدة للغاية.. أي إنه القدرة على الشعور بالأمس والحاضر والغد سويًّا والاستفادة منهم جميعًا، فإن لم نستطع تقويم الحاضر ولم نستطع إنشاء مستقبلنا بينما نفتخر على نحو دائم بمفاخر الماضي؛ فإننا بذلك نكون قد أحكمنا الأسوار من حولنا، وحبسنا أنفسنا بداخلها، ومن ثم نظلّ نتشدّق بملاحم الحماسة والبطولة مثلما يفعل بكثرة مسلمو اليوم، وحينها لا يكون لدينا ولو بضع كلمات نقولها بشأن المستقبل.
لا بُدَّ من إعادة تفسير الرسالة التي يوجّهها الإسلام للبشرية وشرحها بحسب ظروف العصر، وإعادة تناول الموروثات الثقافية وتقييمها وفقًا لفلسفة العصر.
هناك العديد من المشكلات التي تنتظر الحلّ في يومنا الحاضر.. وثمة شكٌّ وتردُّدٌ دائمٌ يتشكّل في الأذهان حول الدين والتديّن، وهذا بدوره يعكّر أذهان الأجيال الشابة التي ليس لديها بنية دينية أساسية ولا مجهزة بشكل كافٍ، ولا تتغذى من مصادرها الخاصة بقدر كافٍ أيضًا، حتى إن أذهان الأشخاص المنوط بهم الإجابة عن الأسئلة والشبهات المطروحة مرتبكة للغاية، وعلى الرغم من وجود دراسات محمودة إلا أنها غير كافية؛ فالجروح التي تكونت والأضرار التي نتجت جسيمةٌ للغاية حقًّا، وهناك العديد من الناس يعيشون هزة حقيقية فيما يتعلق بالقيم التي يؤمنون بها، ونظرًا لتدنّي مستوى فهم المجتمع تدنيًا شديدًا يكون التخريب والتدمير أيضًا أمرًا سهلًا جدًّا.
وبديع الزمان سعيد النورسي عقل عظيم جدًّا استشعر منذ وقتٍ مبكّرٍ للغاية المشكلات المعاشة وقدم لها وصفات علاجية مناسبة.. ومع ذلك، لم نستطع أن نستفيد بحقٍّ من الآثار النافعة التي خلَّفها وراءه.. وقد أسأنا فهم عبارة: “حتى وإن لم يستفد عقلك استفاد قلبك” التي قالها لحكمة معينة، وقد طغت هذه العبارة على عقولنا فترة طويلةً، وعشنا أسرى لها.. لذلك لم نتمكن من الاستفادة بشكل صحيح من هذا المنهل العذب المورد، ولم نستطع الخوض نحو أعماقه، وبناءً على ذلك لم نتمكن من تطوير أدوية مناسبة لأمراض عصرنا.
ثمة حاجة إلى ثورة جديدة في الشعور والفكر.. يجب علينا أن نطوّر منهجًا وأسلوبًا جديدًا في التفكير، وطريقة جديدة للقراءة، ويجب علينا إعادة النظر في كل ما اعتقدنا أننا نعرفه من قضايا حتى الآن، فلا بدّ من طرح تفسيرات وتأويلات وآفاق جديدة وفقًا لعصرنا الحالي من خلال التخلّص من الشروح والتذييلات، وعدم إهدار الوقت في القصّ واللصق؛ فهذا هو ما سيجلب لنا نَفَسًا وروحًا جديدين.
يجب أن ننشئ أكاديميات، ونشكّل فرق بحثٍ لإجراء البحوث، ونمكنها من التعمّق في مختلف المجالات.
ولسوء الحظ، إننا لسنا على علم بخلفية حتى المسائل التي سمعناها كثيرًا وظننا أننا نعرفها إلى اليوم، ومن ذلك مثلًا أن معظمنا يعرف ما ذكره الشيخ الجليل سعيد النورسي في الكلمة الأولى عن حقيقة البسملة، بل إننا حفظنا بعض الجمل الواردة فيها، ومع ذلك ثمّة شكٌّ في مدى فهمنا للحقائق المقصودة هناك، ومقدار ما يمكننا الخوض فيه من تفاصيل، ومدى قدرتنا على تقييمها سويًّا مع خلفيتها، فثمّة عديد من الحقائق الأغلى من الذهب تصير -للأسف- ضحايا للألفة والأنس والاعتياد.
أنا لا أقول هذا بالنسبة لأعمال بديع الزمان فقط؛ إذ يمكننا أن نقول الشيء نفسه بالنسبة لأعمال أئمة عظماء آخرين أمثال: الإمام الغزالي، والإمام الماتريدي، والعز بن عبد السلام، والإمام الرباني.. فثمّة حاجةٌ إلى تمزيق حجاب الغفلة الذي يستر كلّ هذا، وإعادةِ اكتشاف وقراءة إرثنا مرة أخرى؛ إذ يجب إعادة النظر في الاجتهادات الأصلية للسلف الصالح من جديد وتقديمها إلى الإنسانية في إطار فهم وفلسفة عالمنا المعاصر، بل يجب تناول القرآن معجز البيان كما لو أنه ينزل للتوّ، والاستفادة من السنة الصحيحة كما لو أنها تُسمَع للتوّ من النبي صلى الله عليه وسلم، واستنباط حقائق جديدة منهما حسب ظروف العصر واحتياجاته، فإذا أردنا أن نثبت مرة أخرى -بأسلوب جديد ومختلف يناسب عصرنا- أن القيم التي نمتلكها لم يعف عليها الزمن، ومدى احتياج إنسان اليوم إلى الأشياء التي يُعتقد بقِدَمها، فنحن بحاجة إلى بذل جهد جادٍّ وجهيدٍ.
إذا تمكنّا من الانبعاث عاطفيًّا وفكريًّا، فإن هذا سيغير علاقاتنا البشرية، ويؤثّر على نظرتنا إلى الوجود وينعكس على حياتنا التعبّدية.
يجب ألا نكتفي بتناول هذه القضايا على مستوى العامة فحسب، بل يجب أن نكون قادرين على إنتاج دراسات على المستوى الأكاديمي، ولهذا أيضًا يجب أن ننشئ أكاديميات، ونشكّل فرق بحثٍ لإجراء البحوث هناك، ونمكنها من التعمّق في مختلف المجالات، ويجب على تلك الكوادر أولًا مراجعة التراث الذي انتقل إلينا من السلف الصالح، ثم تقييم القضايا من الأفق الذي وصلت إليه الإنسانية اليوم.
ومن المعلوم، فقد كُتبت آلاف التفاسير بأحجام مختلفة سعيًا لفهم القرآن منذ وقت النبوة إلى يومنا هذا، ولم يقل أحد من المفسرين: “لقد كُتبت تفاسير كثيرة حول القرآن قبلي، فما الداعي إلى أن أكتب؟!”، وعلى الرغم من أن علماء -بدءًا من العصور الأولى للإسلام وصولًا إلى ما بعد ذلك من حقب- أمثال الطبري والرازي والقرطبي وأبي حيان ممن كان لديهم فهمٌ جادّ للقرآن، ونظرة شمولية، وعلم بالدين؛ قد كتبوا تفاسير بشكلٍ شاملٍ وعميق؛ إلا أن من جاؤوا من بعدهم لم يكتفوا بتلك التفاسير، بل أجروا دراسات جديدة وقدموا تفسيرات وتأويلات مختلفة بحسب زمانهم.
يجب علينا أن نطوّر منهجًا وأسلوبًا جديدًا في التفكير، وطريقة جديدة للقراءة.
نعم، من الضروري واللازم صياغة منهج قراءة جديدة تنقذنا من الرتابة والاعتياد، فنحن -لسوء الحظ- نكرّر ما حفظناه وتلقّيناه، وننشغل بالمؤلفات على سبيل العادة، ونقوم بقراءات تهدف إلى الاستنباط من بين ثنايا السطور، ولا يمكننا الوصول إلى أي مكان بمثل هذه القراءات، علينا أن نطوّر منهجًا جديدًا للقراءة من شأنه أن يُحدث تجديدًا في حياتنا الفكرية، ذلك أننا إذا تمكنّا من الانبعاث عاطفيًّا وفكريًّا، فإن هذا سيغير علاقاتنا البشرية، ويؤثّر على نظرتنا إلى الوجود وينعكس على حياتنا التعبّدية، وسوف نفهم معنى الوقوف في حضرة الله سبحانه وتعالى، والركوع والسجود بين يديه، فإن لم نستطع المسير نحو مثل هذا التجديد وتجاهلنا روحه، فإننا نقتل أعمالنا الخالدة بأيدينا نحن ونسفّه بأنفسنا قيمَنا الخاصة.
نفتح المدارس والنوادي الثقافية ومراكز الحوار هنا وهناك، وننخرط في أنشطة تربوية وثقافية، والله سبحانه وتعالى يوفّق لهذه الأعمال من يبذلون جهدهم لها بسبب إخلاصهم، فلا بدّ من مقابلة هؤلاء بالتقدير.. ومع ذلك يجب أن ندرك أن القضية ليست عبارة عن هذا فحسب، فثمّة حاجة ماسّة إلى فهم وشرح ما يقوله القرآن والسنة.. لا بُدَّ من إعادة تفسير الرسالة التي يوجّهها الإسلام للبشرية وشرحها بحسب ظروف العصر، وإعادة تناول الموروثات الثقافية وتقييمها وفقًا لفلسفة العصر، ينبغي لنا أن نعترف منذ البداية أن هذا الأمر ليس سهلًا، فهذا مرهونٌ بجهدٍ أصيل وثابت الخطى.
يجب ألا ننسى أننا “مستقبلٌ جذوره ضاربة في أعماق الماضي”.
إن تأليف أعمالٍ أصيلة تناسب احتياجات العصر في كلّ هذه الأمور أمرٌ مهمٌّ للغاية، لكن الكتابة تتطلّب معرفة وموروثًا؛ وهذا أيضًا يتطلّب قراءات ومذاكرات ودراسات جادّة؛ فالمسألة ليست مجرّد مسألة تدوين المعلومات من المصادر المتاحة على جذاذات الورق واستخدامها، فالاكتفاء بتقديم المعلومات المقتبسة من مصادر مختلفة في قوالب جديدة ليس إلا استسهالًا وهروبًا إلى ما هو يسير، إن المهم هو القدرة على إنتاج أعمال عالية الجودة تعتمد على الإبداع والتحليلات الجديدة، وفتح الآفاق وتقديم الحلول للمشكلات القائمة، وهذا أيضًا يستلزم عقولًا فذّة، ورسائل النور دليل مهمّ بالنسبة لنا في هذا الصدد، سواء من حيث المحتوى أو المنهج المتبع فيها.
إننا كمجتمعٍ قد تأخّرْنا كثيرًا في الحياة العلمية والفكرية، ولهذا السبب نشعر بالحاجة للحديث الدائم عن نجاحاتنا في الماضي وإلى التسلّي بها.
لذلك يجب أن نطور قدراتنا على التأمل والتفكر والتدبر من خلال النقاش المتبادل وعقد المقارنات حول القضايا العلمية في إطار مجموعات ولجان مختلفة، وينبغي لنا أن نكون قادرين على التعمق في المجالين العلمي والفكري، وبعد أن يتسنى عمل ذلك، يمكن صياغة تفاسير وكتب فقهية وأعمال جديدة في سائر العلوم على خطى أهل السنة والجماعة، ويمكن إجراء دراسات في مجالات أخرى؛ فلدينا تراث غنيّ جدًّا، وقد نشأ في ماضينا العديد من الأفذاذ العظام، وكتبت على أيديهم أعمال خالدة، فيجب بداية الحصول على هذا التراث، وأن نقف بأقدامنا على أرضية صلبة ثابتة، ونسير هكذا نحو المستقبل، وإذا أردنا أن تتوافق الانفتاحات العلمية والفكرية مع روح القرآن والسنة، فينبغي ألَّا تزلّ أقدامنا عن هذه الأرضية الصلبة.