قد يركن “السالكُ طريقَ الحقِّ” إلى الرجاء حيال ما يَرِدُه من وارداتٍ وهباتٍ أو ما ينهال عليه من تجلِّيات عامة تتحقّق في أحوال ومقامات معينة؛ فيدخل في نوعٍ من الشطح والتحرّر، فثمّة حاجةٌ ماسّة جدًّا إلى التمكين والتيقّظ في مثل هذه النوعية من الأحوال التي تمثّل ابتلاءً وامتحانًا بالنسبة “للسالك”، فالله جلّ جلاله يمتحنكم بتدفُّقِ الإحسان والجماليّات، ويمُنّ عليكم بما يساوي الجوهرَ قيمةً، فإن فرحتم كالأطفال بهذه الهِباتِ والنعم ونسيتم في خضمّ ذلك صاحبَها فإنكم حينئذٍ ترسبون في الامتحان، لذا فالواجبُ على الأعين في مثل هذه الأحوال -التي تُمْطِرُ عليكم فيها الإحساناتُ وابلًا صيّبًا- أن ترى صاحب تلك النعم وتَرقُبَه ولا تحيد عنه، وأن تجيشَ القلوبُ بها من باب “شكر المنعم” فحسب، وعلى حدّ قول فضيلة الأستاذ سعيد النورسي فإنه ينبغي لنا عند شكر أيّ مُحسن إلينا ألا نتجاهل مَنْ أرسله. أجل، إن الإنسان العازم على السياحة في أفق القلب والروح يحتاج دومًا إلى التمكين والتيقّظ الحقيقي كي يستطيع الحفاظ على التوازن اللازم أمام الهِبَاتِ والوارداتِ التي يحظى بها.
الإنسان العازم على السياحة في أفق القلب والروح يحتاج إلى التمكين والتيقّظ الحقيقي كي يستطيع الحفاظ على التوازن اللازم أمام الهِبَاتِ والوارداتِ الإلهية.
“لستُ أنشدُ شيئًا سوى رضاك!”
إن الجانب المتعلِّق من هذه المسألة بالأرواح التي نذرت نفسها في يومنا الحاضر مختلفٌ قليلًا؛ لأنهم -وبحسب مقتضى مسلَكِهم- لا ينشدُون مثل هذه المقامات المعنويّة، وإنَّ الأستاذ النورسيّ بعد أن بيّن أن الهدفَ الأسمى للإنسان هو الإيمان بالله، ثم معرفة الله التي تنشأ من الإيمان، ثم محبة الله التي تنبع من معرفته جل وعلا؛ أضاف إلى ذلك “اللذة الروحية”[1]، بيد أن ثمّةَ أمرًا دقيقًا يجب الانتباه إليه ههنا ألَا وهو: أن الثلاث الأُول ممّا ذُكر أعلاه “إراديٌّ” بمعنى أن على الإنسان أن يبتغيها بإرادته، وبتعبير آخر: فإنكم تُوَفُّون إرادتكم حقّها كشرطٍ عاديّ في الحصول على الإيمان بالله ومعرفة الله ومحبة الله، وتتوسّلون وتطلبون وتبحثون وتتجوّلون في عوالم الأوامر التكوينيّة، وتُراعون الأوامرَ التشريعيّة، وتذكرون الله وتتفكرون، وتبذلون قصارى جهدكم في ذلك، أما بالنسبة لمسألة اللذة الروحية فإنها ليست “إراديّةً” بالمعنى نفسه، أي لا تُطلَب بالإرادة، وإنما قد يَهَبُ الله تعالى مثل هذا الفضلِ لمن يسلكون طريقَ الإيمان والمعرفة والمحبّة، إلّا أنكم إن طلبتموها بدايةً، وربطتم بها الإيمانَ بالله ومعرفةَ الله ومحبةَ الله فهذا يعني أنكم خفّضتم سقف مطالبكم وابتغيتم من النتائج ما هو ضئيلٌ وصغير، أمّا إن ربطتم عبوديّتكم برضاه وتوجّهه فحسب فهذا يعني أنكم ارتقيتم أفقًا تعجزُ الدنيا عن تقييمه أو وزنه، بل وتُستَقَلُّ وتَتَضَاءَلُ اللذة الروحية إلى جانبه، ومن هنا فإنه لا ينبغي الخلطُ بين “الإرادية واللاإرادية”، وعلينا أن نحثّ الخطى دائمًا خلفَ ما هو إراديّ وأن نُوَفّيَ الإرادةَ حقّها في هذا الموضوع، فإن كان الشيء غير الإراديّ قد مُنَّ به علينا وَهْبًا خارجَ إرادتنا ودون طلبٍ أو رغبةٍ منّا فلا بدّ لنا من مقابلة ذلك بالشكر والحمد، والتعبير عن شعورنا بالمنّة والامتنان، والتحدث بنعمِ ذي الجودِ والإحسان.
إن فرح السائحون في أفق الروح كالأطفال بالهِباتِ والنعم الإلهية ونسوا في خضمّ ذلك صاحبَها فإنهم حينئذٍ يرسبون في الامتحان.
إن الإلهام والكشف واستقراء ما في نفس الإنسان والإحساسَ بالحوادث قبل وقوعها والانفتاحَ في الرُّؤَى على عوالم مختلفة… كل هذه الأحوال والمقامات ليست أساسًا أو هدفًا يُبتغى؛ فنحنُ نسلكُ طريقَ الصحابة رضوان الله عليهم، فهم الذين لم يلتفتوا إلى هذه النوعية من الخوارق التي قد تجد النفسُ الأمّارةُ إليها سبيلًا، ولم يُلْقُوا لها بالًا؛ وإنّهم إذ أجرى الله على يدِ بعضهم بعضَ الكرامات مثل الإحساس بالشيء قبل وقوعِهِ، وإجراء الحقّ على لسانهم؛ إلا أنهم لم ينشدوا الكشف والكرامات قطّ؛ فلم يتغيَّوا سوى غاية يتيمة؛ ألَا وهي الحصول على الرضا الإلهيّ؛ ولذا فإنه يجب علينا نحن كذلك أن نتحرّك في هذا الفلك، فإن حظينا نحن أيضًا ببعضٍ من الهبات والواردات دون أن نطلبها وجب علينا أن نقابلها بقولنا: “إلهي! نعمةٌ لم أكنْ أنا الحقيرُ أهلًا لها، فما سرُّ هذا اللطفِ والإحسان؟!”، وأن نخافَ كونَها نوعًا من “الاستدراج”، وأن ترتعِش فرائصُنا خوفًا ووجلًا، وربما ينبغي لنا أن نقول عقب ذلك: “ربي! كنتُ أريد أن أُحبّك أنت فحسب حبًّا ولِهًا، وإنّي لأطلبنَّ لقاءَك مثل المجذوب، فإن كنتَ منحتَني هذه الأمورَ لتبعثَ فيَّ الشوقَ والغيرةَ فلكَ الحمدُ والشكرُ والثناءُ الحسنُ ألفَ مرّةٍ ومرّة! غيرَ أنني لا أطلب شيئًا آخر سوى رضاك”.
[1] انظر: سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب العشرون، المقدمة، ص 271.