سؤال: إذا تأملنا واقعَنا في ضوء “تكرُّر الأحداث التاريخية” فهل سيعرِض لنا مثلُ ما عرَضَ لرسولنا صلى الله عليه وسلم من هجرة واختباء في الغار وما إلى ذلك؟
الجواب: بدايةً لا بدَّ أن ننوِّهَ بشيء: كأن الله جلّ جلاله عَرَضَ كلَّ ما سيحدث إلى يوم القيامة بشكلٍ مصغّرٍ في عصر السعادة، فلو رجعت الأمة المحمديّة إلى هذا العصر لَعثرتْ على سبلٍ لحلِّ المستجدّات المتنامية والظروف المتغيّرة والنوازل؛ والحقيقة أنَّ موسوعات اجتهادات السلف الصالح تُعَدّ بشكلٍ ما تكثيرًا واستنساخًا لميكروفيلمات ذلك العصر.
لا بدّ من رسم خططٍ دائمة لتبليغ حقائق الدين حتى إلى أعداء الله ورسوله الذين يعادون من يخدمون الدين.
وثمة أمرٌ آخر من المفيد أن نوضحه: إن الحوادث التاريخية لا تتكرّر عينها، بل مثلها؛ ومن هنا يمكن القول: إنّ الماديين الذين ينتظرون أن تتكرّر الحوادث الغابرة عينها يعيشون في وهم وانخداع خطير جدًّا؛ ولعلّ ما يخدعهم هو أن تلك الحوادث تبدو أحيانًا كأنها تتكرّر بعينها، وهذا في الحقيقة يُعَدُّ مِنْ خلط الشاخصِ بظلّه.
إذًا يمكن القول: إن أحداث الهجرة قد يقع ما يشبهها في فترةٍ أخرى؛ فنحن مثلًا نسير منذ القدم في دربٍ كَذَاك، فنحن في حياتنا الخاصّة مهاجرون دائمًا طالما اجتنبنا المحارم كافّةً كما في الحديث النبوي الشريف: “الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ”[1].
وكثير منّا يهاجرون فرادى أو مع أسرتهم وفق ما تقتضيه خدمتهم هجرةً تشبه الجهاد المادي؛ لا سيما أن انهيار الشيوعيّة في آسيا الوسطى أغذَّ السيرَ بالهجرة أكثر، ولهذه المسألة بُعدٌ آخر يتمثّل في الجهود المبذولة من أجل التعريف بقيم أمتنا في أوروبا وأمريكا وغيرها.
أريد هنا أن ألفت انتباهكم إلى قضية وهي: أن من شرط الهجرة أن تكون لله فحسب، وألّا تخالطها أية دعوى أو تشوّف دنيوي؛ وتحقّقُ أمرٍ كهذا رهنٌ بأمورٍ منها: سلامة جوانيّة المرء، واكتشافُه حقيقةَ نفسه، وقوةُ ارتباطه بالله، ومراقبته له سبحانه حيثما كان، وطاعته إياه، وذكره له على الدوام. نعم، أرى أن على الناس أن يطلبوا بمنازلهم ودورهم وبلادهم وأوطانهم -إن كانوا لا محالة تاركيها- ثمنًا غاليًا جدًّا، وذلك بتحمّلهم هذه التضحيات في سبيل غايات سامية، وأهداف عظيمة جدًّا، وقد أشار الله تعالى وكذا رسولُه الكريم صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغايات وتلك الأهداف؛ وهي: الله وجنته وجماله ورضاه وشفاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.
أحد الصحابة الكرام خسر في زمنٍ هو أدعى للكسب رغم أنه تحمّل كسائرِ الصحابةِ المشقةَ نفسها والصعوبة عينها؛ ذلك أنه لم يُخلِص النية، ولم يحسنْ ضبط توازن قلبه على نحو ما سبق؛ وقال صلى الله عليه وسلم في هذا الصحابي المهاجر من مكة إلى المدينة من أجل امرأة: “مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ[2]” أي إنه عجز عن أن يسمو إلى مرتبة “المهاجر إلى الله ورسوله”، ومن هنا أيضًا يمكن القول: إن الأهم بإطلاق هو: توازن القلب ومراقبة الذات والمحاسبة وإخلاص النية.
أجل، إن الصحابة الكرام لم يُمنَّوا قطّ بأيّ شيءٍ نحو: “إن تحمّلْتُم تلك التضحيات العظيمة فسيكون لهجرتكم كذا وكذا من النتائج: ستتحدَّوْن العالم في عقد واحد، وستنتشرون في كذا وكذا من العالم وتصبحون ولاةً وحكامًا وإداريين…”؛ بل حُدِّد لهم الهدف فحسب، وأُمروا أن “يهاجروا إلى المدينة” وقد هاجروا رغم كلّ شيء؛ ثَبَتَ بهذا إذًا أنّ مصدر هذه القضية هو انضباط جوّانية حَمَلَتِها إلى الحياة، وقوةِ صلتهم بالله تعالى؛ وهذا الضرب من الناس يقولكما قال الشاعر الربّاني “يونس أمره”:
لفحةٌ من جلالٍ زلزلَ أو نفحةٌ من جمالٍ نزلَ
في هذا وذا للروح صفَاء فمنك اللطف والقهر سَوَاء
وذلك دون الشعور بأي ضربٍ من التردد، أو الوقوع في أي نوع من الشبهات.
إن الحوادث التاريخية لا تتكرّر عينها، بل مثلها؛ ومن هنا يمكن القول: إنّ الماديين الذين ينتظرون أن تتكرّر الحوادث الغابرة عينها يعيشون في وهم وانخداع خطير جدًّ.
وقد أسبغ الله تعالى علينا ثوب الهجرة كرّةً أخرى اليوم، فله تعالى على هذه النعمة التي قدّرها لنا ما لا يُحصَى مِن الحمد والثناء، وإذا كان الأمر كذلك فعلى من تسربلوا ثوبًا كهذا أن يضبطوا جوانيتهم جيّدًا إن كانوا يرجون ألا تذهبَ أعمالهم سُدًى.
ورد في السؤال ذكر الغار. أجل، إننا أفرادًا ومجتمعات نعيش اليوم هجرةً كتلك، وحياةً أشبه بحياة الغار يومئذٍ؛ إنهم ما كانوا بالأمس يتركون أي إنسان قطّ، وما كان لِيفلح أو ينجو منهم من يَظهر على الساحة ويجهر بمبادئ الإسلام، كان هذا بالأمس، واليوم أيضًا وإن بدا أنه أخفّ؛ كانوا يطاردونه سنين عددًا أيًّا كانت سنُّه أو حالته وكأنه أحد قطّاع الطرق، بل يحكمون عليه دون أن يأذنوا له بالتعبير عن أفكار تخدم الأمة والوطن والدين، فهذه الأمور تُعَدُّ مظاهرَ لحياة الغار مِنْ وجهٍ آخَر.
عَرَضَ الله كلَّ ما سيحدث إلى يوم القيامة بشكلٍ مصغّرٍ في عصر السعادة، فلو رجعت الأمة المحمديّة إلى هذا العصر لَعثرتْ على سبلٍ لحلِّ المستجدّات المتنامية والظروف المتغيّرة والنوازل.
وختامًا نشير إلى وجهٍ آخر للمسألة: على كلِّ الرَّاغبين في خدمة هذه الأمة أن يعدّوا خططًا طويلة المدى، ويستعدوا من الآن لتحمل المسؤوليات والأعباء الثقيلة التي ستُلقى على عواتقهم في المستقبل؛ فلا بدّ من رسم خططٍ دائمة لتبليغ حقائق الدين حتى إلى أعداء الله ورسوله الذين يعادون من يخدمون الدين، بل يفعلون ما هو أكثر من العداء؛ إذ يريدون الحجر على حياة هؤلاء الدعاة وشلَّ حركتِهم. نعم، من الناس من يرى هذه الأمور سلبية صِرفًا، وأنا أرى خلاف ذلك، فإن هذه الخدمات خالدةٌ واعدة بمستقبل مشرقٍ لأمتنا؛ لذا عُدَّ هؤلاء إيجابيين وفعَّالين مطلقًا.
أجل، لقد انصرم الأمس… وأوشك اليوم أن ينقضي… أما الغد، فلا ندري سنُبَلَّغُه أم لا؛ لذا علينا أن نعدّ لحظتنا هذه هي عمرنا الحقيقي، ونستثمرها ولا نضيعها.
[1] صحيح البخاري، الإيمان، 4؛ سنن أبي داود: الجهاد، 2.
[2] صحيح البخاري، بدء الوحي، 1، النكاح، 5؛ صحيح مسلم، الإمارة، 155.