Reader Mode

إن الخدمات التي تتمّ في سبيل الله تعالى يجب أن يكون القول والعمل فيها صحيحًا قويمًا، وأن تكون الأدوات والوسائل المستخدمة في طريق الوصول إلى رضا الله تعالى مشروعة مباحة أيضًا، بمعنى أن كل مشروع ينبغي أن يكون موافقًا للمبادئ الأساسية للدين، وأن يكون موافقًا للأوامر القرآنية وللبيان النبوي الشريف، ولا يشوبه ما يخالفه، كذلك يجب أن تضع تلك الخدمات نصب أعينها حاجات الناس، وملء الفراغات الموجودة في المجتمع.

إن الحق سبحانه وتعالى قد ربط توفيقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتفاهم والتوافق والترابط فيما بينهم.

ولا شك في أن كلّ أمرٍ من الأمور التي ذكرناها يُعَدُّ مبادئَ أساسية لا غنى عنها للسائرين في طريق إعلاء كلمة الله، ولكي تكون الخدمات التي تتم في سبيل الله مثمرة، فيجب الاهتمام البالغ بمسألة المحافظة على الوفاق والاتفاق داخل المجتمع؛ لأن التوفيق الإلهي يأتي وفقًا للوفاق والاتفاق، وأهم عامل للمحافظة على الوفاق والاتفاق هو عدم تلوّث الأعمال والخدمات بفكرة الأنانية الجماعية.

الابتعاد عن فكرة الأنانية الجماعية

لو أردنا إيضاح هذه المسألة أكثر لوجدنا أنه بجانب ضرورة موافقة الأقوال والأعمال لما أمر به الله ورسوله، فكذلك يجب تخليصها من فكرة الأنانية الجماعية، فأحيانًا تجد الإنسان يتحدث عن “الدين” و”التدين”؛ ولكن -دون وعي منه- يشير بكلامه إلى نفسه أو إلى المجموعة التي ينتسب إليها، ويظنّ أنه يقوم بوظيفة الإرشاد والتبليغ بينما هو يقدم طريقه ومنهجه هو، أو تجد شخصًا يتحدّث عن تطوير ونماء الدولة بينما هو في الحقيقة يوجه الأنظار إلى نفسه هو والثبات في موقعه الذي يشغله، وشخص آخر يتحدث عن ضرورة إعادة إحياء الروح والنهضة، يقول هذا ولكنه يربط كل هذا بما يقوم به من حملات وحركات.

وعلى سبيل الخطإ في الاجتهاد ينسب بعضهم هذه النجاحات وما يتبعها من جماليات تظهر للعيان إلى أشخاص معينين أو إلى مجموعة بعينها، وهذا يؤدي إلى تقوية الأنانية الجماعية.. إن البشر لديهم حسُّ المبالغة ولذلك فقد يُبالغون في التقدير والإطراء.. فتراهم يُغالون في الحديث عن شخص أو مجموعة بعينها أثناء كلامهم، فيرفعون مقامها بصورة مبالغ فيها.

إذا أردتم أن يحترم الناس قيمكم فعليكم ألا تحتقروا قيمهم، وعليكم ألا تنسوا أن الشيء الذي تنتظرونه من الآخرين هو نفس الشيء الذي ينتظره الآخرون منكم.

وإلى حد معين يمكن أن نعتبر مثل هذه الأطوار والتصرفات أخطاء في الاجتهاد ونلتمس العذر لأصحاب هذه الأفعال؛ لكن هذه الأمور جميعها يجب ألا تبعدنا عن التفكير المستقيم، وألا تحيد بنا عن مدارنا الصحيح أثناء قيامنا بأعمالنا، ولو أننا توجهنا إلى التقدير والثناء وربطنا هذه الأعمال بأشخاص معينين ونسبناها إليهم، فحينها نكون قضينا على الوفاق والاتفاق، وانصرف الناس من حولنا.. فبينما نحاول إيضاح الحق والحقيقة،  وإذ بنا نقصرُه على محور واحد فقط، وبدون أن نشعر نتحرك ويكأن جميع مجالات الخدمة هي ملكية خاصة بنا.

من أجل المحافظة على السلام الاجتماعي

إن ما يقوي الخدمة الإيمانية والقرآنية لا سيما في يومنا الحاضر هو وجود حالة من الوفاق والاتفاق بين أطياف المجتمع، ومن أجل الوصول إلى الوفاق والاتفاق لا بد من بذل كل الجهود، وأخذ جميع التدابير للمحافظة عليه، فمثلًا وكما يقول الشيخ سعيد النورسي: “إن كان الاتفاق في الحق اختلافًا في الأحق، يكون الحق أحيانًا أحق من الأحق، والحسن أحسن من الأحسن”[1]. أجل، إن كنا نختلف على “الأحسن” فحينها يجب علينا الاكتفاء بـ”الحسن”، تمامًا كما فعل حفيد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقصد هنا سيدنا الحسن رضي الله عنه صاحب البصيرة النافذة.

على سبيل الخطإ في الاجتهاد ينسب بعضهم هذه النجاحات وما يتبعها من جماليات تظهر للعيان إلى أشخاص معينين أو إلى مجموعة بعينها، وهذا يؤدي إلى تقوية الأنانية الجماعية.

وكما هو معروف فسيدنا الحسن رضي الله عنه عندما اختلفت فئتان عظيمتان من المسلمين، قرر التنازل عن الخلافة لصالح سيدنا معاوية رضي الله عنه تجنبًا لوقوع فتنة كبيرة، وإلى هذا أشار رسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ[2]، فقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بتصرف سيدنا الحسن رضي الله عنه ومدحه قبل وقوع ذلك بكثير، وما نراه هنا هو أن الإمام الحسن رضي الله عنه قد اكتفى بالخيار “الحسن” على “الأحسن” درءًا لوقوع فتنة عظيمة بين المسلمين، فالخَيار الحسن الذي يضمن الاتفاق يُكسب جمالًا يفوق جمال الخيار الأحسن في بعض الأحيان.

ومن هذا المنطلق فالواجب علينا الابتعاد عن كل الألفاظ التي قد تُفسِد أو تعكّر صفو الوفاق والاتفاق، وينبغي الابتعاد عن كل ما يُفهَم منه فكرة الأنانية الجماعية التي تثير مشاعر المنازعة.. دع عنك إثارة مشاعر المنازعة، بل وحتى يجب علينا ألا نفتح باب التنافس المشروع لأن كلًّا من المنازعة والتنافس يفصل بينهما خط رفيع وبالتالي قد يتداخلا.

وفي الظروف العادية لا حرج من التفكير في “أن الآخرين يسعون ويسارعون في سبيل الله تعالى، فلماذا نحن نقف ساكنين؟! فلنسارع معهم”، دع عنك الحرج جانبًا بل القرآن الكريم يحضّ على التنافس قائلًا: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (سورة الْمُطَفِّفِينَ: 83/26).

يجب أن تضع الخدمات التي تتم في سبيل الله نصب أعينها حاجات الناس، وملء الفراغات الموجودة في المجتمع.

إلا أن بعض الذين ينطلقون بفكرة التنافس قد يقع في أذهانهم بمرور الزمن ملاحظات شيطانية مثل: “إن العمل في هذا المجال هو حقٌّ مكتسَبٌ لنا، لماذا الفلانيون والعلانيون موجودون في مجالاتنا وتخصّصاتنا دون أن يخبرونا أو يستأذنوا منا؟! لماذا هؤلاء الأشخاص يسارعون ويدخلون في مجالاتنا؟!”، وبالطبع فهذه الأفكار ستؤثر سلبًا على روح الاتحاد، وإن كان هناك البعض يتصرفون بفكرة الأنانية الجماعية فسيتسبب هذا في تحرك الآخرين بنفس الأفكار والمشاعر.

الانتباه إلى مشاعر الآخرين!

قد يتجمع الناس حول المشاريع التي يرونها معقولة، ويوقنون أنها ذات فائدة للبشر، ومتوافقة مع روح الدين، وقد يهبون أنفسهم لبعض الأعمال الخدمية؛ ولكن أثناء سعيهم الحثيث لتحقيق ما يرونه صوابًا، عليهم مراعاة مشاعر الآخرين وقراءة أفكارهم بصورة صحيحة ووضعها في الحسبان، بمعنى أن عليهم التعاطف مع الجميع، وعليهم أن ينتبهوا ويحسبوا في كل خطوة يخطونها كيف يمكن أن تؤثر هذه الخطوة في مشاعر وأفكار الآخرين.

إن الخدمات التي تتمّ في سبيل الله تعالى يجب أن يكون القول والعمل فيها صحيحًا قويمًا، وأن تكون الأدوات والوسائل المستخدمة في طريق الوصول إلى رضا الله تعالى مشروعة مباحة أيضًا.

للجميع قيم يحترمونها، وإذا أردتم أن يحترم الناس قيمكم فعليكم ألا تحتقروا قيمهم، وعليكم ألا تنسوا أن الشيء الذي تنتظرونه من الآخرين هو نفس الشيء الذي ينتظره الآخرون منكم، وعليكم أن تقرؤوا مشاعر الآخرين بصورة صحيحة من خلال التعاطف الحقيقي، وأن تضبطوا تصرفاتكم وفقًا لذلك.

وإلا أصبحت الأفعال الحسنة التي تنوون فعلها، تنعكس بنتيجة سلبية تمامًا على خلاف ما تتوقعون، بل إن أكثر التصرفات براءة وأكثر الألفاظ جمالًا قد تفتح بابًا من النفور، ولو أن هذه الأعمال الخدمية تمت بفكرة الأنانية الجماعية وربطت بها، فبدلًا من أن ينظر الناس إلى العمل فستتوجه أنظارهم ناحية من قام بهذا العمل وسيقولون: “الفلانيون يقومون بهذا العمل، لماذا لا نقوم نحن بعمل مشابه؟ هؤلاء لهم جماعة، فلماذا نحن ليس لدينا جماعة؟!”، وتكون النتيجة هي ضعف الوفاق والاتفاق في المجتمع وبالتالي انقطاع التوفيق الإلهي.

إن الحق سبحانه وتعالى قد ربط توفيقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتفاهم والتوافق والترابط فيما بينهم، وحينما تتفرق الأمة وتقع في حالة من الشتات فحينها يرفع الله رعايته وعنايته عنهم، ولا يكون لهم وكيلًا، بينما القرآن يقول: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/45).


[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، نوى الحقائق، ص 579.

[2] صحيح البخاري، الصلح، 9.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts