سؤال: ساق الله خِدمات عظيمةً جدًّا لمن نذروا أنفسهم للدين في عصرنا، لكن قد يسوقهم عِظم شأن هذه الخدمات إلى الغرور ، أو التشوف لشيء من الأجر، فبم تنصحون وما هو الواجب فعله في كيفية التعامل مع هذه المرحلة؟
الجواب: ثمة حقيقة أشار إليها مَن سنّ طريق الخدمة في هذا العصر للذين نذروا أنفسهم لها بقوله: “إنما نمهد السبيل لأولئك الكرام النورانيين”[1]؛ فأرى بدايةً أن الصواب الالتفات إلى هذه الحقيقة؛ والأجدى والأنفع أن نتذكّر أمرًا آخر، وننظر إلى المسألة من خلاله. أجل، إن التمسك بهذه الدعوة العُلْوية والغاية المثالية السامية يتمثل في مراعاة حالها في الحاضر والمستقبل، والولوج إلى نفوس أكثر الناس فظاظة وقسوة وتمردًا وجفاءً وإلحادًا، والاهتمام بهم لتبليغهم إياها، ومكابدة المشقة في تحقيق ذلك. أجل، إن هذه المكابدة تحملنا وتحلق بنا إلى جو التسامح، وترقى بنا إلى اللين، فالعفو والصفح ثمّ الرحمة، وإلى أكثر آفاق الإرشاد بركةً وفيضًا حتى يفوز الناس بالنجاة السرمدية.
خير لك وأقوَمُ أن تكون جنديًّا بسيطًا بباب الله دائمًا، وألا تنزلق إلى تشوفات شتّى.
وأبرز الأداوت والأساليب المستخدمة قديمًا في هذا النسيج القدسي الذي حاولنا نسجه حتى الآن هي التسامح واللين والعفو والرحمة، بيد أننا لم نستثمرها وفقًا لخطة معدَّة، بل اقتفينا طريقًا يسير وفقًا لمجريات الحوادث، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؛ وإن نهج الخدمة الذي يحيط بحياتنا إحاطة السوار بالمعصم قد يحمل للناس اليوم ولأجيال قادمة رسائلَ تنير لهم الطريق دون أن نقصد ذلك.
واليوم نشهد نفحات قدسية في خدمة أمتنا تنتثر من أفواه آلاف المتحدثين، فتَحُفُّ مناخَنا وتحصّنُ روحه؛ حتى إنّه لَتتحطم الموجات الضارة الشرسة، وتتهاوى الشهب، وتذوب تِباعًا؛ وطبَعي أن تسري على ما نحن بصدده قوانين الطبيعة، فهو كالبرعم ينمو ويتكوّن رويدًا رويدًا، ثم يأتي يوم تتلاحم فيه عُضَيّاته المترابطة؛ فتتّحد، وهكذا يتأسّس العمران المنشود في الأذهان.
“يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلةً: إنني خدمتُ الدين، فإن الحديث الشريف صريح بـ”إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ”.
أجل، إنّ الأوائل الذين تحمّلوا الشدائد وفّوا بِمَهمَّتهم الخاصة بالأمس وإنّهم اليوم أسلموا تلك الأمانة إلى مهندسي العصر وصُنَّاع الفكر، ثم رحلوا؛ وبينما تُختَارون لتشييد عمران اليوم وَفْقَ عالَمِيَّة بِنيتكم الروحية وفكرٍ وحركةٍ مصدرهما توجُّهاتكم العامّة أَرَاكم تُرْسُون دِعامات جسر يمتد إلى المستقبل، وستحمل الأجيال اللاحقة تلك الأمانة عنكم إلى محطة أخرى، فترى تلقائيًّا وهي تنقل هذه الأمانة دعاماتِ ذلك الجسر، وتقول: “ما وُضعت هذه الدعامات إلا لهذا الأمر”؛ وهذا كما كان يقال للصحابة والتابعين وتابعيهم في زمن الفتوحات: “فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيُفتح عليهم، ثم يأتي زمان، فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيُفتح، ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيُفتح”[2]؛ وأنتم أيضًا ستتبوّؤون مكانكم عند نقطة معينة، وسيُفتح عليكم بعون الله وفضله.
وفي جواب السؤال أؤكِّدُ أنّا لسنا ندري، فربما يُعمَّر هذا الجيل طويلًا، ويمثل تلك المهمة بخصائصها في المستقبل، ومردّ تحقيق هذا كلِّه إلى اللطف الإلهي ثم إلى سَعة صدوركم واستعداداتكم العامّة؛ فالتشوف للأجر هنا وبناء سلوكنا عليه خداعٌ محض، بل إنّ حديث النفس “أنا فعلت كذا، وقمت بكذا”، والتشوف لشيء من الأجر وإن صَغرَ لَيُقوِّضان ركنًا من القواعد التي نرفعها من أجل غاية عظمى في المستقبل، حتى إن التشوف للأجر ربما يشدخ أرواحنا بمرور الزمن، وقد يحملنا على الأنانية والغرور أيضًا. نعم، قد يُحسَن الظن بنا ونُكلَّف ببعض المهامّ، لكن لا ينبغي لأحد قط أن يستشرف لمثل هذا التشوّف أو أن يخطر بباله، فتسلل فكرة كتلك إلى عقله خطوة خاطئة، فإن لم يُنِبْ ويتُبْ فَسَيَقَرُّ في قلبه هذا المعنى يومًا فيومًا، وتَتَتَابَعُ الخطوات الخاطئة، فيأتي يوم يطأطئُ فيه رأسه؛ لأنه خسر في وقتٍ هو أدعى للكسب، وسيخسر حقًّا، وإن مفكر عصرنا الكبير ورائد الإخلاص اليوم قد تصرّف بحذر عُجاب في هذا، وأشار إشارةً رائعةً إلى لطافته هذه فقال: “لقد أُقرئتُ كُتُبًا دون أن أعرف… قد وُجِّهتُ إلى القرآن دون أن أعرف… لقد سُخِّرتُ لخدمة ديني دون أن أدري…”[3].
أجل، أن نكون أفرادًا عاديين في هذا الأمر أثمنُ شيء عندنا، فخير لك وأقوَمُ أن تكون جنديًّا بسيطًا بباب الله دائمًا، وألا تنزلق إلى تشوفات شتّى، فقد يُكلَّفُ جنديّ بما يقوم به المشير أحيانًا، وهذا شأنٌ من شؤون علمه هو سبحانه وتعالى، ولا شأن لنا به قطعًا، أليس هذا ما قاله بديع الزمان: “النفس أدنى من كل شيء، والوظيفة أسمى من كل شيء”[4]، “يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلةً: إنني خدمتُ الدين، فإن الحديث الشريف صريح بـ”إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ”[5]، فعليكِ أن تعدّي نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لأنكِ غيرُ مزكّاة”[6]؛ “لا تَرَي نفسَك مظهرًا لتلك المحاسن وتلك الطيبات؛ فيا نفسي لا تقولي: “إنني مَظهر الجمال، فالذي يحوز الجمال يكون جميلًا!”، كلّا إنك لم تتمثّلي الجمال تمثّلًا تامًّا؛ فلن تكوني مَظهرًا له بل مَمَرًّا فحسب، يمرّ بك الجمال ثم يزول عنك ولا يقرّ فيك”[7].
“النفس أدنى من كل شيء، والوظيفة أسمى من كل شيء”.
إنّ حَبابَ الماء يستقبل انعكاس أشعّة الشمس، هبْ أنه لم تكن شمس فماذا سيستقبل؟ إذًا كلُّ هذه الجماليات من جمال الجميل سبحانه وتعالى. أجل، فهذه الإشارات مهمّة جدًّا، وبقدر عظمة ما يحمّلنا الله سبحانه من مهمّات ووظائف يزداد تواضعنا ونكون أبعد عن التشوفات والمزاعم، هذا ما ينبغي؛ فالسلامة في الدارين مرجعها سلامة القلب فحسب:
“أيــــــــــــــــــــــــها الحاجّ لا تذهبنّ بك الظنون
فــــــــــــــــــــــــــــــلا فـضـةً ولا ذهـبًا منك يـطــلبــون
بل قلبًا سليمًا ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/88)”
يا لها من كلماتٍ بديعة تشير إلى هذه الحقيقة!
أجل، لا بد أن تُنقش تلك الحقيقة في أرواحنا، وعلينا -كأُناسٍ عاديين- ألا نخوض غمرة التشوّفات الزائدة عن الحدّ لا باسم الجماعة ولا باسمنا، ولنحرص على أن تكون خاتمتنا في أجواء تلك المبادئ.
[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون، المسألة السابعة التي هي الرسالة السابعة، السبب الخامس، ص 451.
[2] صحيح البخاري، الجهاد والسِّيَر، 75؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 208-209.
[3]- بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون، المسألة السابعة التي هي الرسالة السابعة، السبب السابع، ص 451.
[4] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: سيرة ذاتية، فترة آفيون، ص 448.
[5]صحيح البخاري، الجهاد، 182، القدَر، 5؛ صحيح مسلم، الإيمان، 178.
[6] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: الكلمات، الكلمة السادسة والعشرون، الخاتمة، ص 543.
[7] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: الكلمات، الكلمة الثامنة عشرة، المقام الأول، الملاحظة، ص 248.