القرب لدى الصوفيين: تقرّب الإنسان إلى الله سبحانه بتخطيه قيود الجسمانية متحولاً إلى الماورائية. ورغم أن هناك من فهموا القرب أنه قرب الله لعباده، إلاّ أنه لا يُستحسن وغير لائق، لما فيه من إشمام لمعاني إضافة المكان والمسافة إليه تعالى. مع أن قرب الحق تعالى لعباده هو فوق “الكينونة” و”الصيرورة”. فالقرب الحاصل بعد أن لم يكن موجوداً، هو من خصائص الذين أُوجِدوا بعدئذ (أي بعد الخلق) والذين يقضون وجودهم في تكونات متنوعة. هذان القربان يبيّنه الكلام النوراني الوجيز في قوله تعالى: ]وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ[ (الحديد:4). فمثل هذا القرب ليس هو القرب الخاص الذي يحصل بالإيمان والعمل الصالح، بل هو قربية عمومية تضم تحت أجنحتها كل شيء، من الذرات إلى المجرات؛ السعيد والشقي، والطيب والخبيث، والصالح والطالح، والأحياء والأموات.
للقرب درجات حسب عوام المؤمنين، والأولياء، والأصفياء، والأبرار، والمقربين، فالبُعد كذلك فيه دركات، والدرك الذي هو الهلاك المطلق يشغله الشيطان.
نعم، إن القرب العمومي الذي يضم كل الناس تحت مظلته، يقابله القرب الخصوصي الذي يستند إلى الإيمان ويتحقق بمعايشة واتباع أحسن ما أمر الله سبحانه به. وهذا يحصل للمحظوظين الذين وجدوا طريق القرب ودخلوا الرواق المؤدي إلى الخلود، فيُصبحون ويُمسون بعمق جديد يومياً ويجولون في أفق ]إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ[ (النحل:128). فالذين حازوا هذه المرتبة يتنفسون القربة، إذ يقولون عند شهيقهم ]إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَـيَهْدِينِ[ (الشعراء:62) وعنـد زفيرهم ]إِنَّ اللهَ مَعَنَا[ (التوبة:40).
إن ما في القرب الخصوصي من شعور الإيمان وحقيقة الإحسان، كالنور في البصر، والروح في الجسد. أما أداء الفرائض والنوافل بالاستناد إلى هذين الأساسين فهو بمثابة جناحين شرعا إلى سماء اللامتناهي. نعم، إن أسلم طريق يقرّب الإنسان إلى الله سبحانه وأقصره وأكثره قبولاً هو طريق أداء الفرائض. أما المحبوبية الحقيقية وبدورها القربة، فإنما تتحقق في إقليم النوافل اللامتناهي الذي يفوح بالوفاء. إذ يجد سالك الحق نفسه كل آن تحت جناح نافلة أخرى في رواق جديد ممتد إلى الخلود، ويستشعر أنه بلغ حظوة جديدة، فيصل إلى حالة أكثر شهية لأداء الفرائض وأكثر شوقاً نحو النوافل.
المحبوبية الحقيقية وبدورها القربة، إنما تتحقق في إقليم النوافل اللامتناهي الذي يفوح بالوفاء.
فكل من تنبهت روحه إلى هذه النقطة وانتهى إلى هذا المعنى، يشعر في وجدانه أنه محبوب عند الله، بمدى حبّه لله، وإذا بسمعه وبصره وبطشه ومشيه يجري في دائرة “المشيئة الخاصة” مباشرة، كما ورد في حديث قدسي.
وبتعبير آخر: إن “القربة” بالفرائض عنوان آخر لبلوغ الإنسان مقام المحبوبية، ووجوده بين أحبّاء الله المرضيين عنهم. أما “القربة” بالنوافل، فهي مقام إضافة حركات الإنسان وسلوكه إلى ذات الحق سبحانه، فهو مقام تكريم وتشريف خاص لكل أحد في ظل قوله تعالى: ]فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى[ (الأنفال:17).
وإن إيضاح القربة التي هي توجّه خاص، بأفعال الإنسان وسلوكه متغاضياً عن نقطة التوجه خطأ كذلك. فالقرب شأن من شؤون سموّه وعلوّه تعالى، وبُعدٌ من أبعاد رحمته الواسعة. أما البُعد فهو يخصنا وثغرة في ماهيتنا. وما أجمل ما يشير صاحب كلستان إليه: القرب لمن والبعد لمن ؟
دُوسْت نَزْدِيكْتَر اَزْ مَنْ بَمَنْ استْ
وِينْ عَجَبْتَر كِه مَن اَزْ وَيْ دُورَم
چِكُنَم بَا كِه تَوَان گُفْت كِه اُو
دَر كَنَارِ مَن وُ مَن مَهْجُورَم
أي: “الحبيب أقرب إليّ مني، والعجب أني بعيد عنه، فما حيلتي وماذا يمكنني أن أقول: فالحبيب معي وبجنبي، ولكني بعيد عنه”.
إن أسلم طريق يقرّب الإنسان إلى الله سبحانه وأقصره وأكثره قبولاً هو طريق أداء الفرائض.
البُعد، يعني التنائي والهلاك، والمتصوفون يرون أنه: انقطاع فيوضات الحق سبحانه والابتعاد عن الله من حيث المبدأ، وخذلان وحرمان من حيث النتيجة إن لم تكن هناك عناية خاصة. وأكّدوا أنه ينبغي الاقشعرار والرعدة منه.
وكما أن للقرب درجات حسب عوام المؤمنين، والأولياء، والأصفياء، والأبرار، والمقربين، فالبُعد كذلك فيه دركات، والدرك الذي هو الهلاك المطلق يشغله الشيطان.
القرب توجّه والبعد حرمان، فهذا شيء أما الحدس بهما فهو شيءٌ آخر. وأحياناً عدم الشعور بالإكرام هو أعظم إكرام، فلا يدرك أقرب المقربين مدى قربيته. وأحياناً يكون المكر تاماً فلا تُحدس ظلمات البُعد، وأحياناً يتغلب حال السُكر فلا يميَّز القرب من البعد. ولهذا لا يشاهد في أمثال هؤلاء شوقٌ إلى القرب ولا خشيةٌ من البعد. و يعبّر “جامي” عن فكر الأرواح النشاوى الثملة.
القرب لدى الصوفيين: تقرّب الإنسان إلى الله سبحانه بتخطيه قيود الجسمانية متحولاً إلى الماورائية.
جَامِي مَكُنْ اَنْدِيشَه نَزْدِيكِي وَدُورِي
لاَ قُرْبَ وَلاَ بُعْدَ وَلاَ وَصْلَ وَلاَ بَيْنَ
أي: “لا تقع في قلق البعد والقرب يا جامي! فليس في الحقيقة بعدٌ ولا قربٌ ولا وصال ولا افتراق”.
إنه من المسلّم به أن للبعد والحرمان رِعْدةً تعتري المبعدين والمحرومين، ولكن هناك أصحاب أرواح يرتعشون أمام مهابة نفحات القرب ارتعاشاً حتى يحسبون أنفسهم – في تلك الحالة الروحية – أنهم في قبضة القهر والتدمير. وقد قيل بهذا المعنى: ” قرب السلطان نار تحرق”. ومع كل هذا إذا شُبّه القرب بربوع الجنة المتفتحة للنفحات الإلهية ونسمات الأنس، يكون البُعد وديـاناً للحرمان والخـذلان.
اللّهم إني أسالك رضاك وما قرّب إليه من قول وعمل. وصلّ وسلّم على سيدنا محمد سيد المقرّبين وعلى آله وأصحابه المخلَصين.