Reader Mode

سؤال: جاء في حديثٍ شريفٍ أن هناك عينين لا تمسّهما النار ؛ أحدهما عينٌ باتت تحرس في سبيل اللّه، فكيف يمكننا أن نفهم معنى هذه الأعين الساهرة التي أشار إليها الحديث الشريف في ظلّ ظروفنا الراهنة؟

الجواب: الأعينُ الساهرةُ لغةً هي الأعينُ التي تظلُّ متيقّظة على الدوام ولا تعرف طعمَ النوم.. ويُطلق هذا اللفظُ اصطلاحًا على الأبطال الذين يرابطون على ثغور الدولة وهم في كامل اليقظة والانتباه؛ حتى لا يتسلل أيُّ خطرٍ إلى الداخل؛ إنهم الذين يرابطون حتى الصباح دون أن يغمَض لهم جَفنٌ، وحالهم يقول: اللهم إنا نستعيذ بك من أن يلحق الضررُ بدولتنا وجيلنا ونفسنا ومستقبلنا وأرضنا ولوائنا، وسائر ما لنا”.. ولقد بشّر النبي صلوات ربي وسلامه عليه هذه الأعين الساهرة بقوله كما ورد بالسؤال: “عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ[1].

الخطر الكامن في الداخل والكشف المبكر عن هويته

والحقُّ أن ذلك البيان النبوي يُعدّ بمثابة مكافأة وعطيّة لذلك الإنسان الذي كان يُرابط على حدود دولته في ظلّ الظروف آنذاك. أجل، لقد كان هؤلاء يبيتون على الثغور دون أن يغمض لهم جفن في سبيل حماية دولتهم ودينهم؛ كي يكونوا محلًّا لهذا الثناء والمدح النبوي، غير أن المخاطر التي تُحدِّق بديننا وشبابنا ودولتنا وغايتنا العظمى اليوم قد اكتسبت بُعدًا آخر، فثمة مخاطر وتهديدات تسربت إلينا كما يتسلّل الجاسوسُ وأخذت تعيش بيننا.

الأعين الساهرة: هم الأبطال الذين يرابطون على ثغور الدولة وهم في كامل اليقظة والانتباه.

أجل، لقد وضعَ أعداؤنا برامج وخططًا بديلةً لهدم ديننا وقيمِنا التي ورثناها عن الماضي، وسرّبوها إلينا تحت غطاء النفاق؛ حتى كدنا نترقّب كثيرًا من التخريبات والتدميرات الخطيرة ونخمّن وقوعَها في كلِّ آن.

ويمكن أن نُدرج في قائمة الأعين الساهرة هؤلاء الذين يشعرون بالهم والقلق إزاء هذه الأخطار، والذين يدعون ربهم في أنين وتأوّه قائلين: “اللهم إنا نستعيذ بك من أن تُنتهك حرمة دولتنا وغايتنا وأمتنا وديننا وتديّننا”، والذين يبيتون في تيقُّظٍ دائمٍ ولا يغمض لهم جفنٌ حتى لا ينهدم صرحُ روحنا من جديد.

ونظرًا لأن هذه الأعين تظلّ دائمًا في حيطة وحذر؛ فإن بصرَها الثاقبَ يقعُ على الخطر مبكّرًا، وتحاول أن تتصدّى له، فلا يقيمون سورًا واحدًا كتلك القلاع القديمة، بل عديدًا من الأسوار التي من شأنها أن تشلّ حركة أيِّ خطرٍ قادم.

لقد وضعَ أعداؤنا برامج وخططًا بديلةً لهدم ديننا وقيمِنا التي ورثناها عن الماضي، وسرّبوها إلينا تحت غطاء النفاق؛ حتى كدنا نترقّب كثيرًا من التخريبات والتدميرات الخطيرة.

أجل، إنهم يُقيمون أسوارًا ضد هذه المخاطر؛ حتى إذا ما همّ المعتدون بتدمير أحدها فوجئوا بسورٍ آخر، فإن أتوا عليه أيضًا وُوجِهوا بسورٍ ثالث، وهكذا حتى يصلوا إلى سورٍ منيعٍ لا يمكن اقتحامه حينذاك.

العيون النائمة والمجتمع المُسيَّس

وأستعيذُ بالله من الطعن والتشنيع بالآباء والأجداد؛ لأن نبيَّنا صلوات ربي وسلامه عليه قد أوصانا بذكرِ محاسن موتانا والكفّ عن مساويهم[2]؛ ولذا علينا أن نعمل على ذكر محاسنهم قدر المستطاع، ومع ذلك لا أستطيع أن أنتقل من هذه النقطة دون أن أنوّه بحقيقة مهمّة، وهي أننا انزوينا على أنفسنا فترةً ما؛ فتسلّم غيرُنا زمامَ أمرِنا، ولما استسلمنا للنوم والغفلة والاستكانة بسطَ الآخرون سلطانَهم ونفوذَهم علينا.. نعم، إننا لم نضع برامج وخططًا للانفتاح على العالم فليس ثمة خطة واحدة طويلة الأجل لهؤلاء المدّعين الذين يترنمون بالملاحم الحماسية لأمتنا!

الهمّ الأكبر: هو انشغال الإنسان بمشاكل البشرية جمعاء، والبحث عن حلول لها، وفتح قلبه وصدره للإنسانية بأسرها.

لقد استسلمْنا في هذه الفترة، وانزوينا عن العالم متّجهين نحو الدعة والخمول؛ ما أصابنا بشللٍ في انفعالاتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا الحماسية الحقيقية.. فلو أدركنا هذه المخاطر في وقتٍ مبكّر، وكنّا أصحابَ أعين ساهرة، وأخضعْنا كلَّ شيء للتجديدِ مرة أخرى لاتّخذنا التدابير اللازمة، ووضعنا أسوارًا أمام هذه المخاطر التي تتسلّل إلينا، ولو كنا فعلْنا ذلك لَما تعرّضْنا في النهاية لمثل هذه العاقبة الوخيمة.

أجل، لو أحسَنَّا قراءة ما حولنا والعالمِ الذي نعيش فيه؛ والأهم من ذلك لو أقمنا حواجز بديلة لدحر هذه المخاطر؛ لكان الوضع مختلفًا عمّا هو عليه الآن.

وبدهيّ أن خلايا الشرّ التي تُفكِّر في الشرّ وتخطّط له لا تكفّ أبدًا عن تصدير شرورها رغم ما نقوم به من مساعٍ لإيصال القيم التي انبثقت عن جذورنا الروحية والمعنوية إلى البشرية جمعاء، فالعالم في غليان كبير، حتى إن الناس في بعض الأماكن قد حاولوا الإطاحة بحكّامهم المستبدين، ولكن يجب ألا ننسى أنه لو شاع في المجتمعِ شيءٌ من التفسّخ والتشوّه فعلينا أن نضع في حسباننا السبلَ والمناهج التي تُمَكّننا من تصحيح هذه الأوضاع؛ فلا يمكننا إصلاح وتقويم الناس خلال لحظة واحدة، ولا جرم أن الأخذ بأيدي هؤلاء الذين ابتعدوا عن الدين فترةً مديدة وانغمسوا في الحياة العلمانية يحتاج إلى بعض الوقت؛ حتى يتسنى لهم أن يدرسوا أنفسهم دراسة صحيحة؛ ولذا فعلينا أن نعيد النظر في جميع البرامج والخطط الموضوعة من أجل الإصلاح؛ لا سيما إن كانت المسألة مسألةَ إيمان، وتربيةَ نَشءٍ يقوم على أرضيةٍ فكريّة وأخلاقية سليمة، فإن تعذّر علينا حلُّ هذه المشاكل أخذ الشيطان “مفستو”[3] يحيك مؤامراته مرة أخرى، وسقطت البشرية في حبائله كرّةً ثانية.

لقد انزوينا على أنفسنا فترةً ما؛ فتسلّم غيرُنا زمامَ أمرِنا، ولما استسلمنا للنوم والغفلة والاستكانة بسطَ الآخرون سلطانَهم ونفوذَهم علينا.

لا يتأتّى النظام من الفوضى والاضطراب

أجل، كثيرًا ما لا تُؤتي الثورات التي تقوم في مجتمعٍ ما أُكُلَهَا؛ إن لم يتمّ عملُ ما يلزم لها، ربما يضطلع الكثيرون بهذا الأمر بحسن نيّةٍ منهم، ولكن ليس بمقدورنا أن نجزم بالنتائج التي تسفر عنها هذه الأحداث العشوائية؛ ولذا تزداد مخاوفي وقلقي من هذه الحركات والأعمال التي تسيطر عليها العشوائية.. ولنرجع إلى موضوعنا الأصلي ونقول: إن هذا كله يرجع إلى غياب الوعي وعدم القدرة على استيعاب الأحداث، وتقييمها من غير رويّة.. من هنا فإن الأعين الساهرة في المجتمع هي تلك الأعين التي تفطن إلى كلِّ هذا مسبقًا، وتتخذ التدابير وفقًا لذلك..

إذًا فإن أهم وأوّل قضية لا بدّ من حلّها لإصلاح أيِّ مجتمعٍ: هي إقامة روح الإيمان لدى الفرد مجدّدًا، وإعادة صياغته مرة أخرى.. وبعبارةٍ أخرى: إن كان لا بدّ من تحقيقِ تغييرٍ حقيقيّ فلا بدّ من تناول المسألة بكلِّ جوانبها، فكما أن الجسدَ لا يستطيع أن يقوم بوظائفه على الوجه الأمثل إلا بوجود الحيوية في جميع أعضائه فكذلك إصلاح الحياة الاجتماعية يستلزم تناول هذه الحياة بكل جوانبها، فإن تجاهلتم ثغرة واحدة من الثغرات الواجب سدّها؛ هويتم على الأرض من فوركم دون وعيٍ أو شعور، وكأنَّ بكم عضوًا ما قد أُصيب بالشلل.

أجل، إن لم تُقيّموا الأحداث بمنطقٍ سليم ومحاكمةٍ عقلية، وحكمةٍ وبصيرة، ولم تُخططوا لأعمالكم وحركاتكم وفقًا لهذا فلا شك في وقوع فوضى واضطرابٍ من جراء الأعمال والحملات التي تقومون بها.

ليتني أستطيع أن أحتضن جميعَ الإنسانية، وأبثّ القيمَ التي أحملها في قلوبهم أيًّا كان مستواهم، وأفرّغ إلهامات روحي في صدورهم.

ولذا علينا أن نُفكِّرَ بعمقٍ في كلِّ هذا ونقول في أنفسنا: ماذا، وكيف يجب أن نعمل؟ وما المخاطر التي تحيق بديننا وتديّننا وجيلنا ومستقبلنا؟ وهل حققنا الأمان في الطريق الذي نسلكه؟ وهل ثمة احتمالية من مواجهة المشاكل في الطريق الذي نسير فيه؟

وهكذا يمكننا أن نعمّم مصطلح الأعين الساهرة على كلّ هذا، وأن نتناوله بشكلٍ أكثر شمولية.. وعلى ذلك يمكن القول: كما أن النار لن تمسّ الأعين التي تبكي من خشية الله ليل نهار فكذلك لن تمسّ النارُ أيضًا الأعينَ الساهرة المتيقّظة المهمومة التي تتوقُ إلى القيام بما يلزم في سبيل دحر الحملات التي تستهدف المجتمع ودينه وتديّنه وقيمه المنبثقة عن أعرافه وتقاليده.

قد تعتلج الإنسانَ الهمومُ بسبب علله الشخصية أو مشاكله الأسرية، وقد تتسع الدائرة فيعاني ذلك الإنسان همومًا خاصة بمحلّته وبلدته ودولته.. فهذه الهموم التي يشعر بها الإنسان هي من مقتضى فطرته، لكن الهمّ الأكبر -الذي يتجاوز هذا كله- هو انشغال الإنسان بمشاكل البشرية جمعاء، والبحث عن حلول لها، وفتح قلبه وصدره للإنسانية بأسرها.. فلو أن الإنسان ارتأى ضرورة أن تنعم الإنسانيةُ كلها بالأمن والسعادة المادية والمعنوية الدنيوية والأخروية، وقام وقعد بهذه الأفكار، وعانى من الهمّ والقلق بسبب هذا؛ فإنني أحسب أن النوم سيجافي عينيه، ولن ينعم بالراحة وإن رقد بفراشه ليلًا.. وخاصة إن لم يستطع أن يجد حلولًا للمشاكل والنوازل، أو أنه تَعسَّر عليه إعداد خططٍ بديلة لحلِّها؛ فمن المحتمل حينذاك أنه سيدفع اللحاف عنه، وسيظلّ يتجوّل في الممرّات ليلًا كالمجنون.

أجل، إن مثل هذا الهمّ سيطردُ النومَ من عينيه، ويدفعه إلى أن يكون عينًا ساهرة.

ومن المفيد أن نذكر أن مبعث هذا الهمّ هو الإيمان بالله؛ بمعنى أن الإنسان عليه أن يتوخّى نهج النبي صلى الله عليه وسلم ويشعر في قرارة نفسه بالمعنى الحقيقي للجنة والنار؛ حتى يتسنى له أن يشعر بمثل هذا الهمّ.

لو أحسَنَّا قراءة ما حولنا والعالمِ الذي نعيش فيه؛ والأهم من ذلك لو أقمنا حواجز بديلة لدحر هذه المخاطر؛ لكان الوضع مختلفًا عمّا هو عليه الآن.

إن مثل هذا الإنسان الذي يطفح صدره بالهمّ قائلًا: ليتني أستطيع أن أحتضن جميعَ الإنسانية، وأبثّ القيمَ التي أحملها في قلوبهم أيًّا كان مستواهم، وأفرّغ إلهامات روحي في صدورهم؛ من شأنه أن يقوم ويقعد بهذه الأفكار وينشئ الخطط ويضع الإستراتيجيات.. حتى إنه -سامحوني- ينشغل حتى في وقت الاستبراء بحلّ المشاكل العالقة بذهنه، فإذا ما خطرت بباله فكرةٌ أسرعَ بتسجيلها، أو اتصل هاتفيًّا على الفور بالمعنيين بهذا الشأن، وشاورهم في الحل الذي توصل إليه.. بل قد تقطع عليه الوضوءَ وصلاةَ النافلة فكرةٌ جالت برأسه فجأة؛ لأنه يتعامل مع جروح المجتمع المختلفة كطبيبٍ حاذق، فهو يقوم ويقعد وذهنُه مشغولٌ بإيجاد فكرة صائبة.

إن ذلك الإنسان المهموم إذا ما رأى عدم جدوى الوصفات العلاجية التي يستخدمها لمعالجة الأسقام والأمراض أمامه أخذ يفكر في وصفة علاجية أخرى، فإذا ما دار بخلده حلٌّ قال:
يا ترى! هل من الممكن أن يصلح هذا لعلاج أسقام هؤلاء، وسرعان
ما يضع هذا العلاج موضع التطبيق.

وهكذا يطرُدُ مثلُ هذا الهمِّ النومَ من عين الإنسان، ويجعله يدور هنا وهنالك كالمجنون

[1]  سنن الترمذي، الجهاد، 12.

[2]  سنن الترمذي، الجنائز، 34؛ سنن أبي داود، الأدب، 52.

[3]  “فاوست (Faust)” بطل المسرحية المشهورة المسماة “فاوست” للشاعر الألماني الكبير “جوته (1749-1832م)”، يمثِّل فاوست شابًّا وقع في شباك الشيطان الذي يمثله في المسرحية نفسها “مفستو (Mefisto)”. (الناشر)

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts