سؤال: هل يمكن لقاء الخضر ؟
الجواب: تتعمق معارف الإنسان على قدْر سبره للقضايا الفكرية ومصادرها، ويرقى في معارج عالم القلب والروح على قدر تأمّله وتبحره فيما يتعلق بهما، ويبلغ من أعماق المعرفة ما يبلغ على قَدْر خُبْره بالقضايا العلمية واكتشافه كلّ يوم لمركَّب بِكْرٍ ومعارف جديدة؛ وفوق هذا كلِّه، فمن لا يشغله إلا رضا الله تبارك وتعالى يزداد عمق صلته بالله تعالى.
ومن وثّق عُرى صلته بالله جلّ وعلا خلص إلى نتائج تفوق كل ما يمكن أن يبلغه غيره بالطرق الأخرى؛ فقد يجود عليه العليم الخبير بفتحٍ علمي من لدنه بقليل من الجهد وشيء من العلم يُكلَّل، فيكتشف ما يتعذر عليه اكتشافه وإن قضى سنين في العمل والبحث، وتكفيه قراءة كتاب أو مقال مرة واحدة ليدرك آلاف المعاني؛ ومدى علومِ الظاهر إنَّما يحدِّده مدى سعي المرء فيها، وهو عينه المدى الذي يشغله مِن قلبه وعقله؛ لكن توثيق العلاقة بالله يُكسِب المرءَ معارفَ من علوم الباطن ونتائج من علوم الظاهر؛ أجل، بينما الأول مشغول بعلوم الظاهر فحسب نجد الآخَر قد عبَر حدود عالم الباطن وبلغ شأوًا يمكّنه من إدراك الظاهر.
قال أهل الكشف والشهود: الخضر عليه السلام حيّ؛ إذًا يمكن أن يراه بعض الناس حقيقة ويجتمعوا به أو بظلّه.
وفي عصرنا سادت المادة، فما عاد يُبحَث شيء إلا بمقاييس ومعايير ماديَّة، ومن ثم استَوحش أكثرُنا من الروحانيات وحيل بيننا وبين القيم المعنوية؛ بل أتى انسحاقنا تحت المادة على الروحانيات فجعلَهَا أَثَرًا بعد عِين؛ نسأله سبحانه ونبتهل إليه أن يجعلنا من أرباب القلوب.
فمن وثق عُرى صلته بالله جلَّ وعلا قد يُطلعه الله على الغيب، فيجتمع بالملائكة الكرامِ عليهم السلام، ويتصلُ بالجنِّ والروحانيين، ويرى الخضر u، بل يرقى إلى “مقام الخضر”[1].
أجل، كلّ هذا ممكن لمن وثَّق صلته بالله، وتجرد عن الصورة والشكل، واستغل عتاده الروحي كله للوصول إلى الله.
الطريقة النقشبندية قائمة على ترك أربعة أشياء: ترك الدنيا، وترك الآخرة، وترك النفس، ثم ترك الترك.
تراود بعضَ الأشخاص أفكارٌ مثل: هل لنا أيضًا أن نجتمع بالخضر عليه السلام؟. إن هذا منشؤه الإدراك المحدود للمسألة؛ فيمكن لأي فرد أن يرى الخضر عليه السلام، ومن يدري فقد يصلي معكم، أو يوجد في مساجدنا من كان سيره وسلوكه الروحاني في ظلّ سيدنا الخضر عليه السلام، بل قد يكون بينكم ملائكة كرام، وروحانيّون يرون عالم الشهادة بأعينكم، ولعل بينكم مخلوقات لطيفة تشارككم في مشاعركم… كل هذا ممكن لكنكم لا تشعرون بهم؛ اللهم مُنَّ علينا بانكشاف في الأمور المعنوية كما مننتَ علينا به في الأمور المادية.
وقد أخبرنا الأصفياء ذوو الأرواح الزاكية أنهم اجتمعوا بالخضر عليه السلام وبالملائكة الكرام والروحانيّين، وهؤلاء يخشون الله حق الخشية وترتعش قلوبهم من خشيتهم لربهم وتقواهم، فيستحيل أن يذكروا أمرًا موهومًا لا أصل له؛ إن قولهم حق بلا ريب، ونحن نصدّقهم يقينًا.
وقال أهل الكشف والشهود: الخضر عليه السلام حيّ؛ ورغم أن بعض العلماء الأجلاء -مثل الإمام البخاري- يقولون بوفاته إلا أن معظم الأئمة والفقهاء يرون أنه حي، إذًا يمكن أن يراه بعض الناس حقيقة ويجتمعوا به أو بظلّه؛ وإنما يجتمع بالخضر عليه السلام من بلغ مقام الخضر، وماتت نفسه، وغلَب هواه، مثال ذلك ما ذُكِر في مناقب “يونس أَمْرَه” أنه كان يأتي إلى بيت شيخه “طَابْطُوقْ” بحطب مستقيم فحسب، فلما قيل له: “لم تتخير الحطب المستقيم دائمًا، أما في الغابة حطب معوج؟”، قال: “بيت طابطوق لا يدخله إلا المستقيم ولو كان حطبًا”.
أجل، بالاستقامة في السير تبلغ الهدف، فاستقم كالسهم تبلغ ما تريد.
وذات مرة اختبره طابطوق (وقد وقع هذا لغيره مثل إبراهيم بن أدهم البلخي، ومولانا جلال الدين الرومي، والشمس التبريزي): قدم أحد تلاميذه ذات يوم من عين يستقي منها الماء، فلما مر بيونس نخس رجليه ووركه بحديدة في دلوه وكأنه ينخس دابّة فأدماه؛ فلم ينبس يونس ببنت شفة، فلما بلغ المنزل قال: “هذا أمر تركناه في قريتنا”، أي أعرضت منذ أن خرجت من قريتي عن التفكير في نفسي والضجر من إيذاء الناس لي، فلما رجع التلميذ قال له الشيخ: ماذا قال؟
قال التلميذ: قال: “هذا أمر تركناه في قريتنا”.
فقال الشيخ: ما زالت نفسه تشغله، لم ينضج بعد، فليجاهدها أكثر وأكثر.
وما أجمل قول يونس:
“على الدرويش أن يكون بلا يدٍ لمن ضربه
وبِلا لسان لمن شَتَمَه
وبلا قلب (حتى لا يغضب)
وإلا لن تستطيع أن تكون درويشًا”.
في عصرنا سادت المادة، فما عاد يُبحَث شيء إلا بمقاييس ومعايير ماديَّة، ومن ثم استَوحش أكثرُنا من الروحانيات وحيل بيننا وبين القيم المعنوية.
هكذا فليكن المرشد والداعية في هذا العصر، يكفُّ كفَّه عمّن آذاه ولسانَه عمن شتمه، وعلى طالب القرآن أن لا يُثير شيءٌ حفيظتَه، فلا يستاء ولا يمتعض، وإلا فليس من طلاب القرآن، فإن شئت أن تجتمع بالخضر عليه السلام فتَخَلَّ عن نفسك أولًا.
للنقشبندية أربعة أسس يعبرون عنها هكذا: إن الطريقة النقشبندية قائمة على ترك أربعة أشياء:
ترك الدنيا، وترك الآخرة، وترك النفس، ثم ترك الترك.
فوجب في هذا الزمان تركُ كل رغبة ولو كانت الاجتماع بالخضر عليه السلام.
[1] “مقام الخضر u” على حد قول الأستاذ بديع الزمان: “إن في مقامات الولاية مقامًا يُعبّر عنه بـ “مقام الخضر”، فالولي الذي يبلغ هذا المقام يجالس الخضر u ويتلقى عنه الدرس، ولكن يُظن أحيانًا خطأً أن صاحب هذا المقام هو الخضر بعينه”. (بديع الزمان سعيد النُّوْرسي، المكتوبات، المكتوب الأول، الطبقة الثانية من طبقات الحياة، ص. 5)