سؤال: وجّه الشاعر التركي “نيازي المصري”[1] الأنظار إلى مسألة العرفان قائلًا:
إن تشأ أيها الزاهد أن تبلغ الكمال فعليك بالعرفان فهو مُبتغاك
وليس في صومٍ وزكاةٍ وحجٍّ وصلاةٍ منتهاك
فما الوسائل التي على العبد أن يتخذها مع أداء التكاليف الشرعية حتى يبلغ درجة العرفان ويكون عارفًا بالله؟
الجواب: الصلاة والصوم والزكاة والحجّ أساس العبادات، وكلمة التوحيد هي المفتاح السريّ لمدخل التعرف على أركان الإيمان والعبادات والطاعات، فكلمة الشهادة جملةٌ مباركة تجمع بين المبدأ والمنتهى، أي هي النقطة الأولى والأخيرة، فلا معنى للإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدَر إن لم تكن، وكذا العبادات لا قيمة ومعنى لها إلا بالولوج من هذا المدخل الذي فتحته هذه الكلمة، فكما جاء في حديث جبريل: الإيمان أولًا ثم الإسلام ومنهما إلى الإحسان، أي إن مبدأ الدين وأساسه الإيمان، أما منتهاه وثمرته فهو الإحسان.
التواضع هو المفتاح السري لكل خير، والكبر والأنانية هما مفتاح كلّ شر.
عبادات تُتوَّج بالوعي
والإحسان يشمل العرفان، فمَن أراد أن يصل إلى أفق العرفان فليكن إيمانه راسخًا بدايةً، وليعمل عملًا صالحًا، حتى يغدو هذا ثقافةً وجدانيةً له؛ أجل، إن أقصر الطرق لبلوغ العرفان أداء العبادات بخشوع ودقة ووعي، فإن خلت العبادات من الخشوع والوعي فلا طريق إلى العرفان، ومن لم يبلغ رتبة العرفان فلن يتأتى له بلوغ محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وليُعلَم أن هذه الأمور بنيان واحد لن تبلغ أعلاه إلا بعد المرور بأدناه، والمسألة بهذا المنظور تدلّ على أن ما قاله الشاعر نيازي المصري حقّ.
إن عبادات المحروم من شعور الإحسان ونور العرفان ما هي إلا عادات وتقاليد ما زالت تُؤدَّى منذ قديم الزمان، فهو يصوم لأن من حوله يصوم، ويصلي لأنه رأى أبويه يصليان، ويحجّ لأن الآخرين يحجّون… ومن ثمّ فلا معنى ولا روح في عبادات كهذه لأنها صورة لا غير، ألم يقل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام:
إن أقصر الطرق لبلوغ العرفان أداء العبادات بخشوع ودقة ووعي.
“رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ”[2].
نعم، إنّ قدر العبادات وخصائصها رهنٌ تحققُها باقترانها بالعرفان.
فالصلاة مثلًا عندما تؤدَّى في أفق العرفان بشعور الإحسان قد يرى هذا المصلي نفسه عندئذ في ديوان الله المقدس، فإذا حرّك يديه وقدميه شعر كأنه يلامس حجب العرش؛ نعم، يشعر بذلك ويرتعش خوفًا من أن يصدر عن جوارحه ما لا يليق بالحضرة الإلهية، ولما تحدَّث الحقُّ سبحانه وتعالى عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قال:
﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/218-219).
فينبغي لمن لم يستطع أن يبلغ هذا المستوى أن يعلم على الأقل أنّ الله تعالى يراه، وأن يؤدي أركان صلاته كلها بهذا الوعي ما أمكن؛ فأمارة انعكاس شعور الإحسان على سلوك الإنسان وتصرفاتِه: أن يتبع السنة في كل حركاته وسكناته، وأن لا يدور بخلده إلا ما يعلم أنه يليق بهذا المُقام.
إن كلَّ جهدٍ وسعيٍ يبذله العبد لأداء الصلاة بوعي تامّ هو من المَعالم الصحيحة المهمة في طريق العرفان.
أجل، من أجل بلوغ العرفان لا بدّ أن تُتوَّج العبادات بالوعي، فعلى المصلي أن يؤدي صلاته وهو على وعي بها من التكبير إلى التسليم، ومن الخطأ جعل النية لفظًا يُقال في افتتاح الصلاة، فالنية هي قصد القلب، فليمحُ العبد كلّ ما سوى الله تعالى من روحه ومشاعره كلِّها، وليستشعر بعمق أنه يقف بعبودية تامة واستعداد كامل أمام عظمة كبريائه جل وعلا، بل عليه أن ينسى نفسه ويفنى جذريًّا، وأن ينسى أنه تفانى، ويجتهد في الحفاظ على هذا الشعور من افتتاح الصلاة إلى اختتامها؛ فإن داهمتك بعض الهواجس فاجتهد في التغلب عليها بالمداومة على منح الإرادة حقها.
وعلى المصلي أيضًا أن يفهم جيدًا معاني الأدعية والآيات التي يقرؤها في الصلاة، وأن يفطن إلى ما تكشفه للقلب من حقائق، وأن يستحضر كل هذه الأمور بوعي حتى السلام.
إن كلَّ جهدٍ وسعيٍ يبذله العبد لأداء الصلاة بوعي تامّ هو من المَعالم الصحيحة المهمة في طريق العرفان.
الاستقامة وكرامة الديمومة
ينبغي أن تكون صلة العبد بخالقه جلّ وعلا متينة راسخة واعية، وأن يواظب على هذا، فالمداومة أمر مهم جدًّا لبلوغ أفق العرفان؛ إنّ معاملة الله تعالى لنا تكون على حسب صلتنا به سبحانه وتعالى ومداومتنا عليها، يقول من كان في ذروة أفق العرفان صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ”[3]؛ نعم، فقطرات الماء ليست هي التي تؤثر في الحَجر بل المؤثر هو دوامها؛ أجل، فرغم أن الماء مادة هينة لطيفة فإن دوامه يؤثر حتى في المرمر، فمن الأهمية بمكان أن يلزم العبد الصبر على الطاعة والمداومة عليها مع العزم والثبات والرسوخ حتى يُفتح له في العرفان.
من أجل ذلك يستهويني كثيرًا رأي الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في ليلة القدر، إنه يرى أن على المسلمين أن يتحروها في ليالي السنة كلها، فكما أخفى الله تعالى أشياء في أشياء ربما أخفى ليلة القدر في العام كلِّه، ولا جرم أنّ قيام بعض ليالي رمضان أو ليلة السابع والعشرين منه وإحياءها أمرٌ ذو قدر وفضل، غير أن الأصل أن يعد العبد كلَّ ليلة ليلةَ القدر، وعليه أن يقوم كل ليلة بهذه النية، وأن يعلن عن ولائه لربه جل وعلا بالوقوف أمامه بعبودية تامة واستعداد كامل، عسى أن ينير حياته البرزخية بركعتي تهجد على الأقل، فأين هناءة المضاجع من ضيافة الرحمن؟ وما أجمل قول إبراهيم حقي رحمه الله في هذا:
يا عينُ ساهري الليل ولا تهجعي
وفي هاتيكِ الليالي مع الكواكب اسبحي
وآياتٌ على صفحة سمائنا ارتسمت فتأملي
وابحثي عن خالقها وعليه ضيفًا فانزلي
التواضع كلمة السر لشتى أنواع الخير
الإحسان يشمل العرفان، فمَن أراد أن يصل إلى أفق العرفان فليكن إيمانه راسخًا بدايةً، وليعمل عملًا صالحًا، حتى يغدو هذا ثقافةً وجدانيةً له.
إنّ نهج العجز والفقر والشوق والشكر الذي وضعه الأستاذ بديع الزمان طريقٌ مهمّ في بلوغ أفق العرفان، ومفاد هذا المنهج أن المرء قد يهيم شوقًا إلى ربه ويرقى في شدّ معنوي حقيقي إن أيقن أنه لا طاقة له بشيء دون إرادة الله وعنايته، وأن ما تحت يده ملك للغني المطلق سبحانه وتعالى، فعاش في الدنيا كأنه سلطان وإن كان صِفر اليدين.
ومن الوسائل المهمة للغاية في بلوغ العرفان تلاوة القرآن بتدبّرٍ وإمعانٍ، فبالإبحار في سفينة العلامة المفسر “حمدي يازِرْ”[4]، والبيضاوي، وأبي السعود، والآلوسي إلى أعماق القرآن وخصائصه يشعر العبد بأن القرآن ينزل الآن غضًّا طريًّا، هذا الإبحار يبلغ بالإنسان أفق العرفان، ويجعله دائمًا في شدّ معنوي.
الصلاة والصوم والزكاة والحجّ أساس العبادات.
ومن معالم هذا الطريق أن يقضي المرء حياته في تواضع وفناء وحياء لتنكشف له آفاق معرفة الله في وجدانه؛ ذكر العارف “يوسف بن الحسين الرازي”[5] أنّ التواضع هو المفتاح السري لكل خير، والكبر والأنانية هما مفتاح كلّ شر، فالمغرور أو الأناني حتى لو سجد وما رفع رأسه طوال عمره لما استطاع أن يبلغ الهدف، يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي الجليل:
“الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ”[6].
وثمة وسائل أخرى تبلغ بالعبد أفق العرفان؛ لأن الطرق الموصلة إلى الله بعدد أنفاس المخلوقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نيازي مصري (1027هـ/1618م – 1105هـ/1694م): شاعرٌ تركي صوفي ولد بولاية “مَلَاطْيَا” شرقي تركيا. أكمل دراسته في الأزهر الشريف؛ فلُقّب بـ”المصري”. له ديوان شعر ومؤلفات منها: رسالة الحسنيين، موائد العرفان، وعوائد الإحسان، وهداية الإخوان.
[2] سنن ابن ماجه، الصيام، 21.
[3] صحيح البخاري، اللباس، 43؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 215.
[4] محمد حمدي يازِر (1295هـ/1878م – 1361ه/1942م): من أهم علماء الدين الذين عاشوا في أواخر الدولة العثمانية، أهم كتاباته تفسيره للقرآن الكريم باللغة التركية.
[5] يوسف بن الحسين الرازي ( ؟ – 304هـ/916م): أبو يعقوب الرازي يوسف بن الحسين بن علي، زاهد صوفي، من العلماء الأدباء، كان شيخ الري في وقته، وهو من أقران ذي النون المصري.
[6] صحيح مسلم، البر والصلة، 136؛ سنن أبي داود، اللباس، 26 (واللفظ لأبي داود).