سؤال: هناك أشخاص أعطاهم الله كل شيء، الأموال الطائلة والسيارات الفارهة والقصور الفخمة والشرف الرفيع والصيت الذائع… بينما الآخرون يتضورون جوعًا وتصيبهم آلام وبلايا ومصائب وفقر وعلل. فيا ترى هل هؤلاء فاسدون والآخرون يحبهم الله حتى أغدق عليهم ما أغدق، بينما هؤلاء ينسحقون تحت وطأة أعباء الحياة ؟
الجواب: مثل هذا السؤال لا يُسأل إلا من أجل الوصول إلى المعرفة، وإلا فإن السائل يكون آثمًا. ومن كان في ضيق فله أن يَسأل هذا السؤال من أجل الفهم لا الشكوى.
الإنسان إن كان مع الله فلا يضره أن يكون غنيًّا وأن يلبس فاخر الثياب.
يعطي الله تعالى المال والدور والمراكب لمن يشاء، ويعطي الفقر وضيق اليد لمن يشاء. ولكن لا يمكن هنا إنكار دور بعض الأسباب كالظروف العائلية وغيرها، كما لا يمكن إنكار قابلية شخص ما وكياسته ودرايته في كسب المال وتنميته، وكذلك لا يمكن إنكار مدى تأثير معرفته بطرق الربح في الأحوال والشروط والظروف المحيطة به أيضًا. ومع هذا فقد لا يعطي الله تعالى المال لأشخاص مع وجود القابليات عندهم. ومع هذا فقد ورد في حديث ذي مغزى عميق يخص موضوعنا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ U يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ”([1]). وهذا له معنى فيما نحن بصدده.
ثم إن من الخطإ عد المال والجاه خيرًا مطلقًا. أجل، فالله عز وجل قد يعطي المال والرفاه والسعادة الدنيوية لمن يطلبها وقد لا يعطي، وسواء أعطى أم لم يعط فهو خير في كلتا الحالتين؛ فإن كنتَ إنسانًا صالحًا واستعملت المال المعطى لك في أمور الخير، فالمال هنا يُعد خيرًا. ولكن إن لم تكن إنسانًا صالحًا، بل كنت منحرفًا عن الصراط القويم فسواء أعطاك الله المال أو لم يعط فالوضع يكون سيّئًا بالنسبة لك.
لا يمكن النظر إلى مجرد الفقر أو إلى مجرد الغنى على أنه مصيبة أو نعمة.
أجل، إن كنت إنسانًا غيرَ مستقيم فالفقر يكون عندك وسيلة إلى الكفر، لأنه يحرضك على رفع راية العصيان تجاه ربك. كما أنك إن كنت بعيدًا عن الاستقامة فمعنى هذا أنك لا تملك حياة قلبية وروحية صحيحة، لذا فإن الغنى سيكون لك مصيبةً وبلاءً ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/28). لقد خسر الكثيرون هذا الامتحان حتى اليوم؛ فكم من غني مع أنه يملك ثروةً كبيرةً لا يملك في قلبه شرارة نور واحدة بسبب جحوده. لذا فإن إعطاء الله تعالى المال والجاه لهؤلاء يعد “استدراجًا” أي وسيلة لانحرافهم. ولكن هؤلاء استحقوا هذا لكونهم أماتوا حياتهم القلبية والروحية وقضوا على القابليات الفطرية التي وهبها الله تعالى لهم. من المناسب هنا ذكر هذا الحديث النبوي: “كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ”([2]).
بينما لم يكن البراء -وهو شقيق أنس- يملك طعامًا يأكله ولا دارًا يأوي إليها. كان يعيش على الكفاف. وكم من أشعث أغبر مثل البراء كانوا يوقرون ويُنظر إليهم كعظماء ويقيّمون حسب سعة قلوبهم وعمقها وعظمتها، ونور نفوسهم وضيائها. لذا وصفهم النبي r أنهم لو أقسموا على الله لأبرهم.
إن من الخطإ عد المال والجاه خيرًا مطلقًا. أجل، فالله عز وجل قد يعطي المال والرفاه والسعادة الدنيوية لمن يطلبها وقد لا يعطي.
إذًا فلا يمكن النظر إلى مجرد الفقر أو إلى مجرد الغنى على أنه مصيبة أو نعمة. فقد يكون الفقر حسب موقعه من أكبر نعم الله تعالى. وقد اختار الرسول r الفقر بإرادته فقال لعمر t المتألم من فقر الرسول r: “أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟!”([3]) وبينما كانت الثروات تسيل إلى خزينة بيت المال عاش الخليفة عمر بن الخطاب t فقيرًا، لا يتناول إلا ما يسد رمقه فقط ولم يطلب المزيد.
ولكن هناك نوع من الفقر -أعاذنا الله منه- يكاد يكون كفرًا. فمثلًا لو كان هذا السؤال صادرًا لا عن قصد معرفة وعلم، بل تعبيرًا عن السخط، من فم جاحد، يعد هذا جحودًا لنِعَم الله تعالى وشكوًى منه وعصيانًا… أي عُدّ كفرًا. إذًا فالفقر يعد نعمةً أحيانًا وأحيانًا أخرى نقمةً، أي أن الأصل في الموضوع هو الصدى الذي يلقاه في القلب، أو كما قال الشاعر:
يارب! كل ما يأتي منك مقبول،
إن كان خلعةً… أو كان كفنًا،
إن كان وردةً… أو شوكًا،
نعمتك ومحنتك… كلاهما حسن.
وفي شرقيّ الأناضول هناك مثل يقول “كل ما جاء منك جميل، سواء أكان هذا أم ذاك”.
يعطي الله تعالى المال والدور والمراكب لمن يشاء، ويعطي الفقر وضيق اليد لمن يشاء. ولكن لا يمكن هنا إنكار دور بعض الأسباب كالظروف العائلية وغيرها.
الإنسان إن كان مع الله فلا يضره أن يكون غنيًّا وأن يلبس فاخر الثياب، قد يبلغ مرتبة الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، ولكن إن لم تكن للإنسان أي علاقة بالله تعالى فإن فقره يكون له خسرانًا في الدنيا وخسرانًا في الآخرة أيضًا. وكذلك إن كان الغني غافلًا عن الله تعالى فإنه وإن بدا سعيدًا في الدنيا فإن خسرانًا كبيرًا ينتظره في الآخرة.
[2] الترمذي: المناقب، 55.
[3] البخاري: تفسير سورة التحريم، 2؛ مسلم: الطلاق، 31؛ مسند الإمام أحمد: 3/176.