Reader Mode

ينقل بديع الزمان سعيد النورسي في رسالة “الأخوة” الكلام التالي عن حافظ الشيرازي فيقول: “خُلُقان يضمنان نيل الراحة والسلامة في كلا الدارين، الأول: معاشرة الأصدقاء بالمروءة والإنصاف، والثاني: معاملة الأعداء بالصفح والصفاء”[1]، ويجب النظر إلى مصطلح الصديق هنا بمعناه الواسع؛ فالأشخاص الذين يمكن وصفهم بالإخوة والمحبين والمؤيدين والمتعاطفين يندرجون أيضًا من جهة ما في هذه الفئة، فمن الناس مَن يقف بجانبكم في أيام الرخاء قد يستسلم لنقاط ضعفه في أيام الشدة ويدير ظهره لكم، ومع ذلك يجب أن تفهموا هؤلاء وتستوعبوهم وتتسامحوا معهم، وكما قال حافظ الشيرازي، يجب ألا تتخلوا عن المروءة في المعاملة.

إن الضمائر السليمة والعقول الراجحة لا تعارض دعوة مثل دعوة القرآن.

بالإضافة إلى ذلك يجب على المرء أن يتعامل مع أولئك المعادين له ويعيش معهم في سلم وسلام؛ ففي حديثٍ روته السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِإِقَامَةِ الفَرَائِضِ”[2]، وهنا يذكر نبينا صلى الله عليه وسلم أن مداراة الناس ومعاملتهم بالحسنى أمرٌ على مستوى الصلاة والصيام وإخراج الزكاة والذهاب إلى الحج، ويمكن لنا تقييم هذا في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إذا كنتم تعتقدون أن لديكم رسالة تريدون تقديمها إلى العالم، فيجب أن تبدؤوا العمل من خلال الاتفاق أولًا في أقرب دائرة.

والحق أن هذا هو ما يُسمّى بالسياسة؛ فعلى الرغم من أن هذه الكلمة صارت ملوّثة تمامًا اليوم، إلا أنها تعني فنّ الإدارة، ويتطلّب فنّ الإدارة الذي يتسم بالعديد من الجوانب خبرةً حقيقية، فليس من الممكن لشخص لا يستطيع قراءة العصر الذي يعيش فيه قراءةً جيدةً ولا يستطيع تقييم آراء الأشخاص من حوله تقييمًا صائبًا أن يتّخذ موقفًا صحيحًا وفقًا للظروف ولا أن يدير الأشخاص الذين جُبِلوا على العداء له، على سبيل المثال فالشخص الذي يعرف السياسة (أي فن الإدارة) لا يجعل الأمور الفرعية والتفصيلية وسيلةَ للشجار، إنه يعرف الجميع جيدًا من حيث شخصياتهم وقدراتهم وبيئاتهم الثقافية ويتصرّف وفقًا لذلك، وحتى لو رأى سيلًا جامحًا قادمًا نحوه فإنه سرعان ما يجد مجرى له، يشقّه، ويجعله جالبًا للمنافع لا للأضرار؛ إذ يجمعه في سد ثم ينقله إلى الأرض الزراعية… إلخ.

لقد دُمِّرَت القلوب والضمائر والعقول في عصرنا الراهن أيما دمار، فلم تبق ثقة بين الناس بعضهم ببعض.

السياسة -أي: فن الإدارة- ليست مجرد مسألة دولة فحسب؛ فهي تدخل في مجالات التعليم والأسرة والعلاقات الإنسانية والقضايا الاجتماعية أيضًا، ومما لا شك فيه أنه كلما اتسعت الدائرة كلما زادت أيضًا صعوبة إدارة الأشخاص، فالأصل هو حل المشاكل بعقلانية ودبلوماسية واتباع منهجية سياسة صحيحة إزاء الأعداء، ولكن الإداريين الذين ليست لديهم مؤهلاتٌ كافية ولا يستطيعون الوفاء بحق مناصبهم يلجؤون على الفور إلى القوة الغاشمة والعنف ولا يستوفون متطلبات علم السياسة.

من الطبيعي أن تكون لدى أصحاب الديانات والثقافات المختلفة نقاطٌ عديدة يصعب التفاهم حولها، ومع ذلك يمكن الاتفاق على النقاط المشتركة.

ولا سيما الأشخاص الذين لم يستحقوا مناصبهم بالترقي تدريجيًّا، وقفزوا فجأة ورُقُّوا إلى نقطةٍ معينة فإنهم يعجزون عن الوفاء بحقّ المكان الذي يشغلونه، وعلى الرغم من أنهم يمثّلون مناصب عالية، إلا أنهم يظلّون متخلفين كثيرًا عن مكانهم عاطفةً وفكرًا؛ ويضطربون وينفعلون بسرعة أمام الصعوبات وحيل الأعداء التي تحيط بهم أو تواجههم، وينهزمون لمشاعرهم، ولا يعرفون كيف ومتى عليهم أن يتحركوا، لذا لا يمكنهم أداء الواجبات التي تترتّب على المنصب الذي يمثّلونه أداءً صحيحًا، ولكن الأشخاص الذين ينجحون في أداء واجباتهم التي كُلفوا بها على نطاق صغير، ويثبتون نضجهم العقلي بمرور الوقت؛ تكون قدرتهم على الوفاء بحق مناصبهم أعلى، وحيثما وُظِّفوا لا يُخطئون بإذن الله تعالى.

لا يمكن الوصول إلى الحق من خلال اللجوء إلى طرق ملتوية بعيدة عن الحق والصواب، فالغايةُ لا تبرر الوسيلة.

يستحيل الوصول إلى الحق باللجوء إلى الطرق الملتوية!

ولقد اكتسبت كلمة حافظ الشيرازي أهمية أكبر بالنسبة لمسلمي اليوم، ففي عالم اليوم حيث لا تغيب النزاعات والصراعات قطعًا، ويحاول العنف والسلوكيات المتطرفة تلويث وجه الإسلام البهي، هناك حاجة ماسة للتصرّف مثل مولانا جلال الدين الرومي ويونس أمره وبديع الزمان حيث مقابلة الأذى بالصفح، والسب والشتم بالسكوت، وقسوة القلوب باللين، ينبغي للمسلمين أن يتصدوا لكل أنواع الفظاظة والعدوان، وأن يصبروا على الشدائد والصعوبات، فرغم احتلال بلاد المسلمين وانتزاع أراضيهم والتلاعب بأنظمتهم الإدارية واستغلال مواردهم في القرون الأخيرة، فإنه لا ينبغي أن يدفعهم ذلك إلى التصرف بتطرف ورد فعل عنيف، بل يجب عليهم أن يسعوا -في سبيل القيم التي يمثلونها- إلى بناء جسور السلام وجزر الحب في جميع أنحاء العالم من خلال توجيه الفكر الإسلامي إلى النقطة التي ينبغي أن يكون فيها.

ليس من الصواب أن نصرخ بحقائقنا في وجه الطرف الآخر، دون أن نضع مشاعره وأفكاره في الحسبان.

هناك الكثير من الأخطاء تُرتكب اليوم في هذا الشأن! حيث يبدأ البعض النضال من أجل الاستقلال على حسب هواه وبشكل منفصل عن الدولة، ويُطلق البعض اسمَ الجهاد على قتل الأبرياء بيد الانتحاريين، دون تفريق بين الأطفال أو النساء أو الشيوخ، فنظرًا لتعذّر الوصول إلى اتفاق على الحق، فإن كلَّ فردٍ يبحث عن الحقّ وفقًا لنفسه وهواه، ويطرح طريقة خاصّة به في النضال والكفاح، ومهما سعى في إثر الاستقلال والحرية فإنه لا يتمكن أبدًا من الوصول إلى هدفه، وتظهر الفوضى والشجار على الساحة، بل وتتأجج الأحقاد والبغضاء، مما يتسبّب في العداء للإسلام.

يجب أن تبتعدوا عن القضايا التي تتسبب في صراعات واختلافات دنيوية، فالعالم في حاجة ماسة إلى التعايش في جو من الأخوة والتعاون والسلام والوئام.

لا يمكن الوصول إلى الحق من خلال اللجوء إلى طرق ملتوية بعيدة عن الحق والصواب، فالغايةُ لا تبرر الوسيلة، وعلى حد تعبير الشيخ بديع الزمان: عندما لا تكون السبل إلى كل حق حقًّا، ويُسعى إلى تحقيق هدف حق عبر استخدام وسائل خاطئة؛ فإن كل النضالات والكفاحات المبذولة تظلّ عرضةً للفشل، والحال أنه يلزم أن تكون الطرق الموصِّلة إلى الحق حقًّا أيضًا، فإذا كنا نستهدف الحق، ووضعنا نصب أعيننا إعلاء كلمة الله، وجعلْنا غايتنا المثالية هي أن تجتمع البشرية جمعاء في جوٍّ من الحب، فينبغي لنا أن نفهم جيدًا أننا لا نستطيع تحقيق هذا الهدف بأفكار ميكافيلية، ولا داعي لأن نختلق طرقًا وأساليب توافق تفكيرنا وهوانا في هذا الصدد.. إننا مطالبون بأن نتحرّك أولًا وفقًا للمبادئ والأسس التي وضعها القرآن والسنة، ثم وفقًا للقيم الإنسانية العالمية التي حققتها البشرية اليوم بعد نضالات كبيرة وعظيمة.

الاتفاق في النقاط المشتركة

إن الكشف عن النقاط المشتركة العالمية التي اتفقت حولها البشرية ثم الاتحاد حولها هو أسلوب مهمّ من السياسة يجب اتباعه اليوم، كما في كل الأوقات، يجب علينا أن نحدّد النقاط المشتركة مع الأشخاص الذين لديهم مشاعر وأفكار مختلفة تحديدًا جيدًا للغاية، ونقول لهم كما قال القرآن لأهل الكتاب: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ فهذا فنُّ إدارةٍ مهم للغاية يجب اتباعه من أجل تحقق السلم والسلام في جميع أنحاء العالم.

يجب علينا أن نسعى إلى بناء جسور السلام وجزر الحب في جميع أنحاء العالم من خلال توجيه الفكر الإسلامي إلى النقطة التي ينبغي أن يكون فيها.

ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/64).

وبديع الزمان يفسر مصطلح “أهل الكتاب” الوارد في الآية بـ”أهل المدرسة والعلم”، وعندما ننظر إلى الآية وفقًا لهذا، نفهم أن الآية تمتدح المسيحيين واليهود من جهة ما على اعتبار أنهم قرؤوا وفهموا الكتاب الذي نُزِّل عليهم، ومن ناحية أخرى يحتوي هذا المصطلح على تحذير شديد ينطوي على المعنى التالي: بما أن لديكم كتابًا في أيديكم تقرؤونه فعليكم أن تتصرفوا تصرف المتعلمين والمثقفين، وليس انطلاقًا من معلومات سماعية وشائعات مثل الآخرين.

ثم يعلن الله تعالى أنه يمكن الالتقاء حول كلمة سواء يتفق عليها كلا الطرفين، فما هي هذه الكلمة السواء؟ إنها العبودية لله فحسب، وتركز الآية على الجانب الإيجابي للمسألة دون أن تلوم أو تتهم أحدًا، كما أنها لا تخوض في التفاصيل في هذا الموضوع؛ لأن التعمق في التفاصيل تنشأ عنه الخلافات والنزاعات، وما دام يمكن التوصل إلى اتفاق حول المبادئ الأساسية، فليس صوابًا الاختلاف في التفاصيل.

إننا مطالبون بأن نتحرّك أولًا وفقًا للمبادئ والأسس التي وضعها القرآن والسنة، ثم وفقًا للقيم الإنسانية العالمية التي حققتها البشرية.

من الطبيعي أن تكون لدى أصحاب الديانات والثقافات المختلفة نقاطٌ عديدة يصعب التفاهم حولها، ومع ذلك يمكن الاتفاق على النقاط المشتركة دون التطرق إلى النقاط التي من شأنها أن تولد الصراع والشجار، لذلك ليس من الصواب أن نصرخ بحقائقنا في وجه الطرف الآخر، دون أن نضع مشاعره وأفكاره في الحسبان.

إن الضمائر السليمة والعقول الراجحة لا تعارض دعوة مثل دعوة القرآن الواردة أعلاه، لذلك من المهم جدًّا بالنسبة للأشخاص الذين يمثلون رسالة مهمة أن يتصرفوا دائمًا في إطار هذا الفهم الدقيق، وهذا أمرٌ يتوقف عليه تحقيقُ وحدةِ الروح ووحدة القلب، فلا يمكنكم أن تعمروا فجأة قلعة متهالكة منذ سنوات، وحتى وإن كان التدمير سهلًا، فإن إعادة شيء ما إلى شكله الأصلي أمرٌ أصعب.

الأصل هو حل المشاكل بعقلانية ودبلوماسية واتباع منهجية سياسة صحيحة إزاء الأعداء.

لقد دُمِّرَت القلوب والضمائر والعقول في عصرنا الراهن أيما دمار، فلم تبق ثقة بين الناس بعضهم ببعض؛ ولذلك فإن استعادة هذه الثقة، والقدرة على الثقة بالآخرين، أي خلق جوٍّ يمكن للناس فيه أن يديروا ظهروهم بسهولة لبعض في ثقة وأمان؛ يتطلب جهدًا بالغًا، فإذا كنتم تعتقدون أن لديكم رسالة تريدون تقديمها إلى العالم، فيجب أن تبدؤوا العمل من خلال الاتفاق أولًا في أقرب دائرة، ثم تنفتحوا تدريجيًّا إلى الخارج وتتفقوا مع الآخرين في النقاط المشتركة، يجب ألا تتسبّبوا في المشاكل في أي مكان، وأن تبتعدوا عن القضايا التي تتسبب في صراعات واختلافات دنيوية، ذلك لأن العالم في حاجة ماسة إلى التعايش في جو من الأخوة والتعاون والسلام والوئام..


[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب الثاني والعشرون، ص 325.

[2] البيهقي: شعب الإيمان، 11/ 22؛ الديلمي: مسند الفردوس، 1/ 176 (واللفظ للديلمي).