إن الأنبياء كما أرشدوا المجتمعات إلى طرق الرقيّ المعنوي؛ وجَّهوهم كذلك إلى أسباب الترقي المادي أيضًا، فكلما سارت المجتمعات على الطرق التي أرشدوا إليها فسيكونون سالكين في الطرق المؤدية إلى السعادة الدنيوية والأخروية معًا إلى أن ينالوا الفوز الحقيقيّ.
فمعجزات الأنبياء تنطوي على رسائل مهمّة متعلّقة برقي المجتمعات وأمنهم وسعادتهم، كما أن هذه الرسائل التي قدّموها والمعجزاتِ التي جاؤوا بها ليست مقصورة على عصرهم فقط؛ فكل معجزة تدل على نبوّة ذلك النبي من جانب، وتشير من جانب آخر إلى حقيقة حياتية، وتفتح آفاقًا جديدة حول أمور ستظهر في المستقبل.
فمثلًا إن الريح في قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ (سورة سَبَإٍ: 34/12) ليس من نوع الريح المعهودة لنا، بل هي ريح مخصوصة سُخرت لسليمان، فكان يقطع في الجو بهذه المعجزة التي أعطاه الله مسافةَ شهر من دون أي وسيلة أخرى، ويذهبُ بها حينما شاء.
فالعروج إلى السماوات والتجوالُ فيها هو آخر نقطة سيترقى إليها الإنسان، فقد تخطت البشرية إلى اليوم مسألة الاحتكاك، وحَلَّت مشكلةَ الجاذبية الأرضية فنجحت في باب التحليق في الهواء، فقد فهم إسماعيل الجوهري (ت: 1010م) من هذه الآية القرآنية إمكانيةَ تحليق الإنسان في الهواء، ورَبَط محاولاتِ “هَزَارْفَنْ أحمد شلبي” (1609-1640م)، و”لاغاري حَسن” -من أبناء القرن السابع عشر- وأضرابَهم وتجاربَهم في مجال الطيران بمدى ما تثيره هذه الآية في الأرواح المؤمنة من روح العزيمة والحماس.
فهؤلاء قد نجحوا في الطيران من برجِ “غَلَطَة” إلى ساحل “أُسْكُدَارْ” (من ساحل مضيق البوسفور إلى الجانب الآخر) في تلك الأيام التي لم توضع فيها فكرة الطيران موضع التنفيذ، كما أن مِن هؤلاء مَن جرَّب الطيران بإطلاقِ صواريخَ إلى الهواء، بل إن منهم من ضحَّى بروحه في سبيل ذلك فاستُشهد، ولكن الذين جاؤوا من بعدهم أعرضوا -للأسف- عن القرآن وعن القوانين التي وضعها الله في الكون، فلم يستطيعوا السير في الطريق التي شقّها أسلافهم، ولم يطوروا هذه الفكرة إلى الأمام، حتى إنهم نظروا إليها على أنها من باب العبث فانتقدوها.
وهذه الآية تَهمس في آذاننا برسائل مستقبلية؛ حيث تشير إلى أن المؤمنين إذا راعوا القوانين الجارية في الكون، إلى جانب مراعاة الآيات القرآنية، فلن تبقى هناك ذروة إلا وسيصلون إليها؛ حيث إن المعجزات تشير إلى هذه الأهداف والذرى.
فكل معجزة من معجزات الأنبياء، حتى لو لم تكن جارية في إطار تَناسُب العِلِّيَّة (المناسبة بين السبب والنتيجة)، لكنها بُنيت على بعض الأسباب، فإذا نظرنا إلى تلك الأمور الخارقة الصادرة عن النبي كقضية نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، نلاحظ أنه قد وضع إصبعه ضمن الأسباب العادية، بمعنى أنه وضعها في مقدار من الماء أو صب عليها الماء، وفي حالة أخرى استخدم حفنة أو حفنتين من التمر لإشباع مجموعة متشكلة من ثلاثمائة صحابي من أصحابه، فطرح البركة فيها بمشيئةِ الله وفضله.
أجل، إن الله تعالى لا يعطل الأسباب طالما كان الإنسان في دائرة الأسباب، حتى إنه في المعجزات الصادرة عن أنبيائه ينيطها بأسباب جزئية، وبذلك يشير إلى أهمية مراعاة الأسباب، ومما يؤيد هذه الحقيقة أيضًا أن انفجار العيون من الحَجر بضرب تلك العصا الخارقة لسيدنا موسى عليه السلامكان يستند إلى رشفة قليلة من الماء في الحجر، كما أن العصا أيضًا استُعملت كوسيلة لذلك، وبما أن سيدنا موسى قد اتبع أحكام الكِتاب الذي أُوحي إليه واستَسلم لأمر ربه تمامًا كاستسلام الميت بين يدي المغسل، وتَرَكَ هوى نفسِه وغرائزَه وتغلب عليها، إذا به يَرى من حيث لا يحتسب أنه قد انفجرت اثنتا عشرة عينًا من خلال تماسِّ عصا جامدة في يده بشيء جامد آخر وهو الحجر، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/60).
فهذه المعجزة هي النقطةُ النهائية التي توصَّلت إليها البشريةُ في مسألة استخراجها الماء والموادَّ الحيوية الأخرى من الأرض التي تحتضن في باطنها الصخورَ الصلدة، فلن تتخطّى البشرية هذه النقطة قطعًا ولن تستطيع أن تحقق أمرًا حقّقه سيدنا موسى بما في يده من العصا، إلا أن سيدنا موسى بهذه المعجزة يكون قد أشار إلى آخرِ الآفاق التي تستطيع البشرية الوصولَ إليها في مسألة استخراج الماء؛ بحيث إن البشرية إذا راعت السننَ التي وضعها الله فإنها -ولو لم تستطع أن تُخرج الماء بضربةِ عصًا- تستطيع بما تَمتلكه من أدوات الحفر والتنقيب أن تستخرج الماء من أقسى الطبقات الأرضية الصلبة.