الابتلاءات في الحياة الدنيا أنواع شتى؛ بعضها بيّن واضح، والبعض الآخر خفي نسبيًّا، ومن المسلَّم به أن الله لم يحمِّل الإنسانَ ما لا طاقة له به، ولكن قد يُبتلَى الإنسان بأمورٍ يجهلها ولا يعيها منذ الوهلة الأولى، فمثلًا قد يقوم بعمل صالح جميل، فيجثم على عالم خياله وتصوّره دخانٌ وضبابٌ، فلا يلبث إلا أن يسوقه نجاحُه إلى الكبر والغرور، وعند ذلك يحبط عمله وتنقطع بركته؛ لأن الإنسان إذا وضع في ذهنه فكرة أنه هو الذي خطّط وفعل ونجح؛ فقد أحبطَ كلّ عمله، وإنَّ عزْوَ الإنسانِ عملَه إلى نفسه، واعتباره ذلك العمل أثرًا من آثار عبقريته؛ إنما هو فكرة تنطوي على الشرك الخفي، لأن إبراز الأنانية دائمًا بمثابة دوامة لا تلبث أن تجر الإنسان -دون وعي منه- إلى الكفر والضلال.
ينبغي للإنسان كلما زاد الله من فضله وعطاياه وأثمر أعماله وخدماته أن يتوجّهَ إلى ربه بنفس القدر ماحيًا ذاتيته.
ومن ثمّ فمَن يرغب في الابتعاد عن مكائد النفس والشيطان ودسائسهما فعليه أن يضع في ذهنه أنه إنسان بسيط، حتى ولو تحققت على يديه أعظم الإنجازات، وارتقى بالإنسانية إلى السماء، وطاف بها بين الكواكب والنجوم.. بل وعليه أن يقول: “عجبًا! هل يمكن أن يستخدم الله سبحانه وتعالى في مثل هذه الأمور العظيمة أناسًا عاديين من أمثالنا؟!”، وإن كان لا بدّ من تفسيرٍ معقولٍ لهذه الجماليات فلكم أن تنظروا إلى المسألة من منظور الحكمة الإلهية قائلين: إن الله تعالى يستعمل أناسًا صغارًا ضعافًا من أمثالنا في هذه الأعمال العظيمة حتى يعلن عن عظمة نفسه سبحانه وتعالى، ومن الواضح أنه لا حول لنا ولا قوة للقيام بمثل هذه الأعمال الكبيرة، إذًا فهذا كله يدلّ على عظمته سبحانه وتعالى ليس إلا.
وإذا ما وجَّهْنا النظرَ إلى كتاب الكون لألفينا الشيءَ نفسه، فقد خلق الله تعالى عوالم فيزيائية ضخمة من جزئيات صغيرة جدًّا، فمهما كانت الكائنات كبيرة الحجم فإنها تتكوّن من ذرات، وهذه الذرات هي الأخرى تتشكّل من إلكترونات ونيوترونات وبروتونات، وربما خلقها الله جل جلاله من جزئيات أصغر أيضًا تسمى بالكوارك (quark) والإيون والأثير أو غير ذلك من العناصر التي لا نستطيع تحديد ماهيتها وحقيقتها، ولذلك ينبغي النظر إلى خلق الأشياء الكبيرة من عناصر صغيرة للغاية على أنها قانون فطري أو سنة إلهية.
الذين يربطون أعمالهم الصالحة بالمدح والثناء والتقدير والتصفيق فإنهم يبيعون أنفسهم بثمن بخس.
ويعبّر الأستاذ سعيد النورسي عن هذا المعنى: “إذا أسند كل مخلوق وكل ذرة مباشرة إلى الواحد الأحد وانتسب إليه فعندئذ يهدم النمل صرح فرعون ويهلكه، ويصرع البعوض نمرود ويقذفه إلى جهنم، وتُدخل جرثومة صغيرة ظالمًا جبارًا القبر، وتصبح بذرة الصنوبر الصغيرة بمثابة مصنع لشجرة الصنوبر الضخمة ضخامة الجبل، وتتمكن ذرات الهواء أن تؤدي من أعمال منتظمة مختلفة للأزهار والثمرات وتدخل في تشكيلاتها المتنوعة، كل ذلك بحول الله وبقوة ذلك الانتساب”[1]، وكل هذه الأمور تدلّ على عظمة الله تعالى وقدرته اللامتناهية.
إن التواضع هو علامة العظمة في العظماء، أما التكبر فهو أمارة الصغر والدناءة عند الأصاغر والأدنياء.
فإذا ما وضعنا هذه الحقيقة نصبَ أعيننا لا تسوقنا حتى أعظم الإنجازات والنجاحات إلى العجب والغرور، ولا تنسينا كوننا أناسًا بسطاء عاديين، ولنضع في اعتبارنا أن أعظم الفضل -على حد قول علي كرم الله وجهه- هو أن يكون الإنسان بين الناس فردًا من الناس، ولنتذكر دائمًا أن إعجاب الإنسان بنفسه، وعزوَه كل الجماليات إلى نفسه، وافتخارَه بنفسه وتمييزه لها عن الآخرين…كل ذلك أفكار شيطانية.
التواضع ونكران الذات
لقد أحدث مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم ثورة عارمة في العالم بأسره؛ فهزم -كما يقول الشاعر الإسلامي محمد عاكف- القياصرة والأكاسرة في نفخة، وأنقذ الإنسانية في كرَّة، ورغم ذلك لم يتخل طوال حياته عن التواضع ونكران الذات، ذات يوم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: “هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ“[2].
وكلما كان الحقُّ تعالى يعلن للكائنات كلها عن عظمة نبيِّه صلى الله عليه وسلم بألطافه وإحساناته كلما كان صلى الله عليه وسلم يزداد قربًا لربه، ويتّجه إليه بمزيد من الحمد والثناء، ويخفض أجنحة التواضع للإنسانية جمعاء، وفي الوقت ذاته لم يكن يتنكر لنبوته، وكيف ذلك؟! فهي المهمة الثقيلة الشديدة التي حمّلها إياه ربه! وهي من أركان الإيمان الأساسية، أما فيما سواها فكان يتورّع عن إظهار عظمته ومكانته، رغم أنه نبي الله الذي اصطفاه سبحانه لحمل دعوته، وعندما يُقبل عليه أحدٌ وهو بين الصحابة لا يستطيع أن يميزه بينهم بسهولة؛ لأنه لم يكن يختلف عمن حوله لا في ملبَس ومجلِس ولا في مأكل ومشرب ولا في حال وحركة.
وهذا هو معيار العظمة بالمعنى الحقيقي، أو لنقل كما ذكرنا كثيرًا في مناسبات متعددة: إن التواضع هو علامة العظمة في العظماء، أما التكبر فهو أمارة الصغر والدناءة عند الأصاغر والأدنياء.
من اليسير نسبيًّا أن نتحكّم في أنانيتنا عندما لا تلوح لنا في الأفق إلا نجاحات يسيرة، فما الذي يمكن أن تنسبوه لأنفسكم إذا كانت خدماتكم لا تزال عبارة عن رشحة صغيرة أو بصيص خافت من النور! أما إذا بدأت ألطاف الله تنهال عليكم زخًّا زخًّا فليس من السهل حينذاك أن تحافظوا على تواضعكم ومحويتكم؛ لأن خطر الوقوع في مستنقع الكبر والغرور يزداد أكثر فأكثر عند توجّه الناس إليكم وإقبالهم عليكم نتيجة ما قمتم به من أعمال منقطعة النظير، ولذلك فلا ننسَ أنّ نِعَمَ الله سبحانه وتعالى علينا هي في الوقت ذاته ابتلاءاتٌ يمتحنُنا بها.
ومن مقتضيات الفوز في هذا الامتحان ألا نعزوَ إلى أنفسنا ما حقّقناه من جماليات، وألا يغيب ربنا سبحانه وتعالى عن بالنا، ولنعْلَمْ جيّدًا أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء، فلو انفعل الناس في فترة ما للخدمة، وتحمّسوا لها، وهاجروا إلى كل أرجاء العالم للقيام بها فإنما هذا كله بفضلٍ من الله تعالى وعنايته، أما إذا استولت علينا فكرة الأنانية ونسَبْنا كلَّ شيء إلى تدبيرنا وتوجيهنا وفكرنا ومراجعتنا ونجاحنا؛ فسيسلب الله تعالى منا نعمه وأفضاله، فإن اقتصرت هذه الفكرة على مستوى الفرد فهي الأنانية الفردية، أما إذا تعدت إلى الجماعة فهي الأنانية الجماعية، بل يمكن أن نقول إنها “الشرك الخفي” كما جاء في الحديث الشريف.
كل من عند الله سبحانه وتعالى
ولذلك فإن إعطاء الأولوية للأنانية هو عامل رئيس من عوامل السقوط، وحتى نتخلص من الأنانية الفردية لا بد أن نشير إلى (نحن)، ونمزّق الـ(أنا)، ولكن نظرًا لأن هذا أيضًا قد يوقعنا في الأنانية الجماعية فيجب أن نسحق (نحن) أيضًا تحت أقدامنا، ونشير إليه (هو) سبحانه وتعالى فقط، ولنعلمنّ أننا الفقراء إلى الله دائمًا، والله هو الغني الأحد الصمد الأجل الأعلى.
ومع ذلك فمن الصعب جدًّا في زمنٍ تستمرّ فيه خدماتكم، ويضخِّم فيه الإعلام أموركم، ويُقبل الناس عليكم بالمدح والثناء؛ أن تتحكموا في مشاعركم وأفكاركم، بناءً عليه يجب عليكم أن تلتزموا التضرّع إلى الله تعالى من أجل اجتياز هذه الصعوبات، متمثّلين بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي فِي عَيْنَيَّ صَغِيرًا“[3]، صفرًا لا قيمة له، فهذا هو السبيل الوحيد للحصول على ثواب خدماتكم في الآخرة، وإلا لن تنتفعوا في الآخرة بأي عملٍ اضطلعتم به من أجل منفعتكم الخاصة أو حساباتكم الشخصية.
مَن يرغب في الابتعاد عن مكائد النفس والشيطان ودسائسهما فعليه أن يضع في ذهنه أنه إنسان بسيط، حتى ولو تحققت على يديه أعظم الإنجازات.
وكما جاء في الحديث الشريف[4] فقد يخسر خسرانًا مبينًا مَن يتّكل على أعماله الصالحة عند مثوله بين يدي مولاه عز وجل، إذ إنها لن تنفعه بشي طالما لم تكن خالصةً لوجه الله، فالأعمال الصالحة مثل الجهاد، والاشتغال بالعلم، والوعظ والنصح، والإنفاق إذا لم تكن لله، بل من أجل النفس والأنانية، ولِيُقال عن فاعلها أنه جريء، عالم، قارئ، جواد؛ فإنها تتسبب -والعياذ بالله- في هلاك صاحبها.. فالذين يربطون أعمالهم الصالحة بالمدح والثناء والتقدير والتصفيق فإنهم يبيعون أنفسهم بثمن بخس؛ لأنهم لما أخذوا مقابل ما عملوه في الدنيا لم يعد لهم ثواب يرجونه في الآخرة.. ندعو الله تعالى ألا يجعلنا ممّن يربطون أجورهم بأشياء صغيرة تافهة، ولا من الذين يقضون حياتهم أسارى لمتع الدنيا الزائلة، ولا من الذين يركضون وراء الملذات العاجلة، ولا من الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حتى لا نتردى في الخيبة والخسران في الآخرة!
أجل، ينبغي للإنسان كلما زاد الله من فضله وعطاياه وأثمر أعماله وخدماته أن يتوجّهَ إلى ربه بنفس القدر ماحيًا ذاتيته، ويقفَ بين يدي مولاه محمَّلًا بثقل النعم، شاكرًا في قيامه وركوعه وسجوده، ويقابلَ تلك النعم بالحيرة والذهول على اعتبار أنه ليس أهلًا لها، ويقول دائمًا -كما قال الشيخ محمد لطفي أفندي-: “نعمة لم أكن أنا الحقير أهلًا لها، فما سرّ هذا اللطف والإحسان؟!”.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب العشرين، ص 312.
[2] سنن ابن ماجه، الأطعمة، 30.
[3] البزار: المسند، 10/315؛ الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، 1/473.
[4] صحيح مسلم، الإمارة، 152؛ سنن النسائي، الجهاد، 22.