سؤال: ذكرتم سابقًا أنَّ تعمق الإنسان في عبوديته لله تعالى وارتباطَه به سبحانه إنما يتحقَّقان بمعرفةِ المرءِ نفسه وسبرِه أغوارها، فهل توضحون ذلك؟
الجواب: يُقالُ في اللغة العربية: “اَلْعَادَاتُ لَا تُتْرَكُ”، ومنها استُنبطت القاعدة: “تَرْكُ اَلْعَادَاتِ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ”، ومن هنا فإن كان من أمرٍ لا بدَّ أن يُحوَّلَ إلى عادةٍ فلا شيءَ أحقُّ من العبادةِ، فعلى المؤمنِ أن يتَّخِذَ من عبادتِهِ وطاعتِهِ الواجبةِ عليهِ لله تعالى وصلتِه به سبحانه عاداتٍ يستحيلُ أن ينفكَّ عنها أبدًا، ولو أنَّ الإنسانَ بعبادتِهِ وطاعتِه وصلتِهِ القويّة بالله جلَّ وعلا استطاعَ أن يَتَحَصَّلَ على هذه الخاصية، وأن يجعلَها عمقًا داخليًّا في وجدانِهِ فربما يصلُ إلى ما وصلَ إليه بعضُ أولياءِ الله الذين قالَ أحدهم يومًا: ” إن غاب قلبي عن مراقبةِ ربي طرفةَ عين فإنّني أموتُ مباشرة!” ولهذا فإنه مهمّ جدًّا بالنسبة للإنسان أن يتحرك وكأنه يرى الله تعالى أو أن يُوقنَ بأن الله تعالى يراه، وعليه أن يَجِدَّ دائمًا بحسِّهِ وشعورِهِ وإرادتِهِ في البحثِ عن رضا الله، وأن يبتعدَ تمامًا عمَّا يُغضِبُهُ ويُسخِطُهُ، وأن يخصَّه تعالى بما في داخلِهِ من مشاعرِ الحبِّ والاحترامِ.
على مؤمني اليوم أن يقتدوا بالصحابة الكرام، وألا يطلبوا أيَّ شيءٍ دنيويٍّ أبدًا، ولا سيّما إن كان أحدُهم يعمل في أيٍّ من مناصبِ الدولة فعليه ألا يستغلَّ منصبه وصلاحياته كي يحقق نفعًا لنفسه وأولاده وأقربائه.
والوصولُ إلى مثل هذا الحال من اليَنْعِ والنضوج هدفٌ بالنسبة لكلِّ مؤمنٍ، والأصحُّ أنَّه يجبُ أن يكونَ ذلك هو هدفه، غير أنَّه ينبغي للإنسان كي يصلَ إلى ذلك الهدف أن يراقِبَ نفسَه دائمًا، مُسائلًا في سرِّهِ بِكُلِّ صدقٍ: “تُرى هل أستطيع أن أتمثّل الحالَ اللازمَ من أجل الوصول إلى مثل هذا الأفق؟ هل أستطيعُ أن أُحلِّقَ دومًا نحو المعالي في سماوات الترقّي غيرَ مُكتَفٍ بالوضع الذي أنا فيه، وناشدًا المزيد والمزيد؟”.
“سبيلُ الحقيقة” والتواضع
إنَّ من الأهميّةِ بمكان بالنسبة لسالكِ سبيل الحقيقة أن يستهدف الذُرى والمعالي دائمًا، وألا يكتفي أبدًا بالمرتبة التي وصل إليها وهو يسيحُ في أفقِ الروح والقلب، وإننا لا نقصدُ بكلامنا هذا أن يُعَبِّرَ الإنسانُ عن نفسِهِ بإظهارِهِ مجموعة من الأشياء الخارقة للعادة، وإنما بمعرفتِه الله جلَّ جلالُه وتعمُّقِه في عبوديّتِهِ له سبحانه؛ بحيث يرى نفسه صفرًا في حضرته جلَّ وعلا، ومن ثم فلو افترضنا أنَّ إنسانًا ما استطاعَ بقوَّتِهِ الخاصّة أن يُغَيِّرَ اتجاهَ حركة العوالم كلِّها وليسَ الكرة الأرضيّة فحسب؛ فعليه أن يوقِنَ ويؤمنَ بأنَّه أمامَ عظمةِ الحقِّ تعالى وشؤونِهِ لا يُساوي أو يعدِل شيئًا ألبتّة، وأنَّ كلَّ شيءٍ منه جلَّ وعلا، ومن هذه الناحية فإنَّه يجب على سالكي سبيل الحقيقة ألا يطلبوا أبدًا أشياء خارقةً للعادةِ كالسَّيرِ على الماءِ دون الغرقِ فيه، والتحليق في الهواء بلا أجنحة، والطواف بالكعبة في لحظةٍ بطيِّ المكان وهم جلوس؛ فَطَلَبُ مثل هذه المنحِ التي وهبها الله تعالى بعضًا من أوليائه مخالفٌ لِروحِ سبيلِ الحقيقةِ؛ إذ الأساسُ في هذا السبيلِ هو التواضعُ ولينُ الجانِبِ واحتقارُ النفسِ وتعنيفُها، وبالمناسبة أقول: إنَّ أبطالَ الحقيقةِ الذين لا يطلبون هذا النوع من الرُّتَبِ والمقامات المعنويّة لا يطلبون أبدًا المقامات والرُّتَبِ الدنيويّة مثلَ منصبِ قائم مقام ووالٍ ونائبٍ ووزيرٍ وما شابهه.
إن ترديدَ كلمة “أنا” دائمًا يُشْبِهُ الطبلةَ التي تُقرَعُ فتُصْدِرُ صوتًا، فكما هو معلومٌ فإن الطبلةَ ما تُصدِرُ صوتًا إلّا لأنها خاويةٌ من الداخل، والشخصُ الذي يقولُ “أنا” دائمًا يحطُّ من نفسِهِ إلى دركةِ مخلوقٍ حقيرٍ أجوف كالطبلةِ.
وينبغي ألا يُفهم من هذا الكلام أنّنا نستخفُّ أو نُقلِّلُ من شأنِ هذه المناصب الإدارية، لكنَّ الميلَ إلى مثل هذه الأشياء أمامَ عظمةِ القِيَمِ الساميةِ النبيلةِ المنشودَةِ إنما هو سوءُ أَدَبٍ وإساءةٌ لِتِلْكَ الحقائق المرغوب فيها، فإن طُلِب في هذا السبيل “رضا الله” فلا بدَّ أن نعلمَ أنه ليس ثمةَ شيءٌ يفوقُ الرضى حتى يُعدَلَ عنه إليه، وإن استُهدِفَت “رؤيةُ جمالِهِ” فينبغي أن نوقِنَ أنه ليسَ ثَـمَّةَ ما هو أجمل منه كي يُمال إليه، وإن طُلِبَت الفردوس تَحتَّم أن نعلم أنه ليس ثمة مكان أهم منها فَيُسْتَنْكَفَ عنها إليه، وإن استَهدفَ الإنسان هذه الغايات السامية كلها كان نكوصُهُ عنها وتحوُّله إلى أشياء غيرها إساءة لتلك الغايات ليس إلا. أجل، إنْ طَلَبَ أحدٌ من رجال الحقيقة أن يكون خادمًا من خدام الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ومولى من مواليه فإنّه لا يقبلُ التحريرَ من هذا القيدِ أبدًا، بل يَصْرَخُ بأعلى صوتِه حال كونه مولى للمصطفى صلى الله عليه وسلم تعبيرًا عن رضاه بالإسلام متمثِّلًا في ذلك ترجمةَ قولِ مولانا جلال الدين الرومي:
صرتُ عبدًا، صرت عبدًا*** يا لَلْهنا فلقد صرت عبدكَ
وفي خدمتي إياك هرِمتُ *** واحدودَبَ ظهري وبتُّ مَنهَكا
إنّ الـــعـــــبـــــيــــــدَ حـــــــيـــــــــــــن تُـــــــعـــــــتَـــــــــقُ تُـــــــسَــــــــرُّ وتَــــــــمْـــــــــــــــــرَحُ
أمّـــــــــا أنـــــــا فـــــبــــــعــــــــبـــــــوديّـــــــتــــــــي لــــــــك أبـــــــتَــــــهِـــــــجُ وأفــــــــرحُ
فإنّه لن يستبدل بهذا أيَّ شيءٍ آخر، بل ويجب عليه ألا يفعل ذلك.
إن السبيلَ إلى الخلاصِ من عبوديّة الأشياءِ ينبعُ من العبوديّة الحقّة لله تعالى.
الأبواب مُغلَّقةٌ في وجه “الأنانيّ”
إن عَجَزَ الإنسانُ عن الخروجِ من دائرةِ نسبةِ الأمرِ إلى نفسِهِ فإنه يُصاب بِدَاءِ الأنانيّة، وبِقَدْرِ تعلُّقِهِ بأنانيَّتِهِ يقترب من الشيطان ويبتعد عن الله جلَّ جلاله، وكلُّ “أناني” يُفَكِّرُ في نفسِهِ فحسبُ لا تنفتِحُ له أبدًا أبوابُ الطريق الموصِّلة إلى الله تعالى، وكلّما أرادَ أن يفتَحَها وجَدَها موصدةً ومغلقةً على الدوام؛ فينتظر دون جدوى أمامها، لأنّه يستحيلُ وجودُ أو اجتماعُ شيئين مرَّةً واحدة، والواقع أن ثمة أمارة على الكِبْرِ والغرور في قولِ “أنا”، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: “مَنْ ذَا” فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: “أَنَا أَنَا” كَأَنَّهُ كَرِهَهَا[1]، لأننا ربما يكون ثمة نوع من الكبر في قول “أنا” هذا، فيصبح وكأنه قال “ليست لي حاجة إلى التعريف بنفسي”.
أجل، إن ترديدَ كلمة “أنا” دائمًا يُشْبِهُ الطبلةَ التي تُقرَعُ فتُصْدِرُ صوتًا، فكما هو معلومٌ فإن الطبلةَ ما تُصدِرُ صوتًا إلّا لأنها خاويةٌ من الداخل، والشخصُ الذي يقولُ “أنا” دائمًا يحطُّ من نفسِهِ إلى دركةِ مخلوقٍ حقيرٍ أجوف كالطبلةِ؛ إذ ليس من شأن عَامِرِ القلبِ أن يُصْدِرَ مثل هذا الصوت، وقد شَبَّه مولانا جلال الدين الرومي أمثال أولئك الأشخاص الواهين بِعُلَبٍ تحوي بداخلها بضعَ خرزاتٍ وخُشخيشاتٍ من قبيل اللُّعب تُصدر أصواتًا كلما حُرِّكَت، أما الأشخاص عامرو القلوب فقد شبَّههم بصناديق المجوهرات التي لا تُحدِثُ صوتًا ولا تُفْشِي سِرًّا لامتلائِها بالجواهِر.
إن الصمتَ علامةٌ على الحياءِ والتواضُعِ ولِيْنِ الجانِبِ، ومن يُجَسِّدُون هذه المشاعر في كلِّ أطوارِهم هم أناسٌ تأتي الحركةُ والعملُ على رأسِ أولويّاتهم ويسعَون لإنتاج مشاريع وخطط دائمةٍ من أجل بَلَدِهم وأمَّتهم والإنسانية جمعاء، وأفعالُهم تسبقُ أقوالهم، واختراعاتُهم تسبق أصواتَهم وكلامهم، تمامًا كما تَصِلُ الصواعقُ إلى أهدافها قبل أن يُسمَع صوتُ الرعدِ في السماء، أما البَطَرُ والخُيَلاءُ فما يحتويان إلا على الضجيجِ والإزعاجِ، وبالتالي فإن من يبنون حيواتهم عليهما لا يُصْدِرُون إلا ضوضاء فارغة، في حين أن الأساسَ هو أن يسبق العملُ القول، وقد دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام ربّه قائلًا: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/84) فطَلَبَ بذلك أن يُوفَّقَ للقيام بخدماتٍ أبديّة تمتدُّ إلى الأجيال القادمة، وهذا قولٌ يُؤْثِرُ الحركة والعمل ويجعلهما على سلّم أولويَّاته، ولذلك فينبغي للإنسان أن يَبْذُرَ الحبوبَ بالحقلِ بقدرِ معرفتِهِ واستطاعتِهِ، ويفوِّضَ الباقي إلى الله تعالى، غير أن الخدمةَ انطلاقًا من فكرةٍ عميقةٍ شاملةٍ كهذه لا تتحقَّق إلا بمعرفةِ الإنسان ربَّه سبحانه وتعالى وإدراكِهِ إيَّاه، وهذا مرهونٌ بما يُقابِلُهُ على الصعيدِ الآخَرِ من معرفةِ المرءِ نفسه وسبرِهِ أغوارَها.
كلُّ “أناني” يُفَكِّرُ في نفسِهِ فحسبُ لا تنفتِحُ له أبدًا أبوابُ الطريق الموصِّلة إلى الله تعالى، وكلّما أرادَ أن يفتَحَها وجَدَها موصدةً ومغلقةً على الدوام.
من لا يعرف نفسه لا يعرف ربه
رُويَ في الأثر: “مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ“[2]، ومن ثمَّ فإن من يدرس نفسَه ويحلّلُها -بما فيها البنيَةُ الفسيولوجيّة والوجدان بأركانه الأربعة: الإرادة واللطيفة الربانية (القلب) والذهن والحسّ- يعرف ربه بصورة أفضل وأحسن، وإن كان لهذه العبارةِ مفهومُ مخالفةٍ فهو على النحو التالي: “من لا يعرف نفسَهُ لا يعرفُ ربّه”، إذن يلزم الإنسانَ أن يعرف ماهيّة نفسه وكنهها كي يعرف ربَّه، وعلى حدِّ قولِ الأستاذ بديعِ الزمان فإنَّ الإنسان “مصنع متكامل”[3] كلُّ جزء فيه متناسِبٌ مع الآخَرِ تناسبًا حقيقيًّا، وهذا المخلوقُ يتناسبُ في الوقتِ نفسِهِ مع الكون أيضًا تناسُبًا حقيقيًّا وثيقًا، فمثلًا هناك علاقةٌ وصِلَةٌ بينَ فم الإنسان وبين ما سيأكله به من المأكولات، وكذلك ثمة علاقةٌ وصِلَةٌ بين عينيهِ وما سيَرَاه بهما من أشياء، إنها مناسَبَةٌ وصلةٌ يستطيع المرء في ظلِّها رؤية وتمييزَ الموجودات التي تتجلّى في أبعاد مختلفة.
وهذا التناسب الموجود بين أعضاء الإنسان قائم أيضًا بينه وبين غيره من الموجودات في الكون الذي يعيش فيه؛ فبحسبِ قول علماءِ الفيزياء والفلكِ ثَـمّةَ علاقةٌ وصِلَةٌ حتى بين أبعدِ الأنظمةِ والأجرام السماوية وبين الإنسان الذي يبدو مخلوقًا صغيرًا جدًّا على سطح الأرض، إلا أنه يجب البدء أوَّلًا من أقرب نقطة حتى يتسنّى إدراكُ هذه العلاقة وفهمُها، فمثلًا حين يُحَلِّلُ الإنسانُ نفسَه من زاوية العلاقة بين فمِهِ والموادِ التي سيأكلها وعينيهِ والأجسام التي تريانها لا بدَّ وأن يَصِلَ إلى الأدلَّةِ التي تؤكِّدُ وجودَ الخالِقِ الأعظَمِ ووحدانيَّته، ولأجْلِ ذَلِكَ فثمَّةَ كلامٌ مبارَكٌ طيِّبٌ وردَ في كُتُبِ التصوُّفِ يُقالُ إنه حديثٌ؛ جاءَ فيه الحقُّ تعالى يقول: “يا ابنَ آدم! يعرفُنِي من يعرفُ نفسَه، ومن يعرفُني يبحثُ عنّي، ومن يبحثُ عني يَجِدني بلا شكٍّ، ومن يجدُني ينالُ كلَّ رغباتِهِ وآماله بل وما هو أكثر، ينالها ولا يُفَضِّلُ عليَّ أحدًا، يا ابن آدم! تواضع فتعرفني.. جُع فتراني.. أِخْلِص في عبادتك فتصل إلىَّ.. يا ابن آدم! أنا الله؛ يعرفني من يعرف نفسه، ويجدني من يهجر نفسه… اهجر نفسك فتعرفني؛ فكلُّ قلبٍ لم يَعْمُر بمعرفتي أعمى صَدِئٌ!”.
من بنية الجسد إلى أعماق الروح
كتب “أليكس كاريل” في عام (1935م) كتابًا بعنوان “الإنسان ذلك المجهول”، وفيه لفتَ الانتباهَ إلى ما في جسم الإنسان من كمالٍ، وأنه حتمًا لا بدَّ وأن يكون له خالقٌ، وبهذا أنتجَ عملًا مهمًّا، وبغضِّ النَّظَرِ عما تعرَّضَ له مؤلِّفُ هذا الكتاب من حملاتٍ تشويهيّةٍ في تركيا من قِبَلِ البعضِ؛ فإنَّ قرَّاءَنا طالعوا كتابه هذا واستفادوا منه، وبينما كان الناس ولا سيما الأطبّاءُ يُطالِعون تلك التحليلات التي أجراها هذا الكتاب؛ كانَ ينتهي بهم الحالُ مع كلِّ فصلٍ إلى قولِ: “لا إله إلا الله”؛ لأنه يستحيل بيانُ ذلك التناسبِ الخارقِ للعادةِ الكامنِ في جسمِ الإنسان مَا لَمْ تتدارَكْنا قدرةُ الله تعالى وعِنايَتُه.
وبعد أن يتعرَّف الإنسانُ بهذا الشكلِ على علاقةِ تلك الأمور وصِلَتِها بالأشياء وفي مقدِّمَتِها علمُ التشريحِ الإنساني وبنيتُهُ الفسيولوجيّة، أي بعد أن يتعرَّف على عالمه الخارجيّ ينبغي له أن يتَّجِهَ إلى معرفةِ نفسِهِ وآليَّاتِهِ الوجدانيّة وما يكتَنِفُ كنهَهُ من أحاسيسَ، وهو ما يمكننا أن نُطْلِقَ عليه كله اسمَ “العالَـمِ الداخليّ”، وإن وقوعَ حوادثَ من قَبيلِ شعورِ الإنسانِ بشيءٍ ما قبلَ وقوعِهِ مما يُـمْكِنُ وصفُهُ بأنه “الحدس أو التنبُّؤ الداخلي”؛ كأن يلتقيَ الإنسانُ عصرًا شخصًا خطرَ ببالِهِ صباحًا، أو أن يَرى في رؤياه مشاهدَ من “عالم المثال” و”عالم البرزخ”، وأن تظهرَ بعضُ الأشياء التي رآها في منامه بعينِها أو بالشكل الذي أوَّلها به الواقفون على “تأويل الأحاديث”… كلُّ هذا ما هو إلَّا أحداثٌ يعيشها الإنسان في عالمه الداخلي، ولا يمكنُ إيضاحُ هذا في إطارِ دائرةِ الأسبابِ الحسِّيّة.
وانطلاقًا من هذا كلِّه فإن الإنسانَ حين يُواصِل رحلتَه في عالمهِ الداخليّ يعرف نفسه إجمالًا ويصل إلى وجود الخالق الأعظم، ومن ثمّ يعرفُ ربَّهُ حقَّ المعرفة.
الحرية الحقيقية
ثمة عبارةٌ يقال إنها حديث ورد فيها عن رب العزة أنًّ: “من يعرفني يبحث عني”، وقد يرتبط هذا الأمر بالمبحث السابق أيضًا، فكلَّما عرفَ الإنسانُ الخالقَ العظيمَ أكثر كلّما أعملَ فِكْرَهُ على منوالِ: “ترى ماذا يريد الله مني؟ كيفَ أَصِلُ إلى جوارِهِ تعالى، وكيفَ أملأُ قلبي بالشوقِ إليه؟ فواجبي أن أملأَ قلبي بالشوق إليه، وهذا حقُّهُ، ويجبُ أن يتجلَّى هو فحسب في صدري، ويجب أن أخرجَ وأطرحَ كلَّ شيءٍ سواه!”، وعَمَّق بحثَهُ وتنقيبَهُ في ذاتِهِ، وقد عبَّرَ “فضولي” عن هذه الحقيقة شعرًا فقال:
ليس بعارفٍ من يعرف أمور الدنيا وما فيها
وإنما العارفُ مَن استبدَل الأمورَ الدنيويّة بِفهم كنهِها وأسرارِ ماهيَّتِها
أجل، كما أُشير إليه في هذين البيتين فإنَّه يجب على الإنسان أن يقتلِع من قلبه الدنيا وما فيها ويطرحها تمامًا، وأن يَعْمُرَ قلبه بالله سبحانه ويُجيِّشَه به دائمًا، وأن يشغل فكره وعقله به أبدًا، فإذا ما فعل الإنسان هذا فقد وجدَ الحقَّ تعالى، ولن يَتِرَ الله تعالى عَبْدَهُ في مقابلِ ذلك، وإنما سيَمُنُّ عليه -كما ورد في بقيّة النص الذي يُرْوَى في الأثرِ على أنّه حديثٌ قدسيّ- بكلِّ رغباتِهِ بل وبما هو أكثر منها، وما أجملَ تعبير الأستاذ “محمد لطفي أفندي” عن هذه الحقيقةِ حين قال:
أَيُعْقَلُ إنْ أحببْتَ مولاكَ
ألا يحبّك ولا يرعاكَ؟!
أيُعقل أن تطلبَ رضا الحقِّ
فلا يمن عليك برضاه الـمُطْلَقِ؟
“لمْ أدخلْ في الإسلام من أجلِ الغنائِمِ يا رسول الله!”
إن المؤمنَ الذي يَصِلُ إلى هذه المرتبةِ ينجو من ربقةِ العديدِ من الرغباتِ والأهواءِ، ويَصِلُ إلى الحرِّيَّةِ الحقيقيّة، لأنّ “الحرية الحقيقيّة تنبعُ من العبوديّة لله تعالى” فَعِبَادُ الله حقًّا يتخلَّصون وينجون من العبوديّة لغيرِهِ، أما مَنْ لم يعبدوهُ حقَّ عبادَتِهِ فإنَّهم سيعبُدون مئات الأنواعِ من الأشياءِ حتى وإن سجَدَتْ جباهُهُم له تعالى؛ فقد يقعُون في عبادةِ المنصِبِ والمقامِ والخوفِ والأهل والعيال والراحة والمتعة واللهو والبوهمية والإطراء والتقدير والمنازل الساحلية لأجلِ الأهلِ والأسرةِ، والعقارات والقصور… إلخ؛ كلُّ هذا بينما لم يكن المشركون في الجاهلية يتّخِذون لأنفُسِهم أوثانًا بهذا القدر الكثير والكبير!
أجل، إن السبيلَ إلى الخلاصِ من عبوديّة الأشياءِ ينبعُ من العبوديّة الحقّة لله تعالى، وما أجملَ حياة ساداتنا الصحابة وما أبرزها من نماذج يجملُ الاقتداء بها في هذا الشأن، ومن ذلك على سبيل المثال سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه الداهية العسكري والسياسي؛ فعلى الرغمِ من تأخُّرِ إسلامِهِ إلا أنه لما أسلمَ فهِمَ روح الدين فهمًا يستحيل ألَّا يخلبَ الأذهان ويبهرَ الألباب.
إنَّ من الأهميّةِ بمكان بالنسبة لسالكِ سبيل الحقيقة أن يستهدف الذُرى والمعالي دائمًا، وألا يكتفي أبدًا بالمرتبة التي وصل إليها وهو يسيحُ في أفقِ الروح والقلب.
فلقد سافر سيدنا عمرو بن العاص إلى المدينة بعد صلح الحديبية قاصِدًا الإسلامَ، فلما وصلها ودخل إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم كان وكأنّه يرتَعِشُ خجلًا منه، لأنه كان قد أساءَ إلى مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم من قبلُ، غير أنَّ رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم لم يحمِلْ في نفسه أيًّا من تلك الإساءات، وإنما نسيَها تمامًا، ولنترك الحديث لِعمرِو بن العاص، إذ يقول محدِّثًا عن نفسِهِ: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: “مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟” قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: “تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟” قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: “أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟”[4]، وبعد أن أسلم عمرو بن العاص بمدة قصيرة دعاه مفخرةُ الكونِ صلواتُ الله عليه، قال عمروٌ: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي” فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: “إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأرغبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً“، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: “يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ“[5].
إن عَجَزَ الإنسانُ عن الخروجِ من دائرةِ نسبةِ الأمرِ إلى نفسِهِ فإنه يُصاب بِدَاءِ الأنانيّة، وبِقَدْرِ تعلُّقِهِ بأنانيَّتِهِ يقترب من الشيطان ويبتعد عن الله جلَّ جلاله.
وعلى نفسِ الشاكلةِ فإنَّ سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام حين أراد أن يعطي صحابيًّا -لم تُسَمِّه المصادر- نصيبَه من الغنيمة قال له ذلك الصحابي: “يا رسول الله! لا أستطيعُ قبول هذا، إنني أسلمت على أن يصيبني سهمٌ من هنا -وأشار إلى فِيهِ- فأَسْتَشْهِد”، ورَدَّ نصيبَه من الغنيمةِ، وفي النهايةِ أُصيبَ ذلك الصحابيُّ بِسَهْمٍ في فمِهِ كما تنمَّى واستشهدَ بِضرْبَةِ سهمٍ، فارتقى إلى الآفاق العُلى[6].
وهناك أيضًا أبو سفيان الذي حاربَ رسولنا صلى الله عليه وسلم وعارضه حتى فتح مكة؛ أُصِيبَتْ عينُهُ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعينُهُ في يدِهِ، فقال: يا رسول الله، هذه عيني أُصيبَتْ في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن شئتَ دعوتُ فَرُدَّتْ عينُك، وإن شئتَ فالجنَّةَ -وفي روايةٍ- فعينٌ في الجنة“، قال: فالجنّةَ، ورمى بها من يده، وقُلِعَتْ عينُهُ الثانية في القتال يوم اليرموك عند منازَلَةِ الروم[7].
إنَّ هذه النماذج تضعُ أمام الأنظار مدى تأثير المعلّم فيمن يعلِّمُهُ والمُرَبِّي فيمن يُربِّيه، وهو ما عَبِّر عنه “نيازي المصري” بقوله:
لا تركننّ إلى أيِّ مرشدٍ فينقلِب الفسيحُ أمامك إلى مضيق
أما مَن استرشدَ بالمعصومِ سَهُلَ عليه اجتيازُ وسلوك الطريق
وإلى جانبِ ذلكَ فإنها تشكل في الوقت نفسهِ ارتقاءً عموديًا دفعةً ومرةً واحدةً.
على المؤمنِ أن يتَّخِذَ من عبادتِهِ وطاعتِهِ الواجبةِ عليهِ لله تعالى وصلتِه به سبحانه عاداتٍ يستحيلُ أن ينفكَّ عنها أبدًا.
ومن هنا فعلى مؤمني اليوم أن يقتدوا بالصحابة الكرام، وألا يطلبوا أيَّ شيءٍ دنيويٍّ أبدًا، ولا سيّما إن كان أحدُهم يعمل في أيٍّ من مناصبِ الدولة فعليه ألا يستغلَّ منصبه وصلاحياته كي يحقق نفعًا لنفسه وأولاده وأقربائه؛ وألا يستحوذ على شيء سواء كان سيارة أو طائرة أو يختًا أو سفينةً، فيستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل ينبغي للإنسان السعيُ والعملُ في اتجاه نَيلِ رضا الحقِّ تعالى، وألا يستبدلَ الرضا الإلهيَّ وجمالَ الله والشوقَ للقائِهِ، والمعيّة النبويّة السنيّة بأيٍّ شيءٍ على الإطلاق، فيكونُ لسانُ حالِهِ كما وردَ في البيتِ الشهيرِ:
الله ربــــــــــي لا أريــــــــــدُ ســــــــــــــــــواهُ *** مــــــا في الـــــوجــــــودِ حـــــقــــيــــقــــــة إلّاهُ
ويلزمُه حتى وإن عُرضت عليه الجنان في مقابل تخلّيه عن كلِّ هذا أن يُجسِّدَ دورَ البطولةِ في الترفُّعِ عن تلك الجنان فيقول: “عجبًا! أيُّ نوعٍ من الاعوجاجِ رأَوْهُ فيَّ فَجَعَلَهُم يَعْرِضُون عليَّ شيئًا في مقابِلِ التخلِّي عن رضا الله والشوقِ الإلهيِّ ورؤيةِ الله تعالى؟!”، عليه أن يشحذَ قلبَهُ بمثلِ هذه المشاعِرِ، ويملأَهُ بها ويُجيّشُهُ، فلا يستوعب شيئًا غير ذلك؛ لأنَّ أشياءَ كالتحليقِ في السماءِ والسَّيرِ على الماءِ دونَ ابتلالٍ، ومعرفةِ بواطنِ البشر، وإخبارِهم بما يخطرُ على أذهانهم بمجرَّدِ النظَرِ في وجوهِهِم هي أشياء بسيطة لدرجةِ أنها لا قيمةَ لها كالغثاء بالنسبة للسيل.
والحاصلُ أنَّ مَن نَذَرُوا أنْفُسَهم لإعلاءِ حقائِقِ الإيمانِ والقرآنِ وإقامةِ صرحِ الروحِ مطالَبون؛ بل ومضطرُّون إلى التنبُّهِ جيِّدًا لما سبقَ بيانُهُ وإيضاحُهُ من أمور، وعليهم أن يُعْرِضوا عن الدنيا وما فيها، وأن يسعوا إلى الاستقامةِ بِرونَقِها الصحيحِ وأُسُسِها الصافيةِ النقيّة، وعلى النحوِ الذي يطابِقُ تمامًا معنى الاستقامةِ عندَ الذاتِ الإلهيَّة، وعلى النحو الذي يوافِقُ حُكْمَ الآيةِ الكريمة ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 112/11)، لا وفقَ ما اعتبروه صحيحًا من وجهةِ نَظَرِهم.
[1] صحيح البخاري، الاستئذان، 17؛ صحيح مسلم، الأدب، 38-39.
[2] الأصبهاني: حلية الأولياء، 208/13، الغزالي: إحياء علوم الدين، 72/4؛ المناوي: فيض القدير، 225/1.
[3] انظر: الكلمات، الكلمة الثالثة عشرة، المقام الثاني، ص 173.
[4] صحيح مسلم، الإيمان، 192؛ مسند الإمام أحمد، 204/4.
[5] مسند الإمام أحمد، 298/29 .
[6] انظر: سنن النسائي: الجنائز 61؛ عبد الرزاق، المصنف، 276/5؛ الحاكم: المستدرك، 688/3.
[7] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 435/23؛ ابن حجر، الإصابة، 334/3؛ ابن برهان الدين، السيرة الحلبيّة، 164/3.