ومن الغفلة إبداءُ العناية الكاملة بالأسباب، وربطُ كلِّ شيءٍ بهذه الأسباب، ونسيانُ مسبّب الأسباب أو عدم القدرة على رؤيته أو تعاميه.. ولقد حاول الأستاذ النورسي رحمه الله في رسائله أن يفرّج الأبواب على مسبب الأسباب، ويوجّهَ الأنظار إليه تعالى؛ فعلى سبيل المثال يقول في موضعٍ ما من رسائل النور عن الحكمة من وجود الأسباب: “إن العزّة والعظمة تستدعيان وضع الأسباب الظاهرية أمام نظر العقل، إلّا أن التوحيد والجلال يردّان أيدي الأسباب عن التأثير الحقيقي”[2]..
وفي موضع آخر يقول: “لئلا يُرى في ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة بالأمور الخسيسة في جهة مُلك الأشياء”[3].. وهذا يعني أن الأسباب ليست المؤثر الحقيقي، لكن ربما تكمن قيمتُها في أنها تجلّ من تجلياتِ أسماءِ اللهِ تعالى التي اخترقت كثيرًا من الحجب، ولذا فإن كان لا بدّ من إعطاء قيمة للأسباب فينبغي النظر إليها على أنها من خلق الله تعالى، ومع ذلك فالتقليل كليةً من قدرها يُعتبر نوعًا من الجبر، أمّا مَنْ يعتبر الأسباب كلَّ شيء فقد وقع دون أن يدري في غفلةٍ عن مسبّب الأسباب سبحانه وتعالى.
ولتوضيح هذا إليكم هذا المثال: هبْ أن صديقًا لكم سافر للمرة الأولى إلى مكانٍ ما، فأجرى اللهُ على يديه كثيرًا من النتائج المثمرة، لدرجة أنّ الزهور قد بدأت تتفتح والبلابل تغرّد في كل حقول الشوك الموجودة هنالك، حتى تحوّل المكانُ إلى حديقة غنّاء.. فلما رأى صديق هذا الشخص الجماليات التي تحققت على يد صديقه أخذ يمتدحه وينسب الجماليّات إليه ويقول: “ما كان لهذه الجماليات أن تكون لولا وجود صديقي فلان”، فمثل هذا القول قد يسوق الشخص الممدوح إلى غفلةٍ كالتي تردى فيها المادح، لأن المخاطبَ الممدوح إن لم يكن في حالةٍ تسمح بتحمّل عبء هذا المديح الثقيل فقد قطع صديقُه المادحُ عنقَه كما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم[4].
ومن الغفلة أيضًا نسبةُ الخدمات التي تقوم بها الجماعةُ إلى الشخص الذي يبدو بارزًا فيها، لأن إعطاء القائد كلَّ غنيمةِ الجيش، يعني غمطَ حقوقِ جميع الجنود.
أجل، لا يصحّ أن تُنسب الثمرات التي جناها الكثيرُ من الناس بسبب غيرتهم وهمتهم إلى القائم على الأمر فحسب، فضلًا عن ذلك لا بدّ ألا ننسى أن السبب في توفيق الله تعالى لهؤلاء هو وفاق هؤلاء الناس واتفاقهم؛ بمعنى أن الحق تعالى قد تفضل عليهم بالوفاق والاتفاق وعدم نشوب الخلاف رغم أن كل واحد منهم يحمل غرورًا وأنانية خاصة به.
ولذا فإن تجاهل كلّ هذا ونسبة النجاحات والتوفيقات إلى شخصٍ أو عدةِ أشخاص يقومون على الأمر، والاعتبار بالأسباب فقط لهو عينُ الغفلة عن مسبِّبِ الأسباب سبحانه وتعالى.
المصدر: فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2017، طـ1، صـ190/ 191/ 192.