سؤال: إنَّ مَنْ لا يسكتون على الظُّلمِ والجَورِ ويحاولون تحذيرَ الناس من المنكرات يتعرضون لهجمات كالافتراء عليهم وتهديدهم وقمعهم؛ فما التصرُّفُ الذي يتَّفِقُ مع القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وينبغي لهؤلاء الناس أن يلتزموه في مواجهة ما يتعرضون له؟
الجواب: يبيِّنُ الحقُّ تعالى في قوله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 110/3) أنَّ أمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هي خيرُ أمَّةٍ أُخْرِجت للناس، وقد ربطَ الله عزَّ وجلَّ وصفَ الخيريَّة هذا بصِفَتِها آمرةً بالمعروفِ ناهيةً عن المنكر إلى جانب صفة الإيمان، وبتعبير آخر رَبَطَهُ بنشرِها الخيرَ وحمايتِها الناسَ من أضرارِ الشرِّ، ومن هذه الناحية فإنَّه ينبغي للمؤمن إذا أرادَ تنشِئةَ جيلٍ نموذجيٍّ قدوةٍ تغبِطُه حتى الملائكةُ عليهِ؛ أن يُساهمَ -بواسطةِ الأمر بالمعروف- في تحليةِ الناسِ بالفضائلِ والمحاسِنِ، وأن يسعى -بواسطة النهي عن المنكر- إلى تخليةِ الناسِ عن الرذائلِ، ومنعِهم ممّا استنكره واستحقره اللهُ جلّ جلاله ورسولُه صلى الله عليه وسلم والعقلُ السليم والطبيعةُ البشرية.
فِعلُ الخيرِ سِرًّا
إن التحذيرَ من الشرور والآثام له سُبُلٌ مؤَطَّرَةٌ وقنواتٌ خاصّةٌ وحدودٌ واضحةٌ، فيجبُ ألا ننسى أن الموقف الواجب اتِّخاذُه عند النهي عن المنكرات لا يكون موجَّهًا للشَّخْصِ نفسِهِ، بل للأوصاف السيِّئَةِ الموجودة فيه، وبتعبير آخر: إنَّ كلَّ صفةٍ سيّئةٍ تُشبِهُ فيروسًا يُصيبُ البَشَرَ، والغايةُ الأصليّة من النهي عن المنكر هي القضاءُ على ذلك الفيروسِ لا على حامِلِهِ حتى يستردّ الفردُ صحَّتَهُ وعافيَتَهُ وأمنَه وطمأنينتَهُ مجدّدًا، ولذا فإنَّ المؤمن يقف في وجهِ الصفاتِ الذميمةِ، بل يعلن الحربَ عليها، لكن ينبغي له أن يكون رحيمًا إلى أبعد الحدود بمن يحملونها، ويستخدمَ تجاههم لغةً وأسلوبًا ليّنًا، لدرجة أنه يجبُ عليكم وأنتم تُحَذِّرون مرتكبي المنكرات مما يفعلونه ألا يَفطنوا إنْ كنتم تعارضونهم أو لا. أجل، ينبغي لكم أن تتحرّكوا وتتصرّفوا هكذا بأسلوبٍ رقيقٍ دقيقٍ حتى يتسنَّى لهم أن يتخلَّصُوا سريعًا ودون وعيٍ من تلك الصفات الذميمة التي يحملونها، ويخلعوها عنهم كما يخلعُون ملابِسَهم تمامًا؛ فالتصرُّفُ هكذا هو أحدُ ضروريّات وثوابتِ السلوكِ والمنهجِ النبويِّ صلى الله وسلّمَ على صاحبِهِ.
وإن قابَلْتُم المواقفَ والسلوكيّات السلبية بِمِثْلِهَا فإنّكم تُضَاعِفُونها أكثر بدلًا من أن تمنعوها، ولا سيما في عصرنا الذي تُضَخُّ فيه السلبيَّات إلى الناس دائمًا؛ مما أدّى إلى ممارَسَتِهِم العديدَ من السلوكيات والتصرفات المنبوذة، وهذه مسألةٌ شديدة الخطورة.إذًا كونوا -كما وصفَ وأرادَ مولانا جلال الدين الرومي- شمسًا تلاطِفُ الجميعَ شفقةً ورحمةً، وترابًا تدوسُه الأقدامُ تواضعًا ولينَ جانبٍ، ومطرًا يروي النباتَ والشجرَ كرمًا ومعونةً، وشجرًا نافعًا للآخرين ظِلًّا وثمارًا، وليلًا يوارِي كلَّ شيءٍ سترًا للعيوب، وميِّتًا بُعدًا عن الحدّة والعصبّية، ومحيطًا متراميَ الأطراف تسامحًا وصفحًا… كما ينبغي لكم أن تُحافظوا على نفس الموقف لا سيّما تجاه من بَعُدوا عنكم وانزلَقُوا في مجموعةٍ من الأخطاءِ والزلّات بسبب همزات الشياطين وإغواءِ النفسِ الأمارةِ بالسوءِ رغمَ أنهم يتَّجِهونَ إلى نفسِ القبلةِ التي تتّجهون إليها ويسجدون معكم حيث تسجدون، فيجب عليكم أن تَثبُتوا على موقفكم وتُحافظوا على منهجِكم معهم حتى وإن بَعُدوا هم عنكم؛ لأنكم إن بَعُدتُم عنهم شبرًا كلَّما بعدوا عنكم شبرًا تضاعَفَت المسافةُ وشَسَعَ البونُ بينكما، غير أنكم إن تَثبُتوا على موقفكم تُقلِّصوا المسافة بينكما، ويصبح هذا البعد خطأً قاصرًا عليهم دونكم، فلو أنهم ندِموا ذات يومٍ وأرادوا الرجوعَ فإنهم لا يُعانون كثيرًا في تلافي أخطائهم التي ارتكبوها، ولا يضطرّون في سبيلِ تحقيقِ ذلكَ إلى استخدامِ جدليّاتٍ وحُججٍ واهيةٍ مختلفة، فليس من الجيِّدِ تضخيم الفتنة وتوسيعها، بل المهمُّ هو التصدّي لها بدِرْعِ الفطنة والقضاء عليها.
الامتحان بمشاعر العزّة والشَّرَف
قد يَعُدُّ البعضُ اتخاذَ موقفٍ تجاهَ هذا النوع من الناس أحدَ ضروريّات حمايةِ شرفهم ومجدهم وعِزّتهم، غير أنَّ مفخرةَ الإنسانيّة صلى الله عليه وسلم -تاجَ الشَّرَفِ والمجدِ وقِمّتَهُ- قد رجعَ خطوةً إلى الوراء في بعضِ المواقف الحسّاسة حين استدعى الأمر ذلك؛ مُفكِّرًا فيما سَيجْنِيه من مكتسبات ومنافع لاحقًا، وبهذه الطريقة علَّمَنَا أن التراجُع قليلًا حين يقتضي الأمرُ ذلك إنّما هو مِن إستراتيجيّاتِ المسلمين.
فمثلًا لقد خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمَ من المدينةِ ومعه أصحابُهُ الكرام قاصدينَ مكّةَ المكرَّمةَ لأداءِ مناسكِ العمرة، واجتازوا لأجلِ ذلك زهاءَ أربعمائة كيلومتر ركوبًا على الخيل والجمال، غير أنّهم لما اقتربوا من مكّة ولم يبقَ بينهم وبينها إلا مرحلَتَين أو ثلاثة؛ اعترضهم مشركو مكَّة ومنعوهم من دخولها؛ إذ حاصرَ خالدُ بن الوليد المعروفُ بدهائه العسكري -ولم تكن عيناه آنذاك قد انفتحتا على الحقيقة بعدُ- حاصرَ المسلمينَ بكتيبتِهِ المختارةِ من صفوةِ خيَّالةِ قريش، منعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه من الدخول فلم يعترضْ مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم على هذا، في حين أنَّ مَنْ كان هناك من ساداتنا الصحابة كانوا قادرين -بإشارة منه صلى الله عليه وسلم- على أن يناضلوا بحقٍّ واستماتةٍ ويتغلَّبوا -بإذن الله تعالى- على مشركي مكةَّ وفيهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، ويدخلوا مكَّةَ عنوة.
لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ائْتَمَنَ نفسَهُ على شرفِ وعزَّةِ أتباعِهِ إلى جانبِ عِزَّتِهِ وشرفِهِ نفسِهِ وافق على المادة الواردة في المعاهدة بشأنِ عودةِ المسلمين من حيث أتوا دون أن يَعْتَمِروا ويزوروا مكَّةَ هذا العام، لقد وافقَ رَغْمَ وعدِهِ أصحابَهُ ومعرفتِهِ مشاعرَهم وأحاسيسَهم، وعاد بعد إبرام المعاهدة هو وأصحابُه سويًّا إلى المدينة دون أن يعتمروا، وعلى نفسِ الشاكلةِ أيضًا فقد أمر صلى الله عليه وسلم بِنفسِه أن تُمسَحَ عبارةُ “رسول الله” المدونةُ في أوّل المعاهدة بسبب اعتراض المشركين عليها، كما قَبِلَ صلى الله عليه وسلم مواد الاتفاقيّة التي بدت في ظاهرها ضدّ المسلمين في صلح الحديبية كمادة أنه: “من أتى محمدًا من قريش من غير إذن وليه رده محمدٌ إليهم، ومن جاء قريشًا مِمَّنْ مع محمد لم يُرَد إليه”، حتى إن بعض المسلمين الذين كانوا يُعذَّبون في مكّة أثناء الصلح كسيدنا أبي جندل هربوا ولجؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنّه صلى الله عليه وسلم أعادهم كرْهًا وعلى مضضٍ، بسبب إصرار المشركين وإلحاحهم على تفعيلِ الاتفاقيّة مباشرةً.
إن هذه هي النقطة التي تُنتهك فيها الشرفُ والعزةُ من جانبٍ، وقد تحمَّل كلَّ هذه الأمور مفخرةُ الإنسانية صلى الله عليه وسلم الذي اعتصر وجدانه ألمًا وشعر بكلِّ الآلام والهموم التي اكتَنَفَت مشاعرَ ساداتِنا الصحابة في مواجهة تلك الأحداث، وعند النظر إلى هذه الأحداث يمكن تقييمُها -في جانب منها- على أنها خطوة للوراء، غير أنَّ كلَّ واحدةٍ منها كانت حملةً مهمَّةً جدًّا من أجلِ الانتقالِ إلى الشدِّ المعنويِّ والسيرِ قُدمًا نحوَ الفتحِ المستقبليِّ الـمُنتَظَر؛ حيث إنَّ الرجوع خطوةً إلى الوراء هنا شَكَّلَ ظروفًا مناسبةً وأرضيَّةً خصبةً لفتح مكة فيما بعد، وكوّنَ مناخًا ملائمًا استطاعَ المسلمونَ خلالَه بفضلِ الله فتحَ مكّة بسهولةٍ ويُسرٍ.
الصبر الفعّال ولحظة تنسيم التجلّيات الإلهيّة
قد يُساءُ إلى شَرَفِنا وتُكسَر عِزَّتُنا ونُؤذَى نفسيًّا في يومنا الحاضر أيضًا، ونتعرَّض للحقد والبُغض والحسد حتى يصل الأمرُ لمعارضة أجمل الأعمال التي نضطلع بها وأكثرها معقوليّة فتُوصَفُ بأنها شيطانيّة، وفي فترةٍ زمنية معينة كان يُهاجمكم مَنْ ينزعجون من كلِّ شيء يتعلق بالدين، ويفتشون في كلِّ ما يخصُّكم صغيرًا كان أو كبيرًا، ويُخْضِعونه للمراقبة، وقد مرَّت سنوات على هذا، ولكنه لم يتغيَّرْ شيءٌ كثير؛ إذ جاء المتذَبْذِبون -الذين هم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- بعد الملحِدين، وواصلوا هذا الظلم، وبعد أن ذهبوا هم أيضًا جاءت هذه المرةَ مجموعةٌ من المسلمين استجمعت في يدها قوَّةً وإمكانيَّاتٍ معيّنة، وبدأت هي الأخرى تستسيغُ المظالم التي ارْتُكِبَتْ سابقًا ضدّكم بسبب تديُّنِكم والتزامِكم، وعارضت بأسلوبٍ مُغرِضٍ -لم تتخِذْه ضدّ أيِّ شخص على الإطلاق- المدارسَ والمدنَ الطلابيَّة ومراكزَ التأهيلِ الجامعيِّ التي أنشأها شعبُنا المخلصُ بكلِّ جهدٍ وإخلاصٍ، وأَعْدَت هذه المجموعةُ بعضَ الناس ضدّ تلك المراكز التعليميّة “أملًا في العثورِ على ثغرةٍ فيها!”، وذلك لأنَّ الحسدَ والحقدَ يجعلُ الإنسان يأتي من الشرور ما لا يأتِيه الكافر أحيانًا.
غير أنّه ينبغي لنا ألا نفزعَ أو نهتزَّ في مواجهة كلِّ هذه الشرور والمساوئِ، وألا نتشدَّقَ قائلين: “مجدي، وعزّتي!”، بالعكس يجب الانتباهُ إلى أنَّه ثَـمَّة مظالم وأضرارٌ تقعُ في محيط إذن الله تعالى لِحِكَمٍ خفيّة، والتي لو لم يأذنْ بوقوعها لما استطاع أحدٌ أن يَضُرَّ أحدًا، فيجب الرضا بما يقسمُه، والتوجُّهُ إليه تعالى ثقةً في رحمتِهِ وعطفِهِ، ومن هذا القبيلِ قولُ الشاعر:
ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ
وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ
فكلاهما صفاءٌ للروحِ
فما أحلى لطفه وما أعذب قهره!
ويجب انتظارُ اللحظات التي ستُنَسِّمُ فيها تجلّيات العناية الإلهية، وإنْ وَقَعَ ظلمٌ واضطهادٌ من أعداءِ الدين أو حتى من المتذبْذِبين، أو من المؤمنين الذين أَكَلَهم الحسدُ، أو حتى ممّن يَبدون مسلمين ظاهريًّا وشكليًّا ممّن يضعون جباهَهم على الأرض؛ فإنه يجب علينا ألا نتخلّى أبدًا عن أفكارِنا ومشاعرِنا ومبادئِنا الأساسيّة في هذا الشأن، وينبغي لنا أن نفتحَ صدرَنا للجميعِ دائمًا، ونعرف كيف نرسل باقات المودّة والمحبّة إلى الجميع، ويجبُ علينا أن نقابلَ كلَّ سهمٍ يرمينا به المعتدونَ بوردةٍ نرسلها إليهم عوضًا عن كلِّ سهم، وأن نُمطِرَهم بالورود بدلَ السهام، وسواء فَهِمُوا هذا أَمْ لم يفهموه؛ فإنّنا سنظلُّ مخلصين صادقين لما نفهمُه من القرآن الكريم والسنة النبوية أسلوبًا ومبدأً إلى أنْ تفارق أرواحُنا أجسادَنا.